تُعرف "النبوءة الذاتية التحقق" Self-Fulfilling Prophecy بأنها التوقع الذي يتحقق بسبب قيام صاحب النبوءة بأفعال وسلوكيات تؤدي إلى تحققه. مثال على ذلك المراهق المقتنع بأن لا أحداً يفهمه، ويتنبأ بأنه سيعيش وحيداً بلا أصدقاء أو شريك عاطفي، سيتجنب دوماً أية مناسبات تعارف أو اختلاط بالآخرين، فينتج عن ذلك تحقق نبوءته، علاوة على اقتناعه بأنه كان صاحب نظرة دقيقة في الآخرين وفي مستقبله، لكنه واقعياً كان سبب تحقق النبوءة الوحيد.
النظرية نفسها يمكن تطبيقها على الجماعات، خاصة في المجتمعات العربية، التي ترفض عادةً بسبب طبيعتها التربوية وتركيباتها السلطوية أي نزعة فردية وأي رأي مختلف، ويسهل فيها الحشد. بصياغة أخرى عندما تؤمن جماعة ما أن الوضع "س" هو ما سيحدث حتماً مستقبلاً، تصبح غالبية أفعالها وسلوكياتها وقراراتها دون وعي في خدمة تحقق "س" حتى لو كان وضعاً تكرهه.
ما علاقة ذلك بصناعة الفن؟
مؤخراً تباينت الآراء بعد النجاح التجاري لفيلم "ولاد رزق 3" وحصده أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية، وفق تقارير إعلامية، وإعلان رئيس الهيئة العامة للترفيه بالسعودية، تركي آل الشيخ، عن خطته لإنتاج مزيد من الأفلام خلال السنوات القادمة مع فنانين مصريين.
ما إن أعلن تركي آل الشيخ عن فيلم "النونو" حتّى اتُهم بـ"محاولة تشويه صورة المصريين"، على الرغم من أن القصة تتوافق مع الهوية الفنية للبطل أحمد حلمي الذي كثيراً ما لعب دور النصاب أو المخادع خفيف الظل، وهو ما يدفع للتساؤل: هل كان الفيلم لينال الاتهامات نفسها ويُثير الحساسيات نفسها لو كان منتجه مصرياً؟
* تركي آل الشيخ يتحدث عن خطته الإنتاجية الفترة القادمة.
يعتقد البعض أن ما يحدث هو سحب للبساط من تحت أقدام الفن المصري بغرض "سعودته" ووصل الحال بآخرين مثل الكاتب والمفكر المصري يوسف زيدان إلى توجيه اتهامات أكثر حدة من مثل أن ما يحدث هو "تخريب متعمد من تركي آل الشيخ للوعي العام المصري".
* منشور يوسف زيدان.
ربما يمكن تفهم اعتراضات المصريين على تدخلات تركي آل الشيخ كشخص، في سياق حوادث سابقة من تدخله في مجال الرياضة والفن، لكن الأمر هذه المرة لا يتوقف عند شخص المسؤول السعودي وإنما يتعداه إلى استثمار متبادل بين بلدين سيحقق كل منهما مكاسب من نجاح هذه الشراكة التي تقدم فيها السعودية الأموال والإمكانات المادية واللوجيستية بينما يتوفر لدى الجانب المصري العنصر البشري والإبداعي والخبرات.
نال مشروع فيلم كوميدي بعنوان "النونو" للفنان أحمد حلمي الهجوم الأكبر، على ضوء حبكته التي ذكر آل الشيخ أنها ستدور عن نصاب مصري يقوم بعمليتي نصب في السعودية، أولاهما خلال بطولة ألعاب كمبيوتر، وثانيتهما ضحاياها حجاج ومعتمرون. اعتبر كثيرون الحبكة دليل على نوايا سيئة لدى آل الشيخ لـ"تشويه المصريين" في أعماله الإنتاجية، وتقديمهم في صورة سلبية.
تتعارض التهمة مع حقيقة أن الهوية الفنية لأحمد حلمي شملت مراراً وتكراراً تأديته شخصية النصاب أو المخادع الخفيف الظل في أفلام مثل "صايع بحر" و"كده رضا" و"بلبل حيران" و"خيال مآتة"، وهو ما يدفع للتساؤل: هل كان المشروع/ الفيلم نفسه لينال الاتهامات نفسها ويُثير الحساسيات نفسها لو كان منتجه مصرياً؟
الناقد المصري محمود عبد الشكور ذكر أن تطبيق المنظور الضيق نفسه على الفن، معناه أن أفلام مخرجين مثل كوبولا وسكورسيزي يجب تصنيفها كتشويه للشعب الأمريكي، باعتباره شعباً من رجال العصابات والمجرمين، وأن رواية شهيرة مثل البؤساء للأديب فيكتور هوغو ستصبح إساءة لسمعة فرنسا.
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه: لماذا تجاهل أصحاب هذه الاتهامات مشاريع إنتاجية أخرى تحدث عنها آل الشيخ تشمل، على سبيل المثال، فيلم عن مسيرة أم كلثوم من تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، وحديثه عن رغبته في إنتاج فيلم عن الحضارة المصرية القديمة؟
كلها مشاريع وأفكار تتعارض مع تهمة "التشويه العمدي للمصريين" ولهذا ربما تجاهلها أصحاب التهمة عمداً، ليختزلوا الصورة في فيلم واحد يتوفر في حبكته باب للمزايدات والاتهامات.
تركي آل الشيخ عن إنتاج فيلم عن الحضارة المصرية القديمة.
من نفس منطلق الاتهام، يمكن التساؤل: هل يجوز للدول الخليجية تصنيف مشهد السائح الخليجي في الفيلم المصري الكوميدي "طير أنت" كمقطع مرفوض يهدف لتشويه بلادهم؟
أساطير وأوهام؟
وسط هذا الجدال، غاب الحديث عن أية دروس مستفادة من تجربة "ولاد رزق 3" ولم تلتفت الغالبية إلى كونه أول فيلم مصري يشهد منذ سنوات حملة دعائية ضخمة ومكثفة، وإلى أن اقترابه من تحقيق ربع مليار جنيه (أكثر من 5 ملايين دولار أمريكي) داخل مصر وحدها، يثبت أن إيمان المنتجين المصريين بوجود سقف محدد منخفض لميزانيات الإنتاج والدعاية، كان تطبيقاً عملياً لمقولة "النبوءة الذاتية التحقق" التي نتج عنها أفلام بسقف محدد في الإيرادات.
غاب أيضاً عن أصحاب نظرية "تفريغ الساحة المصرية من الفنانين" أن انطلاق نجوم العمل مع جهات إنتاجية سعودية، وميلاد سوق قوي في الخليج يُشاهد بانتظام الأفلام المصرية، معناه زيادة في معدلات الإنتاج داخل مصر بالتوازي، وفرص أكثر لتصعيد نجوم الصف الثاني، ومعهم دفعات جديدة من المؤلفين/ات والمخرجين/ات، وهى بلا شك أمور إيجابية.
غاب عن أصحاب نظرية "طمس الفن المصري" أيضاً أن عمل مئات الفنانين/ات والمبدعين/ات من أوروبا وكوريا وأمريكا اللاتينية في هوليوود الأمريكية، لم يكن معناه فقدانهم لثقافتهم ومفاهيمهم، بل كان تذكرة تصدير لهذه الثقافات فتحت الباب لآخرين من بعدهم، وجعلت بلادهم وفنونهم موضع اهتمام جماهيري واستثمارات ضخمة من قبل كيانات ومنصات عالمية.
حالة التحفز الحالية بخصوص الأفلام التي قد ينتجها تركي آل الشيخ مستقبلاً بلغت مداها، والكثيرون في مصر متحمسون لوصم هذه الأفلام بتهم ومزايدات مُعلبة وجاهزة بل يعتبرون هذه مهمة وطنية، متجاهلين ما قد يتسببون في تفويته على صناعة السينما المصرية من إمكانات وفرص ربما تمكن من تطويرها واحتفاظها بريادتها
التاريخ يعيد نفسه؟
وُلدت ظاهرة "أفلام المقاولات المصرية" مع انتشار أجهزة شرائط الفيديو في ثمانينيات القرن الماضي، في ظل حاجة الأسواق الخليجية لمحتوى يمكن عبره ضخ إعلانات. المعادلة كانت إنتاج أفلام منخفضة التكلفة في مصر خلال أيام تصوير معدودة، يميل أغلبها إلى الكوميدي وتصلح لكل الأعمار، ولا تتضمن تابوهات تُعرِّضها للمنع في الأسواق الخليجية.
سريعاً تعرضت هذه النوعية من الأفلام بنجومها للوصم والتحقير النقدي والإعلامي في مصر، باعتبارها مجرد أداة للمكسب السريع السهل، وأصبحت مجالاً ومثالاً سيىء السمعة. أنتج هذا بدوره ثباتاً في المعادلة، لا أحد يحاول صناعة فيلم مقاولات أجود، لأن الفيلم الناتج أياً كان سيتم وصمِهِ بأنه "فيلم مقاولات" في تطبيق عملي آخر لـ"النبوءة الذاتية التحقق".
سوق شرائط الفيديو في المقابل، في باقي العالم خلال عقد الثمانينيات، كان فرصة تم انتهازها جيداً. في البداية كان التوجه لصناعة نوعيات محددة يخجل المتفرج من مشاهدتها في قاعات السينما، لكنه يستمتع بمشاهدتها سراً في المنزل. هذه القائمة تشمل "أفلام البورنو المباشرة وأفلام مرح وكوميديا بمشاهد عُري وخلاعة".
ولأن جهاز الفيديو متاح في المنزل لدى العديد من الأسر، كان الوسيط الذي يمكن أيضاً عبره بيع "أفلام رعب ووحوش بميزانيات منخفضة، وأفلام مغامرات تصلح للأطفال، وأفلام كونغ فو كاراتيه).
من رحم كل هذه التركيبات التجارية، التي يهدف منتجوها بالأساس إلى الربح وتخلو من الطموحات الفنية الإبداعية، تسابق كثيرون لتقديم أعمال تطابق المطلوب ولا تتجاوز الميزانية المسموحة، لكن يمكنها جذب الأنظار والمنافسة على ألقاب مثل "فيلم الرعب الأغرب - فيلم الكوميديا الأقوى - فيلم الكونغ فو الأكثر عنفاً… إلخ".
كانت هذه لحظة إثبات الجدارة الفنية، وتذكرة انتقال مئات المخرجين والمؤلفين والممثلين من تصنيف صُناع أفلام الفيديو الرخيصة السيئة السمعة، إلى مرحلة استحقاق الفرص الأضخم. بصياغة أخرى رأى بعض صناع هذه الأفلام أنها يجب أن تكون أفضل رغم معطياتها فتحقق لهم ذلك.
ماذا بعد؟
وتتشابه حملات الرفض الحالية لإنتاج وتدخلات آل الشيخ مشاريع متعلقة بالفن المصري، مع مزايدات وحالات رفض تتعرض لها عادةً كل الجهات الإنتاجية غير المصرية، ومنها مثلاً حملة الهجوم على منصة نتفليكس وعلى فيلمها أصحاب ولا أعز، الذي تناول الكثير من التابوهات الاجتماعية والجنسية.
في الحالتين كان هنالك طرف غير مصري كجهة إنتاجية (نتفليكس - تركي آل الشيخ) سبباً كافياً لظهور حساسيات وتصعيدها، وشهدت حملات الهجوم والرفض مشاركة من فنانين وأدباء ونقاد، وهو ما يدفع للتساؤل: ما نوعية الاستثمارات الخارجية المُرحب بها إذاً؟ وعلى أي أساس يمكن أن تتحمس جهات خارجية أخرى للاستثمار فنياً في مصر على ضوء هذه الحالة المتكررة من الممانعة والترصد؟
المثير للتأمل أكثر، أن آل الشيخ أعلن أخيراً عن وقف تنفيذ الفيلم محور الهجوم، "النونو" لأحمد حلمي، وفسّر القرار بأنه رغبة في قطع الطريق "أمام كل من حاول ويحاول الاصطياد بسوء نية" بين شعبي مصر والمملكة.
ليس دفاعاً عن تركي آل الشيخ أو أحمد حلمي. لكن وقف تنفيذ "النونو"، والسبب المعلن من جانب المسؤول السعودي هو قطع الطريق "أمام كل من حاول من يحاول الاصطياد بسوء نية" بين شعبي مصر والمملكة، يُمهد لزيادة المطالبات والمزايدات بشأن التمويل السعودي لأفلام مصرية، وكأن صناعة السينما في المنطقة بحاجة لقيود جديدة
* منشور تركي آل الشيخ بخصوص فيلم النونو.
لكن القرار، رغم أسبابه المعلنة التي تعكس رغبة في تفويت فرصة سوء الفهم وتشويه المشروع، قد يكون الفصل الأخير من "النبوءة الذاتية التحقق"، لأنه يُمهد لظهور مزايدات ومطالبات أعلى بخصوص تطبيق ضوابط عند تقديم شخصيات مصرية في الأفلام التي تنتجها السعودية، وكأن صناعة السينما في المنطقة في حاجة إلى قائمة محظورات جديدة، خلافاً لمحظورات رجال الدين والهيئات الرقابية والقيادات السياسية.
حالة التحفز الحالية بخصوص الأفلام التي قد ينتجها تركي آل الشيخ مستقبلاً بلغت مداها، والكثيرون في مصر متحمسون لوصم هذه الأفلام بتهم ومزايدات مُعلبة وجاهزة بل يعتبرون أن هذه المهمة وطنية، متجاهلين ما قد يتسببون في تفويته على صناعة السينما المصرية من إمكانات وفرص ربما تسهم في تطويرها واحتفاظها بريادتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع