"في مطلع التاريخ، لاح فجر الضمير الإنساني وتجلى في قلوب أجدادنا العظام فاتّحدت إرادتهم الخيرة، وأسسوا أول دولة مركزية، ضبطت ونظمّت حياة المصريين على ضفاف النيل، وأبدعوا أروع آيات الحضارة، وتطلّعت قلوبهم إلى السماء قبل أن تعرف الأرض الأديان السماوية الثلاثة"، هذا غيض من فيض أوصاف مصر كما جاء في مقدمة الدستور المصري. في هذا الدليل المبسّط سنتجاوز تعقيدات الأوصاف لتعريف القارئ على الحياة السياسية المصرية.
ككل البلاد العربية تعاقبت على مصر مجموعة من الحضارات. ولكن مصر الحديثة نشأت مع حكم محمد علي باشا الذي أنشأ، في بداية القرن التاسع عشر، دولة شبه مستقلة عن السلطنة العثمانية. بنى محمد علي جيشاً قوياً وقام بمجموعة من الإصلاحات الزراعية والمشاريع المائية وأدخل الصناعة إلى الاقتصاد المصري كما أرسل بعثات تعليمية إلى أوروبا. ارتباط مصر بالغرب أثار حفيظة بعض المصريين خلال فترة حكم أولاد محمد علي فظهرت الحركة الوطنية بقيادة أحمد عرابي ما دفع بالبريطانيين إلى احتلال "هبة النيل". رسمياً لم تنفصل مصر عن السلطنة العثمانية إلا عام 1914 حين أعلنت بريطانيا الحماية عليها. ثم، بعد فترة من النضال ضد الإنكليز كان نجمها الزعيم سعد زعلول، منحت مصر استقلالها عام 1922 وصدر أول دستور مصري بعد ذلك بسنة، ولكن خروج آخر جندي انكليزي من مصر تأخر حتى 19 أكتوبر 1954.
يعتبر البعض أن نزول المصريين إلى الساحات، في 25 يناير 2011، مطالبين باستقالة الرئيس حسني مبارك كان أول مشاركة فعلية للمصريين في تقرير مصيرهم. قبل هذا التاريخ كانت معظم مشاركات المصريين الكثيفة في التجمعات السياسية الجماهيرية تأتي استجابةً لطلب الحكام أو تمسكاً بحاكم معيّن لا للمطالبة بالتغيير. في هذا التاريخ، خرج الملايين إلى الساحات مطالبين بالحرية وبالكرامة الإنسانية وبسقوط نظام كان ينهشه الفساد، فصار 25 يناير يعني للمصريين قدرتهم على التحكّم بمصيرهم.
بعد أقل من ثلاثة أسابيع على بدء الثورة المصرية، وبالتحديد في 11 فبراير 2011، أعلن الرئيس محمد حسني مبارك تنحّيه عن الرئاسة وكلّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة تسيير شؤون البلاد. كان المصريون قد بدأوا يهتفون مع الجنود، منذ 28 يناير: "الشعب والجيش إيد واحدة". فترة الترابط بين الشعب والجيش لم تستمر طويلاً. بدأت معالم الخلاف تظهر خاصة بعد قمع الجيش للمتظاهرين في أحداث محمد محمود. تحول الشعار السابق إلى: "يسقط يسقط حكم العسكر".
أشرف المجلس العسكري على مرحلة انتقالية أفضت إلى فوز الإخوان المسلمين بمعظم مقاعد مجلسي الشعب والشورى. ثم جرت انتخابات رئاسية تعددية فاز، في جولتها الثانية، حاصداً 51،7% من الأصوات، مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي على أحمد شفيق الذي اعتبر مرشحاً للنظام القديم.
هكذا وصلت هذه الجماعة المنظمة التي أسسها حسن البنّا، عام 1928، لأول مرة في تاريخها إلى السلطة بعد عقود طويلة عانت خلالها من قمع السلطات المصرية.
نجح الإخوان المسلمون في تحقيق نتائج باهرة في الانتخابات التشريعية والرئاسية وأثبتوا حضورهم القوي على الساحة المصرية. ولكن ما إن وصلوا إلى الحكم، حتى بدأوا بممارسة سياسات اعتبرها البعض محاولات لأخونة الدولة. أظهرت السلطة الجديدة نوعاً من التعالي على المواطنين واعتمدت الأساليب القمعية للنظام السابق كما في "أحداث الاتحادية"، حين تمّ الاعتداء على معارضين لإعلان دستوري أعلنه الرئيس مرسي. افترق حزب النور السلفي عن الإخوان وتشكلت "جبهة الإنقاذ الوطني" التي جمعت عدداً من الأحزاب والشخصيات السياسية بهدف التصدي لهيمنة الإخوان. هذه العوامل، إضافة إلى فشل الإخوان في تحسين أوضاع المصريين الاقتصادية، ولّدت شعوراً بالامتعاض عملت المؤسسة المؤسسة العسكرية على تغذيته بسبب التنافس على السلطة بينها وبين العهد الجديد.
في 30 يونيو 2013، خرجت تظاهرات حاشدة ضد الرئيس محمد مرسي. برزت في مرحلة التحضيرات لهذه التظاهرة "حملة تمرّد" راحت تجمع تواقيع مواطنين على عريضة تدعو إلى سحب الثقة منه. شهد الشارع المصري ميلاً واضحاً إلى الرغبة في التخلّص من حكم الإخوان، فاستغل وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي هذا المناخ العام وعزلت القوات المسلحة، بقيادته، الرئيس المنتخب. عُيّن رئيس المحكمة الدستورية العليا عدلي منصور رئيساً لإدارة مرحلة انتقالية جديدة حددتها "خارطة طريق" وضعها الجيش بالاتفاق مع قيادات دينية وسياسية.
رفض أنصار الإخوان ما اعتبروه "انقلاباً سياسياً" وتظاهروا ضد الوضع المستجدّ ووقعت مواجهات كثيرة بينهم وبين قوى الأمن ومعارضي الإخوان. في هذه المرحلة، دعا السيسي المصريين إلى النزول إلى "مليونية لا للإرهاب" فاستجابوا له في 26 يوليو 2013. على اللافتات التي رفعوها كتب المتظاهرون: "الشعب يفوّض السيسي والجيش القضاء على الإرهابيين". الأهم من هذه اللافتات كان "غزو" صور الفريق أول عبد الفتاح السيسي للتظاهرة وتحليق طوافات الأباتشي، على علو منخفض، فوق الحشود وإلقائها عليهم أعلاماً مصرية. تحوّل السيسي إلى بطل شعبي في نظر الجماهير.
في المرحلة الانتقالية التي أعقبت عزل الرئيس مرسي، كان على السلطة أن تنفذ خارطة الطريق التي تقضي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، انتخابات برلمانية، تعديل الدستور. تم تعديل الدستور وانتخب السيسي رئيساً لمصر وتأجّل إجراء الانتخابات البرلمانية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. ولكن، إلى هذه الخطوات، حصلت أمور عدّة مهّدت لقدوم السيسي: في 14 أغسطس 2013، نفّذ الجيش المصري بالتعاون مع الشرطة عملية عسكرية دامت عشر ساعات وأفضت إلى فضّ اعتصامَي الإخوان المسلمين في محيط مسجد رابعة العدوية في مدينة نصر وميدان النهضة في الجيزة موقعةً مئات القتلى وآلاف الجرحى.
كذلك أصدرت "محكمة القاهرة للأمور المستعجلة" حكماً قضى بـ"حظر أنشطة تنظيم الإخوان المسلمين والتحفظ على أمواله". كما صدر قانون تنظيم التظاهر الذي قضى على أهم مكاسب ثورة 25 يناير، فالقانون المذكور يمنع قيام أي تجمّع في الشارع قبل الحصول على ترخيص. هكذا قامت السلطة بمجموعة خطوات أراد وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي أن تتخذ قبل وصوله إلى سدّة الرئاسة.
أبشع وأخطر ما قام به الإخوان المسلمون كان، بلا شك، اندفاع مؤيدي الإخوان المسلمين وأطراف إسلامية أخرى، بعد فضّ الاعتصامين، إلى الثأر من المسيحيين. اعتداءات كثيرة شملت كنائس وأديرة ومؤسسات مسيحية في مناطق عدّة وأحرقت مؤسسات خاصة تعود ملكيتها لمصريين أقباط. حمّل أنصار الإخوان المسلمين طائفة مصرية تبعات قرار البابا تواضروس الظهور بين المتحلقين حول الفريق السيسي برغم أنه ظهر إلى جانب الشيح أحمد الطيّب ومسلمين آخرين.
بعد عزل مرسي، تشكّل ما يعرف بـ"التحالف الوطني لدعم الشرعية" من قوى إسلامية وشخصيات مؤيدة للإخوان ورافضة لعزل مرسي. انقسم المصريون بين التحالف وبين مؤيدي "خارطة الطريق".
عندما فضّ الجيش اعتصامَي رابعة العدوية والنهضة، استقال محمد برادعي، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية آنذاك، من منصبه. اعتبر أن "الأمور سارت في اتجاه مخالف، فقد وصلنا إلى حالة من الاستقطاب أشد قسوة وحالة من الانقسام أكثر خطورة، وأصبح النسيج المجتمعي مهدداً بالتمزق لأن العنف لا يولد إلا العنف". عبّر برادعي عن وجهة نظر شريحة مصرية لها حضورها وترفض في الوقت عينه هيمنة الإخوان وتحكم العسكر بالحياة السياسية. من هؤلاء "حركة 6 أبريل" ومنظمة "الاشتراكيين الثوريين" وإلى حد ما "حزب مصر القوية" برئاسة عبد المنعم أبو الفتوح.
في ما بعد، قرّر رئيس "التيار الشعبي المصري"، حمدين صباحي، الترشّح إلى الانتخابات الرئاسية في وجه السيسي. لا يمكن اعتبار هذا الترشح خروجاً على الاصطفاف العمودي الحاد. فصباحي ينظر إلى دور الإخوان المسلمين في السياسة الداخلية تماماً كالسيسي ولا يتميّز عنه إلّا في رفضه التضييق على حرية التظاهر وفي إيلائه العدالة الاجتماعية أهمية لافتة.
تحلُّق "الشعب" حول الجيش ما كان ليتمّ من دون شيطنة القوة التي انقلب عليها الجيش، أي الإخوان. راح البعض يصف الجماعة بأنها "جماعة شريرة" و"قوى الظلام والإرهاب". حين وقعت بعض الأعمال الإرهابية في مناطق مصرية مختلفة، وجهت السلطة أصابع الاتهام إلى الإخوان. أعلن مجلس الوزراء الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.
في مصر توجد جماعات إسلامية متعددة صغيرة الحجم تؤمن بالعنف سبيلاً إلى تحقيق أهدافها مثل "جماعة أنصار بيت المقدس" التي تبنّت معظم الهجمات. وربما ساهم تفكيك الإخوان كتنظيم وقطع الصلة بين القادة والأعضاء في دفع بعض أعضاء الجماعة إلى سلوك منحى العنف. التاريخ المصري الحديث شاهد على هذه الإمكانية. فبعد حلّ الجماعة، في الخمسينات، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أسس بعض شباب الجماعة تنظيماً سرّياً جهادياً. وفي ظل المسار القمعي الذي انتهجه الرئيس أنور السادات ضد الإخوان، بعد فترة من التقارب معهم، ظهرت جماعات كثيرة صغيرة تتبنّى العنف منهجاً واستمر عمل المجموعات الإسلامية العنفي حتى منتصف تسعينات القرن الماضي.
بما أن تنظيم الإخوان المسلمين يجد في قطر وتركيا أبرز حليفين له، دعمت السيسي دولٌ مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومجموعة الدول التي تخاف من تمدّد الإخوان. بعد عزل مرسي توترت العلاقات بين مصر وبين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي اللذين رفضا الحلّ غير الديمقراطي دون أن يصلا إلى إتهام الجيش المصري بالقيام بانقلاب. تقرّب السيسي من روسيا ونجح في تحويل الامتعاض الأميركي إلى نوع من السكوت عمّا حصل مدعوماً من اسرائيل التي ترى فيه شخصاً ملائماً للوفاء بالتزامات معاهدة كامب دايفيد.
حين أعلنت دولة إسرائيل، كان الجيش المصري أحد الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين لمحاربة اليهود. كبقية الجيوش، مُني الجيش المصري بهزيمة وانتشر حديث عن نقص في تزويد القوات المصرية التي عبرت الحدود بالذخيرة وحُمّل الملك فاروق، آخر الحكّام المتحدّرين من محمد علي باشا، مسؤولية الهزيمة. المشاعر السلبية التي أفرزتها "النكبة" ولّدت ظاهرة الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952. سياسات عبد الناصر الاستقلالية وتأميمه قناة السويس إضافة إلى تقاربه مع الاتحاد السوفياتي وشعاراته المعادية لإسرائيل دفعت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى شنّ "العدوان الثلاثي" على مصر، عام 1956، ولكن الثلاثي لم يحقق أيّ نتائج سياسية خاصةً أن أمريكا والاتحاد السوفياتي رفضا هذه الحرب.
استمر عبد الناصر في مهاجمة اسرائيل خطابياً وقال إنه يعدّ العدّة للتخلص من هزيمة 1948. استيقظت الحرب النائمة في 5 يونيو 1967 حين شنّت اسرائيل هجوماً خاطفاً على مصر فدمّرت أسطول طائراتها الحربية واحتلت سيناء. في هذه المرحلة، اندلعت حرب بين الطرفين سمّيت "حرب الاستنزاف" وكان الهدف منها تكبيد القوات الإسرائيلية خسائر دون الانجرار إلى حرب شاملة. ما بدأ في عهد عبد الناصر استمر في عهد الرئيس أنور السادات الذي خلفه عام 1970. وفي 6 أكتوبر 1973 هاجمت القوات المصرية بالتحالف مع القوات السورية الجيش الإسرائيلي المرابط في كل من سيناء والجولان السوري المحتل. حقق الهجوم نجاحاً عسكرياً وعبرت القوات المصرية قناة السويس. بعد هذه الحرب التي عدّلت نسبياً ميزان الصراع اندفعت مصر إلى سبيل التسوية فزار السادات اسرائيل عام 1977 ثم وقّع اتفاقية كامب دايفيد للسلام عام 1979 فحرر الأراضي المصرية المحتلة وفصل مصر عن "الصراع العربي الإسرائيلي".
بعد اغتيال السادات عام 1981، بقي الرئيس حسني مبارك متمسكاً باتفاقية السلام وكذلك فعلت السلطات التي تعاقبت على مصر بعد ثورة 25 يناير.
كثيرون حاولوا التسويق لفكرة أن السيسي هو عبد الناصر جديد. ولكن على عكس السيسي الذي لا يعرف سوى تخيّل مشاريع استثمارية كبيرة يقوم بها القطاع الخاص الأجنبي، كما سلفه مبارك، والذي رفع الدعم عن الكهرباء وبعض المواد الغذائية داعياً المصريين إلى التقشف، كان عبد الناصر قد تبنّى نظرة تنموية حقيقية لمصر فأقام السدّ العالي وعمل على تطوير الصناعة. وكان قد تبنّى مفهوم العدالة الاجتماعية فأصدر قانون الإصلاح الزراعي ووزّع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين. وعلى العكس من السيسي الذي لا يتحرّك أمام اعتداء اسرائيل على قطاع غزّة، كان عبد الناصر قد دعم حركات التحرر ووضع بصمة مصرية على العلاقات الدولية من خلال مساهمته الفعالة في نشوء حركة عدم الانحياز.
أبرز المحطات السياسية التي تنتظر مصر هي تتمة "خارطة الطريق" أي الانتخابات البرلمانية. صدر قانون الانتخابات متبنياً النظام الفردي لـ420 مقعداً، ونظام القائمة المطلق لـ120 مقعداً. يكاد يجمع المحللون على أن النظام الفردي سيفضي إلى وصول من يمتلك المال ويستطيع رشوة الناخبين إلى البرلمان. ومع السماح لـ"الفلول" بالترشح سيعود بعض هؤلاء إلى الحياة السياسية لتنتهي قصة ثورة من حيث بدأت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...