يشكّل المغرب للمتابع العربي نقطة غموض كبيرة، خاصةً فيما يتعلق بالوضع السياسي في البلاد وطبيعة النظام القائم فيه. فإذا كان الانطباع السائد عند عموم العرب هو أن المغرب جنة الديمقراطية التي تكوّن استثناء في المنطقة كلها، فإن هذه الصورة النمطية الرائجة تخفي في الحقيقة وضعاً سياسياً معقداً. يتّسم الوضع السياسي في المغرب باستمرار النظام على طبيعته "الاستبدادية" وبتركّز السلطات كافةً في يد المؤسسة الملكية، حتى بعد إقرار التعديلات الدستورية لسنة 2011، والتي أعلنها الملك محمد السادس إثر خطاب شهير في 9 مارس 2011، أياماً قليلة بعد أول تظاهرة لحركة 20 فبراير التي دعت إلى إسقاط الفساد والاستبداد وإنهاء احتكار القصر جميع السلطات. لعل أكثر الأوصاف تعبيراً عن طبيعة النظام المغربي هي تلك أطلقها مسؤول أمريكي حين قال "إن المغرب ليس ملكية دستورية، وإنما ملكية مع دستور".
يذكر التاريخ الرسمي المغربي أن 18 نوفبر من عام 1955 هو التاريخ الرسمي لاستقلال المغرب عن الحماية الفرنسية التي بدأت عام 1912 بموجب المعاهدة التي وقعها السلطان العلوي مولاي عبد الحفيظ مع الفرنسيين بمدينة فاس. 18 نوفبر 1955 هو تاريخ الخطاب الذي ألقاه السلطان محمد الخامس بعد عودته من المنفى وأعلن فيه بزوغ عهد الاستقلال، وهو التاريخ الذي أقرّه الملك الحسن الثاني تاريخاً للاحتفال بعيد الاستقلال. لكن المغرب لم يكمل استقلاله الحقيقي إلا في 2 مارس عام 1956، عندما وقّعت الحكومة الائتلافية المغربية بقيادة امبارك البكاي معاهدة إلغاء الحماية.
يعرف دستور سنة 2011 نظام الحكم في المغرب بأنه نظام ملكية دستورية، ديمقراطية وبرلمانية واجتماعية، تقوم على أساس فصل السلطات، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطِنة والتشاركية، وعلى مبادىء الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
تطلق لفظة المخزن في المغرب منذ القديم تعبيراً عن أجهزة الحكم منذ عهد الدولة الإدريسية، أي الإدارة التي باشر بها سلاطين المغرب الحكم. ترتبط بالمخزن كل الفئات الاجتماعية ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي، وفي عهد الدولة العلوية (العائلة الحاكمة في المغرب)، نشأت دولة المخزن، إذ تحول المخزن إلى سلطة سياسية واقتصادية وإدارية وروحية وأمنية واجتماعية وثقافية، تقوم على أساس الولاءات القبلية والعشائرية.
بالنسبة إلى كثير من المعارضين فإن هذا النظام بقي مستمراً في القرن الـ21 بالمنطق الماضي نفسه، فلا تزال الدولة، برغم إظهارها وجهاً حداثياً، تشتغل كبنية سلطوية تقليدية تعمل لمصلحة أقلية أرستقراطية ونافذة ومتحالفة مع لوبيات المال. لذا فإن أبرز شعار رفع خلال تظاهرات حركة 20 فبراير كان "الشعب يريد إسقاط المخزن".
لم يختلف الوضع في المغرب قبل دستور 2011 كثيراً عما كانت تعرفه عدد من الدول التي طالها الربيع العربي. اتسمت الحياة السياسية الحزبية المغربية بعودة النزعة التحكمية من أطراف داخل الدولة سعت إلى ترجيح كفّة حزب الأصالة والمعاصرة الذي أنشأه صديق الملك ومستشاره الحالي فؤاد عالي الهمة. اتهمت الدولة بمحاولة استنساخ المشهد التونسي في عهد بنعلي بخلق نظام حزب السلطة الوحيد، غير أنّ الحراك الذي عرفه المغرب (تظاهرات 20 فبراير 2011) جعل المشروع يفشل.
برغم أن الدستور السادس للمملكة يقدمها رسمياً كملكية دستورية حقيقية، فإنّ كثيرين يعتقدون أن الوثيقة الدستورية الجديدة لا تعكس أي تغيّر عميق في بنية نظام الحكم القائم، وأن مقوّمات الملكية الدستورية الحقيقية (تسمّى الملكية البرلمانية أيضاً) لا تتحقق فيها، وأن ما منحته الملكية باليد اليمنى من صلاحيات للحكومة أخذته باليد اليسرى بشكل يجعل توزيع السلطات مجرّد شعار لا غير.
لم تحوّل الهندسة الدستورية الجديدة الدولة إلى ملكية برلمانية ديمقراطية، كما طالب قطاع كبير من النخبة السياسية المغربية. احتفظت الملكية بالوضع نفسه الذي كان لديها في الدساتير السابقة، أي أنها استمرت مؤسسةً حاكمة وحاضرة بقوة في المجال السياسي وحافظ الملك على أهم الاختصاصات، برغم إقرار مبادىء وقواعد جديدة لتعزيز السلطة التشريعية ودور رئيس الحكومة.
احتفظ الملك برئاسة المجلس الوزاري الذي يتولى التداول في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، ومشاريع القوانين التنظيمية، والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية، ومشروع قانون العفو العام، ومشاريع القانون المتعلقة بالمجال العسكري، واحتفظ الملك كذلك بالحق في حلّ غرفتي البرلمان والحق في الإعلان عن حالة الاستثناء، كما يترأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الأعلى للأمن وقيادة القوات المسلحة، فضلاً عن اعتماده للقناصل والسفراء.
اعتبر الفصل الخامس من الدستور المغربي الحكومة "سلطة تنفيذية"، ما يعني أن الوثيقة الدستورية تقرّ بنوع من الثنائية في السلطة التنفيذية بين الملكية والحكومة. وهو الخطاب الذي قدم به حزب العدالة والتنمية الإسلامي بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية، حينما روّج لاقتسام السلطة بين الحكومة والملك. غير أن أيام التجربة الحكومية أكدت عكس ذلك، إذ استمرّ نفوذ المؤسسة الملكية وسيطرتها على القرارات الاستراتيجية في مقابل دور هامشي للحكومة.
فضلاً عن تغيير تسمية "الوزير الأول" بـ"رئيس الحكومة"، أصبح رئيس الحكومة بقوة الدستور منبثقاً من الأغلبية الفائزة في الانتخابات. حصر الفصل 92 من الدستور كذلك ميادين العمل الحكومي في 11 بنداً، أبرزها التداول في قضايا: السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري، السياسات العمومية، السياسات القطاعية، تعيين مديري الإدارات المركزية والإدارات العمومية ورؤساء الجامعات، والمدارس العليا. كما أنيطت بالحكومة اختصاصات التداول في: مشاريع ومراسيم القوانين قبل عرضها على المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك.
قدّم حزب العدالة والتنمية الإسلامي المغربي نفسه كأقوى قوة برلمانية في البلاد خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، غير أنه برغم هذا الاكتساح، فلم يكن ممكناً لحزب بنكيران أن يشكّل الأغلبية وحده، لأن طبيعة النظام الانتخابي المغربي وتقسيم الدوائر الانتخابية لا تسمح بذلك، وهو الحال الذي ظل عليه المشهد السياسي المغربي منذ أربعة عقود، فلم يكن ممكناً طوال تلك الفترة التمييز بين قوتين واضحتين إيديولوجياً تتنازعان على السلطة التنفيذية.
اضطر الإسلاميون للبحث عن توافقات مع كتل سياسية أخرى لتشكيل الحكومة، إذ تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب التقدم والاشتراكية اليساري ذي الماضي الشيوعي، وحزب الاستقلال اليميني أحد أقطاب الحركة الوطنية في المغرب بالإضافة إلى حزب الحركة الشعبية. بدا واضحاً غياب الانسجام في هذه التركيبة الحكومية منذ الأشهر الأولى عندما وجهت بقية مكونات الأغلبية اتهامات لوزراء حزب العدالة والتنمية بمحاولة احتكار القرار الحكومي وعدم التشاور مع باقي المكونات. انتهى الأمر إلى إعلان حزب الاستقلال انسحابه من الحكومة وسحب وزرائه منها.
حيال هذا المأزق، وجد الإسلاميون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يعلن بنكيران تقديم استقالته أو أن يرمم أغلبيته الحكومية بالتحالف مع ألد أعداء الأمس، وهو حزب التجمع الوطني للأحرار المقرب من السلطة. اختار الإسلاميون في نهاية المطاف الاستمرار في التجربة الحكومية وقبلوا على مضض وضع أيديهم مع من كانوا يصفونهم بـ"الفاسدين" قبل مدة غير بعيدة. وبينما استمر حزبا التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية كحلفين، حملت النسخة الثانية من حكومة بنكيران عودة فاعل جديد هو "الوزراء اللامنتمون" أو "التكنوقراط".
احتفظ الدستور الجديد بنظام الثنائية المجلسية، حيث يتكون البرلمان المغربي من مجلس النواب ومجلس المستشارين، واحتفظ البرلمان المغربي باختصاصاته التقليدية وهي التشريع ومراقبة عمل الحكومة، وأضيف إليه اختصاص تقييم السياسات العمومية. منح الدستورُ البرلمانَ الصفة التشريعية، أي مناقشة وإقرار أو رفض مشاريع القوانين التنظيمية التي تقدمها الحكومة، غير أن مناقشة وعرض هذه القوانين التي يتضمنها المخطط التشريعي الحكومي تعرف بطئاً شديداً لا يحترم الأجندة التي سبق أن أعلنتها الحكومة.
وجب التمييز في المغرب بين معارضة تعارض الحكومة، ومعارضة تعارض النظام القائم وسياساته، فإذا كانت حكومة الإسلاميين تحظى بمعارضة برلمانية متنوعة من اليسار إلى اليمين، فإن سياسات المؤسسة الملكية تحظى هي الأخرى بمعارضة غير مؤسساتية موزعة بين يسار وإسلاميين.
تجد حكومة الإسلاميين معارضة من حزبي الاتحاد الاشتراكي اليساري العريق (واحد من أكبر الأحزاب المعارضة في المغرب في عهد الحسن الثاني) وحزب الاستقلال حليف الأمس في النسخة الأولى من الحكومة، بالإضافة إلى حزب الأصالة والمعاصرة المقرب من السلطة. تحاول المعارضة البرلمانية الاستفادة من الوضع الدستوري الاعتباري الذي خوّلها صلاحيات أكبر في ممارسة الرقابة وفي رئاسة اللجان النيابية، والحق في الاستشارة المسبقة من جانب الحكومة في القوانين المتعلقة بالاختيارات الكبرى، لكن هامش تحرك هذه المعارضة يبقى محدوداً.
فضلاً عن المعارضة البرلمانية تجد سياسات الحكومة معارضة من خارج المؤسسات وهي معارضة تمثلها المكوّنات المختلفة التي خرجت في تظاهرات حركة 20 فبراير والتي قاطعت معظمها الاستحقاقات الدستورية والانتخابية الأخيرة. بينها نجد اليسار الراديكالي، المنقسم بدوره إلى تيارات مختلفة في وجهات النظر، وحزب النهج الديمقراطي ذو العقيدة الماركسية الذي لا يزال يرفض الاعتراف بشرعية النظام الملكي القائم. إلى جانبه نجد حزبين يساريين آخرين يعتبران الانتقال الديمقراطي رهيناً بملكية دستورية حقيقية شبيهة بتلك الموجودة في اسبانيا أو انجلترا: حزب الاشتراكي الموحد (تحالف لعدد من المجموعات اليسارية المستقلة) وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وإلى جانبهما حزب المؤتمر الوطني الاتحادي. شكلت الأحزاب الثلاثة الأخيرة تحالفاً أطلقت عليه اسم "فيدرالية اليسار الديمقراطي"، غير أن هذه التيارات تفتقد الامتداد الشعبي في الشارع ما يجعل حركيتها جد ضعيفة وغير مؤثرة.
كما نجد إسلاميي جماعة العدل والإحسان الصوفية، وهي تتوفر على قواعد تقدر بالآلاف من المنتمين والمتعاطفين، ويعتبرها المراقبون القوة المعارضة الأولى للنظام من حيث العدد والتنظيم والفعالية. لعبت الجماعة التي فقدت في السنة الماضية مؤسسها عبد السلام ياسين دوراً مهماً في تظاهرات 20 فبراير قبل أن تعلن انسحابها بعد سنة من الحراك بسبب عدم جدواه. تعدّ الجماعة أن بنية النظام الحاكم مستبدة وترفض المشاركة في المؤسسات القائمة، ووجهت الجماعة انتقادات لاذعة للتجربة الحكومية التي يقودها إسلاميو العدالة والتنمية.
حاول الملك محمد السادس لدى وصوله إلى العرش إظهار وجه مختلف عن والده، والترويج لاستعداده لطي صفحة الماضي الأليمة (لإعلان عن تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة)، والمساهمة في الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون. هكذا جرى الترويج لمفاهيم وصور اعتبارية من قبيل "العهد الجديد" و"النموذج المغربي" و"الملكية المواطنة" وغيرها من المصطلحات التي أبدعتها الآلة الدعائية للنظام المغربي، فإذا كان الإعلام الرسمي المغربي في عهد الملك الراحل قد ابتكر عبارات فريدة من نوعها من قبيل "الديمقراطية الحسنية" حينما تمثل الديمقراطية كمفهوم في شخص الحسن الثاني، فإنه أوجد للملك الجديد عبارات أفضل.
قوس الانفتاح الذي فتح في بداية عهد محمد السادس سرعان ما أغلق بسرعة، وعادت الأمور تدريجاً إلى نصابها. عادت اللعبة السياسية إلى ما كانت عليه وعاد التضييق على حرية الرأي والصحافة إلى سابق عهده.
تعامل النظام المغربي بذكاء مع الربيع العربي، حينما سارع إلى محاولة احتواء الاحتجاجات التي انطلقت في 20 فبراير 2011 بتوجيه الملك خطاباً إلى الشعب معلناً فيه تعديلات دستورية، وبالاعتراف الضمني من وسائل الإعلام الرسمية بعدالة مطالب الشارع. بغض النظر عن سطحية هذه التعديلات، فإن هامش الحريات التي أملته ظروف الحراك في كل المنطقة سرعان ما تقلص بعد أن انتهى الربيع إلى مآلات سيئة في عدد من الدول كسوريا وليبيا. سجل تصاعد عدد اعتقالات الناشطين السياسيين المعارضين بعد المصادقة على الدستور الجديد (آخرها مجموعة تظاهرة 6 أبريل).
في الوقت نفسه، نجح المغرب في الترويج لمقولة "الاستثناء المغربي" التي تنطلق من كون المغرب مختلفاً عن البلدان التي عرفت انتفاضات شعبية. تذهب هذه النظرية أبعد من ذلك حينما تقول إن التغيير الثوري جاء من الملك وليس من الشارع مقللة من أهمية الحراك الذي عرفه الشارع المغربي.
لا تزال العلاقة بين المغرب والجزائر متسمة بالتوتر على المستوى السياسي، إذ يشكّل نزاع "الصحراء الغربية" عصب الخلاف المغربي الجزائري الممتد منذ استقلال الجزائر، حين اندلعت حرب الرمال بين البلدين سنة 1963 انتهت بفوز عسكري مغربي كاسح. استمر التوتر إلى أن أعلن الرئيس الجزائري الهواري بومدين دعم البوليساريو (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب) مادياً وعسكرياً. لا تزال العلاقة بين الحكمين موسومة بالتشنج وتبادل الاتهامات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت