يواجه الكثير من العرب، وحتى من اللبنانيين أنفسهم، صعوبات في فهم طبيعة النظام السياسي اللبناني. البعض يصفه بأنه بقعة ديمقراطية في صحراء من الاستبداد العربي، بينما يصفه البعض الآخر بأنه تجمّع لطوائف تكره بعضها البعض.
عندما يحاول أحدهم وصف لبنان تظهر المفارقات. رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سليم الحص وصفه بأنه بلد "فيه الكثير من الحرية وقليل من الديمقراطية". كان قد سبقه أحد الباحثين الغربيين بقوله ما معناه أنه كلما تعرّف أكثر على لبنان أدرك أنه لا يعرف شيئاً. مصطلح "اللبننة" دخل معجم المصطلحات السياسية؛ بمعنى انقسام الشعب على أسس هويّاتية. إليكم مجموعة من الأسئلة والأجوبة تساعدكم على فهم طبيعة لبنان ونظامه السياسي.
لبنان كمعظم دول الشرق الأوسط هو دولة حديثة رسّمت حدودها سلطات الانتدابَيْن البريطاني والفرنسي. بشكله الحالي يعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1920. طبعاً، هناك تيارات إيديولوجية حاولت وصله بماضٍ قديم فقالت أنه استمرار للفينيقيين وهناك تيارات اعتبرته جزءً لا ينفصل عن العالم العربي الواسع... ولكن الحقائق التاريخية تتصدّى لكل هذه الطروحات.
في لبنان توجد 18 طائفة تعتبر ستٌّ منها أساسية، أي لها حضور سياسي هام، وهي الموارنة، الأرثوذكس، الكاثوليك، السنّة، الشيعة والدروز. تغيّرت التركيبة الديموغرافية للبنان كثيراً في العقود التي تلت تأسيسه. بعد أن كان عدد المسيحيين والمسلمين متقارباً، صار يمكن الحديث حالياً عن توزّع اللبنانيين مثالثة بين شيعة وسنّة ومسيحيين.
يراعي النظام السياسي اللبناني طبيعة المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف. بعد استقلاله عن الفرنسيين، عام 1943، نشأ عرفٌ يقضي بتولي مسيحي ماروني رئاسة الجمهورية، ومسلم شيعي رئاسة مجلس النواب، ومسلم سنّي رئاسة الحكومة.
تنص مقدمة الدستور على أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية". راعى دستور الجمهورية الأولى وضعَ الموارنة بشكل خاص والمسيحيين بشكل عام. رغم كون النظام السياسي برلمانياً، إلا أن الدستور منح رئيس الجمهورية سلطات واسعة ما دفع البعض إلى توصيفه بأنه نظام شبه رئاسي.
بين سنتي 1975 و1990 دارت حربٌ أهلية شرسة بين اللبنانيين. سقط عشرات الآلاف من الضحايا بين قتلى وجرحى. في البعد الداخلي من الحرب، طالب المسلمون بالحدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. استمرت الحرب إلى أن أقرّ النواب اللبنانيون "وثيقة الوفاق الوطني" في مدينة الطائف السعودية، وعدّلوا الدستور على أساسها. صحح الاتفاق الجديد الخلل بين الميزان الديموغرافي والسلطة السياسية دون أن ينص على تعديلات في جوهر النظام الطائفي. سحب معظم الصلاحيات التنفيذية من يد رئيس الجمهورية ووضعها في يد مجلس الوزراء الذي تتمثل فيه كل الطوائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين ووزّع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بعد أن كانوا يتوزّعون بنسبة 6 مسيحيين مقابل كل 5 مسلمين.
بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والأحداث التي أعقبته، انقسمت القوى السياسية عامودياً بين تحالفين رئيسيين: قوى 14 آذار بقيادة تيار المستقبل السنّي وقوى 8 آذار بقيادة حزب الله الشيعي. نجح الفريق الأول في الانتخابات النيابية التي جرت عام 2009 ولكن طبيعة النظام السياسي التوافقي وتهديد حزب الله، في مناسبات متعدّدة، بنقل الصراع إلى الشارع، منعته من حكم لبنان كما يريد. يطالب الفريق الأول بتسليم حزب الله لسلاحه، بينما يؤيد الفريق الثاني بقاء هذا السلاح لردع إسرائيل.
إلى تيار المستقبل، برئاسة النائب سعد الحريري، وحزب الله، بقيادة السيد حسن نصر الله، هناك القوات اللبنانية التي يرأسها سمير جعجع وهي متحالفة مع المستقبل، التيار الوطني الحرّ الذي يرأسه النائب ميشال عون وهو متحالف مع حزب الله. كلا الحزبين المسيحيين بقيادة مارونية. كذلك هناك حركة أمل الشيعية التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهي متماهية في السياسة مع حزب الله. هناك أيضاً الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه النائب وليد جنبلاط وهو حالياً، بعد خروجه من تحالف 14 آذار يلعب دور بيضة القبّان بين الطرفين. كذلك هناك قيادات عدّة ذات نفوذ مناطقي محدود.
لطالما تأثر لبنان بالوضع الإقليمي. على سبيل المثال، انعكس الصراع بين الناصرية وحلف بغداد (وكلاء الصراع السوفياتي الأميركي آنذاك) على لبنان، عام 1958، حرباً أهلية صغيرة تمّ وضع حدّ سريع لها. وعندما قرّر العرب منع العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقاً من أراضيهم تواطأوا على لبنان وجعلوه منطلقاً وحيداً للعمليات العسكرية ضد إسرائيل. عانى لبنان من هذا الضغط وانقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض وكان هذا من العوامل التي أدت إلى حربهم الأهلية. الآن، لا يزال تأثير السياسات الإقليمية على لبنان مستمراً.
نتيجة لانطلاق العمل الفدائي من لبنان، تلقى اللبنانيون ضربات إسرائيلية انتقامية عدّة وشهد لبنان اجتياحين كبيرين، أولهما سنة 1978 وثانيهما عام 1982 حين وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت. انسحبت إسرائيل من المناطق التي احتلتها تدريجياً، ولم تكمل انسحابها إلا عام 2000 وهي الآن لا تزال تحتل جزءً صغيراً منه هو مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. بعد العام 2000، راحت المقاومة الإسلامية تراكم عوامل قوة جديدة ما أدى، سنة 2006، إلى شنّ إسرائيل عدواناً استمر 33 يوماً وانتهى بصدور قرار دولي حمل الرقم 1701.
كان لـ"سوريا الأسد"، أطماع في هذا البلد الصغير. تدخلت في حرب أبنائه الأهلية منذ العام 1976. بدلاً من أن يساعد النظام السوري اللبنانيين عمّق الخلافات بينهم وصار يغيّر حلفاءه بالشكل الذي يضمن له استدامة الحرب المضبوطة واستمرار هيمنته. حين انتهت الحرب، بقي الجيش السوري في لبنان بحجة الدفاع المشترك ضد إسرائيل وكان النظام السوري يتدخل في كل تفاصيل الحياة السياسية. تأخر انسحاب الجيش السوري حتى العام 2005، وتمّ تحت ضغط دولي كبير.
مع نهاية الحرب الأهلية، انتصر "الخط السوري" وتكرّس بإقصاء خصومه السياسيين (نفي الجنرال ميشال عون إلى فرنسا وسجن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع). بعد الانسحاب السوري عاد الأول وصدر عفو عن الثاني. استمر النفوذ السوري عبر حلفاء سوريا السابقين، خاصة عبر حزب الله وحركة أمل، ولكن انتقل بعض هؤلاء إلى موقع معارضته وخاصة تيار المستقبل.
حالياً، يقع لبنان تحت ثلاثة قرارات دولية. الأول هو القرار 1559 (عام 2005) والذي يطلب من الدولة بسط سلطتها على كافة أراضيها؛ الثاني 1701 (عام 2006) ويمنع انتشار حزب الله جنوب نهر الليطاني، أي على المقربة من حدود لبنان مع إسرائيل، والثالث 1757 (عام 2007) وينشئ محكمة دولية خاصة للتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والجرائم المرتبطة بها.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، نصّت "وثيقة الوفاق الوطني" على حلّ الميليشيات. حلت الميليشيات ظاهرياً وبقيت "المقاومة"، أي، عملياً، حزب الله. في الحقيقة لم تسلم الميليشيات كل أسلحتها للدولة، ولذلك لا يزال السلاح الخفيف منتشراً في بيوت معظم اللبنانيين وبعض القوى السياسية تمتلك أسلحة متوسطة. أما حزب الله فقد بنى منظومة عسكرية تفوق بقدراتها المنظومة الرسمية، وأنشأ حالة يصفها البعض بأنها "دولة داخل الدولة". كذلك تحتفظ الفصائل الفلسطينية بسلاحها داخل مخيمات اللجوء وفي بعض المواقع الأخرى.
أوقفتها، ولكنها لم تعالج أسبابها. هي فقط أدخلت التوازنات الجديدة في صلب المؤسسات السياسية. بعد انتهاء الحرب، أصدر المجلس النيابي عفواً عن الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية، فصار قادة الميليشيات زعماء سياسيين. قرّر اللبنانيون طوي صفحة الحرب دون قراءتها.
بالتأكيد. في لبنان مقولة تعتبر أن الأمن في لبنان هو سياسي وذلك بسبب توليد الأزمات السياسية الداخلية والأزمات الإقليمية لتوترات أمنية. عام 2007، شنّ حزب الله عملية عسكرية أمنية كان هدفه منها منع خصومه من تبنّي سياسات رسمية تضعفه. عام 2008، شنّ الجيش اللبناني حملة عسكرية قضت على تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي الذي كان يتمركز في مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان. ومؤخراً، كانت تندلع جولات عنف في مدينة طرابلس بين العلويين المؤيدين للنظام السوري والسنّة المعارضين له، واستمرت حتى قرر مجلس الوزراء تطبيق خطة أمنية شاملة.
إضافة إلى استدراج بعض جماعات القاعدة إلى لبنان وتنفيذها عمليات انتحارية، فاقم تدخّل حزب الله في الحرب السورية من حدّة الانقسام السياسي بين القوى المتصارعة. تعطّلت استحقاقات دستورية عدّة. تشكيل آخر حكومتين مرّ بمخاض عسير. لم ينجح النواب في الاتفاق على قانون انتخابي جديد، رغم رفضهم جميعاً للقانون الساري، فكان أن مددوا لأنفسهم سنة و5 أشهر.
الشعب لا يريد تغيير النظام، لأن ولاء معظم اللبنانيين السياسي قائم على أساس طائفي ثابت، ولا وجود فعّالاً للقوى المدنية العابرة للطوائف. في بلاد الأرز، يحلّ مفهوم حقوق الطوائف وكرامتها مكان مفاهيم حقوق المواطن الفرد وكرامته. سيكون اللبناني مسروراً لو شعر بأن طائفته قوية، حتى ولو كان يعاني، على الصعيد الفردي، من كل أزمات العالم.
يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة. بعد الحرب، تم تبنّي سياسات نيوليبرالية أرادت تركيز الاقتصاد على قطاع الخدمات والسياحة وهو قطاع حساس جداً يتأثر بأيّ لااستقرار أمني. تم إهمال قطاعي الصناعة والزراعة، لا بل أن السياسات التجارية للدولة أنهكت المزارعين وراحت تسبّب لهم الخسائر بسبب ارتفاع كلفة إنتاجهم. هذا عدا عن تفشي الفساد في مؤسسات الدولة. يعيش لبنان، الذي فاق دينه العام 64 مليار دولار، على اقتصاد تصعب دراسته، قوامُه التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون إلى أقربائهم والمال السياسي الذي يتدفّق من قوى إقليمية على الأحزاب اللبنانية. حديثاً، فاقم اللجوء السوري الكثيف إلى لبنان من حدّة الأزمة الاقتصادية وانعكس تضخماً، خاصة على أسعار وإيجارات الشقق السكنية، وزيادة في معدّل البطالة.
منذ حوالى سنتين بدأ الحديث عن ثورة لبنان النفطية. تقدّر قيمة هذه الثروة بـ140 مليار دولار، ولكن تعيق إخراجها الخلافات السياسية الداخلية والخلاف مع إسرائيل على تحديد حدود لبنان البحرية. يأمل البعض أن يؤدي استخراج هذه الثروة إلى تحسين وضع اللبنانيين، بينما يخشى آخرون من تبدّدها إن لم تترافق مع خطة إصلاحية ورؤية اقتصادية واضحة لكيفية استثمارها.
تم نشر هذا المقال على الموقع في تاريخ 29.04.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...