يصعب وضع أي اسم آخر في تاريخ الفن المصري من حيث الأيقونية بجوار اسم أم كلثوم، فالجمهور يراها أكبر من مجرد فنانة ومطربة، بل رمز وطني وجزء من تاريخ مصر الإبداعي والثقافي، وهي حالة ازدادت رسوخاً بعد رحيلها، على مدار عقود لم تنجح فيها أي مطربة في ملء المساحة عينها، ويراها كثير من المصريين بصفة عامة كعقود شهدت تراجع صر في الفن وفي مختلف المجالات.
الصورة الذهنية باختصار لدى ملايين المصريين بخصوص أم كلثوم هي أنها "مصر في أفضل حالاتها".
لهذه الأسباب أصبحت حياتها محوراً لمسلسلات وأفلام سابقة، ومحطة لفيلم جديد في 2025، والثابت أن تناول أيقونات سلاح ذو حدين دوماً. اللحظة التي يُقال فيها "فيلم عن أم كلثوم" كفيلة بإثارة اهتمام ملايين، وكفيلة أيضاً بخلق درجات عالية من الحساسية والحذر والترصد والشك. لا يمكنك كصانع أفلام أو فنان أن تحظى بميزات النصف الأول من المعادلة فقط، وأن تتفادى نصفها الثاني.
نتيجة ذلك، تزداد أهمية صناعة إعلان بشكل دقيق وفاعل، عندما تتعلق الأمور بشخصية في وزن أم كلثوم، فالإعلانات هي المحطة التي تترك الإنطباعات الأولى، واللحظة التي يحاول فيها صناع العمل تشويق الجمهور للمشاهدة، ويسأل فيها المتفرج نفسه: هل ما شاهدته للتو إعلان يبشر بعمل جيد يستحق اهتمامي ووقتي؟
وتالياً، إذا جمعنا كل المعطيات السابقة، فسيرتفع سقف التوقعات ويصبح السؤال هو: هل ما شاهدته للتو يبشر بعمل عظيم يليق بكوكب الشرق ويقدم ما هو أفضل من كل الأعمال السابقة عنها ويُشبع صورتنا الذهنية عنها؟
إعلان فيلم "الست"
كلها جزئيات لم يحققها الإعلان بالشكل المرجو لأسباب عدة:
1- مشاهد منى زكي
لا تتعلق الأمور باختلاف الشكل والتكوين الجسماني، لأن سجلات فن السينما مليئة بنجاحات في أفلام سيرة الشخصيات، لم يكن مفتاحها نهائياً التقارب الشكلي، لكن الأزمة جاءت بإخفاق المقاطع المختارة، في خلق الحد الأدنى من الترابط بين الممثلة والشخصية. لا توجد لحظة واحدة حميمية في الإعلان تُشعل فضول المتفرجين وتوحي أن منى زكي نجحت في الإمساك بروح أم كلثوم.
الأزمة ضمن أسبابها، قرار صناع الإعلان، تخصيص وقت أكبر مما يجب لاستعراض كل قائمة النجوم المشاركين، لأسباب تسويقية غالباً، بدلاً من التركيز على السؤال الرئيسي الأهم لدى المتفرج وطمأنته بإجابة حاسمة مضمونها: نعم ستصدق أن منى زكي هي أم كلثوم.
اللحظة التي يُقال فيها "فيلم عن أم كلثوم" كفيلة بإثارة اهتمام ملايين، وكفيلة أيضاً بخلق درجات عالية من الحساسية والحذر والترصد والشك
2- ملاحظات على الماكياج
في أفلام سيرة الشخصيات، يمكنك أن تنجح بتقارب شكلي كامل أو بدرجات أقل من التشابه، اذا نجح الممثل/الممثلة في اصطياد روح الشخصية أو سماتها السلوكية والحركية المميزة، لكن مقاطع عديدة في الإعلان توحي بمشكلة أخرى، وهي أن الماكياج لا يظهر الوجه بشكل طبيعي، وهي نقطة أوجدت تباعداً بين المشاهد والعمل، ونتج منها عشرات المنشورات الساخرة في السوشيال ميديا.

منى زكي في لقطات من الإعلان
3- غياب نقطة الجذب والتركيز
ينتقل الإعلان بين عشرات الجمل والمقاطع والشخصيات بشكل مُشتت دون أن يقدم في النهاية للمشاهد خيطاً ما واضحاً يجعله يثق بأن في الفيلم زاوية مختلفة أو شيئاً جديداً لا يعرفه عن أم كلثوم، ولم تتناوله الأعمال السابقة عنها./
قد تكون المقارنة مع إعلان ناجح لعمل من نفس النوع أفضل طريقة للشرح، مثال على ذلك، الإعلان لفيلم "أحلك ساعة" Darkest Hour الذي أُنتج في العام 2017.
الفيلم تدور أحداثه عام 1940، عن ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وهو يسعى لإعلان الحرب على هتلر والمانيا، واقناع أعضاء البرلمان والصحافة ودوائر سياسية عديدة داخل بريطانيا، أن هذا هو القرار الأصوب والضروري، أياً كان ثمنه الفادح المنتظر.
وقد أوصل الإعلان رسائل سريعة بالمقارنة:
1- إجابة شكوك المشاهد وطمأنته
اختيار المخضرم "غاري أولدمان" للبطولة، الذي بدا طوال الإعلان رائعاً في الدور، وقريباً من شخصية "ونستون تشرشل" الحقيقية، من حيث الشكل والصوت والسلوك ولغة الجسد.
2- تلبية الصورة الذهنية والجماهيرية عن الشخصية
ستشاهد "تشرشل" بكل قوته، وطِباعه الحادة، وطريقته الغريبة في السخرية، وكل ما تعرفه وتحبه بخصوصه.
3- الماكياج
ستصدق كمتفرج أنك تشاهد ونستون تشرشل طوال الفيلم وستندمج وتستمتع، ولن تشعر في أي ثانية، أنك تشاهد وجهاً غير طبيعي يمنعك من التواصل مع الأحداث.
4- نقطة تركيز واضحة
الفيلم عن أصعب وأهم وأخطر لحظة في حياة تشرشل، وربما في تاريخ بريطانيا وأوروبا والعالم ككل (إعلان الحرب على ألمانيا النازية).
بهذه الطريقة اختفت شكوك المشاهد وكل ما وعد به الإعلان تحقق في الفيلم النهائي فعلاً، وانتهى بنيله جائزتي أوسكار عن استحقاق (أفضل ممثل/غاري أولدمان - أفضل ماكياج).
لمعرفة درجة الإنجاز في الماكياج يكفي تأمُل درجة الاختلاف العالية بين ملامح أولدمان كممثل وملامح تشرشل، وملاحظة أن كل هذه الطبقات السميكة من الماكياج لم تعوق عضلات وجهه عن تقديم التعبيرات التي يحتاجها كممثل.

كواليس ماكياج غاري أولدمان
تنقلنا نقطة الماكياج، لسؤال يتردد كثيراً ضمن الجدل الحالي عن إعلان فيلم الست: هل يجب الاهتمام بالتقارب الشكلي لأقصى درجة في هذا النوع من الأعمال، من حيث اختيار الممثل/الممثلة ومحاولة مطابقته أكثر وأكثر بحيل الماكياج للشخصية الأصلية؟
لا توجد قواعد
اختار صناع فيلم "ستيف جوبز" Steve Jobs المعروض عام 2015 العكس، ولم يلجأ مخرجه "داني بويل" لاختيار أقرب ممثل من حيث الشكل أو لأي محاولات ماكياج مكثفة لتغيير ملامح وجة الممثل "مايكل فاسبندر" بحيث تُطابق ملامح إمبراطور شركة "أبل" الشهير.
رهان المخرج ببساطة كان: اذا قدمنا للمشاهدين العناصر الأيقونية المرتبطة بالشخصية مع ممثل موهوب يستطيع التوغل الى روح ستيف جوبز، سيندمج الجمهور ويتجاوز تماماً نقطة الشكل..

ستيف جوبز - مايكل فاسبندر
سِمات جوبز الشهيرة مثل طريقة الحديث السريعة، الطبيعة الحادة المتقلبة وأطقم الملابس المفضلة لديه، كلها عناصر اعتبرها الفيلم سلاحاً لننسى فارق الملامح، وبالفعل نجحت المغامرة مع "مايكل فاسبندر" ونتج منها ترشيح مستحق له لجائزة أوسكار أفضل ممثل.
بصياغة أخرى: المدارس الفنية عديدة، الاحتمالات لا حصر لها، وكل شيء يظل وارد بخصوص مستوى فيلم "الست" في النهاية عند طرحه فعلياً، لكن على الفنانين إدراك أن الجمهور غضب من الإعلان لأسباب منطقية، وأن تعلم بعض الدروس المستفادة من الموقف أفضل من التعامل مع رد فعل الجمهور بقدر من الاستعلاء وبردود من نوعية "اصمت حتى تشاهد الفيلم".
غرض الإعلانات هو إثارة الفضول وليس الرفض، وحان الوقت لمزيد من الاهتمام بهذا المجال الذي يجمع بين الفن والتسويق، وعلى عكس ما يردده فنانون كثيرون حالياً، لا توجد جريمة في محاولة استنتاج مزايا/عيوب فيلم بمجرد مشاهدة إعلانه، فالصحافة الاحترافية نفسها في الخارج، تقدم هذه التحليلات والتوقعات بانتظام مع إعلانات الأفلام.
على صعيد آخر، تهاجم شرائح أخرى الفيلم بالتأكيد لأسباب خارجة عن إعلانه المحبط، ويسهل ملاحظة دوافعها الحقيقية. البعض مثلاً يتربص بنجمته منى زكي، منذ تمردها على مرحلة الممثلة الرقيقة المحافظة التي بدأت مشوارها في ما سُمي وقتها بالسينما النظيفة، لتصبح مؤخراً بطلة مسلسلات وأفلام مثيرة للجدل من نوعية لعبة نيوتن، تحت الوصاية، أصحاب ولا أعز.
نتحدث عن شريحة جمهور لا تتردد في توجيه شتائم وسباب للنجمة، محورها "الكيلوت" من وحي مقطع حواري في فيلم "أصحاب ولا أعز"، ولا تتردد أيضاً في توجيه شتائم وسباب أصعب لزوجها أحمد حلمي لأنه من وجهة نظرهم زوج شرقي مُقصر في السيطرة على زوجته./
يمكن رصد شريحة أخرى في مصر، ترى في الجدل المثار حالياً عن إعلان فيلم "الست"، فرصة لمواصلة ما تعتبره نضالاً وطنياً ضد مُنتجه السعودي "تركي آل الشيخ"، وحلقة جديدة في سياق مشاكسات سابقة معه شملت مجال الرياضة أيضاً.
يتقاطع فيلم "الست" مع معطيات اجتماعية وثقافية عديدة ومعقدة حالياً، وكأن أم كلثوم التي فارقتنا عام 1975 لا تزال قادرة، بطريقة أو بأخرى، أن تظل الأيقونة ومحور الأحداث من جديد بعد نصف قرن على وفاتها
باختصار وكعادة السوشيال ميديا مع أي جدل، عشرات الأطراف دوماً موجودة وحاضرة، ومن الخطأ التحجج بوجود مجموعة ما لوصم كل رافض لإعلان فيلم باعتباره "لجنة" أو الخروج من التجربة بصفر دروس مستفادة بخصوص فنون الإعلانات والتسويق.
كل الاحتمالات لا تزال واردة وسنعرف قريباً الى أي مدى يمكن أن تتغير الأمور بعد عرض الفيلم نفسه وهل سينجو أم سيرث عيوب الإعلان أم أن الإعلان أصلاً ورث عيوبه من الفيلم؟
إجمالاً يتقاطع فيلم "الست" مع معطيات اجتماعية وثقافية عديدة ومعقدة حالياً، وكأن أم كلثوم التي فارقتنا عام 1975 لا تزال قادرة، بطريقة أو بأخرى، أن تظل الأيقونة ومحور الأحداث من جديد بعد نصف قرن على وفاتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



