ينتصب تمثال وينستون تشرتشل أمام مجلس العموم البريطاني ليخلد ذكرى أحد أهم القادة البريطانيين على مر العصور.
هذا البطل البريطاني الذي واجه النازية بكل وحشيتها وقسوتها وتمكن من بعث روح الصمود والمقاومة في أمته حتى انتصرت على هتلر وإجرامه كان له جانب آخر لا يعرفه إلا من تكبد عناء القراءة والبحث.
هذا الجانب يعرفه أبناء المستعمرات البريطانية السابقة، والذين كانوا في نظر تشرشل أقواماً بدائية كان لا بد لها أن تسعد وتمتنّ لمحتليها المتحضرين، لا أن تجحد فضلهم وتثور عليهم مثل الهنود والعرب والأفارقة وغيرهم ممن تفضلت عليهم بريطانيا باحتلال بلدانهم.
ولعل منح غاري أولدمان، وهو الممثل الذي قام بدور تشرشل في الفيلم الأخير "الساعة الأكثر ظلمة"، جائرة الأوسكار مؤخراً أعاد إلى دائرة الضوء والاهتمام كيف ينظر صناع الفن بانتقائية إلى هذه الشخصية التاريخية المهمة.
فتشرشل لا يزال يتمتع برضى المؤرخين والرأي العام، رغم أنه قام بما يمكن تجريمه حين كان وزيراً للمستعمرات والحربية وصولاً إلى رئاسة الوزراء.
من أهم الأمثلة على عقلية تشرشل وتعامله مع أهالي المستعمرات البريطانية السياسة التي اتبعها في التعامل مع الانتفاضة في العراق، والذي كان يطلق عليه اسم Messpot أي وعاء المشاكل بدلاً من الاسم اليوناني القديم أرض الرافدين Mesopotamia.
ففي عام 1920، اشتعلت ثورة عشائرية اشتركت فيها عشائر سنية وشيعية في الفرات الأوسط وغرب العراق ضد الاحتلال البريطاني.
سببت هذه الثورة المسلحة قلقاً لدى تشرشل الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الحربية والطيران، لأن تكاليف الاحتلال كانت باهظة، وعديد القوات المطلوب للسيطرة على الوضع كان آخذاً بالتزايد بسبب هجمات العشائر المسلحة.
لهذا بدأ تشرشل بالدعوة المحمومة لاستعمال سلاح الطيران بشكل مكثف وعنيف لإخضاع الثائرين. كان هذا الأسلوب الذي أطلق عليه "الحراسة الجوية" في نظره أقل كلفة وخسائر، وأسرع مفعولاً.
في قراءتنا للوثائق التاريخية نرى تشرشل وهو يخاطب رئيس أركان سلاح الجو البريطاني هيو ترنشارد بقوله: "أعتقد أنك يجب أن تستمر في عملك التجريبي لاستعمال قنابل الغاز، وخصوصاً غاز الخردل الذي سيعاقب السكان الأصليين المتمردين بدون إلحاق خسائر مميتة في صفوفهم"، وأضاف "أنا على استعداد لإعطاء الإذن فوراً بالعمل على انتاج هذه القنابل".
تجاهل تشرشل الآثار الخطيرة لاستعمال هذه الغازات التي تتسبب بالوفاة بين الأطفال وكبار السن لأن هدفه الأهم كان أن يخضع العراق بأسرع ما يمكن وبأرخص تكلفة عوضاً عن صرف ملايين الجنيهات وإرسال الآلاف من الجنود إلى أرض المعركة.
البطل البريطاني الذي واجه النازية بكل وحشيتها وقسوتها كان له جانب آخر لا يعرفه إلا من تكبد عناء القراءة والبحث...
تشرشل لا يزال يتمتع برضى المؤرخين والرأي العام، رغم أنه ارتكب جرائم لا تحصى حين كان وزيراً للمستعمرات والحربية وصولاً إلى رئاسة الوزراء
صحيح أن هناك الكثير من الجدل بين المؤرخين حول حقيقة استعمال بريطانيا للغازات في إخماد ثورة العشرين في العراق، ولكن النقطة الرئيسة هنا أنه حتى لو ثبتت حقيقة عدم استعمال الغازات لانتفاء الحاجة إليها بعد القصف العنيف، فإن موافقة تشرشل على اقتراح استعمالها إذا دعت الضرورة كاف لاثبات النية والعقلية التي حكمت هذه الشخصية السياسية الاستعمارية في تعاملها مع "السكان الأصليين" للمستعمرات البريطانية.
نقرأ ونحن نراجع الوثائق البريطانية عن تلك المرحلة ما قاله أحد قادة سلاح الجو البريطاني آنذاك آرثر هاريس والذي أشرف على تدمير المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية فيما بعد ولقبه زملاؤه بالسفاح عن عمله في العراق حين قال: " إن العرب والأكراد يعرفون الآن ما هو معنى القصف الحقيقي بالنسبة للخسائر في الأرواح والممتلكات. ففي خلال 45 دقيقة يمكن أن يتم مسح قرية كاملة من الوجود ويتم قتل أو إصابة ثلث سكانها باستعمال 4 أو 5 رشاشات. وهكذا فلن يكون لهم (الثوار) أي هدف حقيقي يردون عليه، ولا فرصة للحصول على شرف الفروسية كمحاربين، ولا طرق فعالة للهرب".
قادة ثورة العشرين
وهو نفسه الذي قال أثناء الثورة العربية في فلسطين في أواخر الثلاثينيات حين كان برتبة عميد في سلاح الجو آنذاك، " إن الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب هو القوة، وسنقوم باستعمالها عاجلاً أم آجلاً".
لقد نجح تخطيط تشرشل آنذاك في إخماد الثورة بالاعتماد على سلاح الطيران والذي كانت نتيجة قصفه العنيف مقتل الآلاف من أبناء العشائر وتدمير قراهم.
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث - حول ثورة العشرين" في معرض حديثه عن الهجوم الإنكليزي على مدينة طويريج شرق مدينة كربلاء: "أخذت القوات الانكليزية بعد ذلك تحرق القرى القريبة، وتنهب ما فيها، وتوجه نيران الرشاشات على من تجده في القرى من البشر، واضطر الكثير من أهل القرى إلى الفرار من قراهم وهم يحملون ما تيسر حمله، وساروا يتصارخون لا يدرون إلى أين يتوجهون".
يستعرض الجنرال ايلمر هالدان Aylmer Haldane في مذكراته عن سحق ثورة العشرين في العراق أوامره المباشرة بخصوص معاقبة كل من يوجد بحوزته سلاح من أبناء العشائر "بمنتهى القسوة، فقريته يتم تدميرها، ويتم الضغط على السكان عن طريق قطع المياه ومتطلبات الحياة الأخرى". وأضاف أن "حرق قرية بكاملها يتطلب ساعة أو أكثر حسب حجمها".
هذه هي النظرة التي حكمت سياسات تشرشل ومن عملوا تحت إمرته فيما يخص "الشعوب البدائية المتخلفة" التي رزحت تحت احتلال بريطانيا.
"يجب أن تستمر في عملك التجريبي لاستعمال قنابل الغاز، وخصوصاً غاز الخردل الذي سيعاقب السكان الأصليين المتمردين" قال تشرشل مخاطباً رئيس أركان سلاح الجو البريطاني خلال ثورة العشرين في العراق
لقد اتبع تشرشل نفس سياسة "الصدمة والرعب" التي اتبعتها الولايات المتحدة في غزو العراق ولم ينج منها حجر أو بشر في المناطق الثائرة، ولا شيعي أو سني أو كردي، فالكل في نظر الزعيم البريطاني متوحشون يستحقون التأديب لثورتهم على بريطانيا العظمى.
في رسالة كتبها لورنس العرب في أغسطس عام 1920 ونشرتها الصندي تايمز اللندنية، انتقد لورنس بشدة سياسات القمع البريطانية في العراق وعدم وفاء بريطانيا بالتزاماتها ووعودها.
ختم لورانس رسالته بفقرة يقول فيها: "نحن نقول إننا في أرض الرافدين لأننا نريد تطويرها لمصلحة العالم... كيف سيؤثر قتل الآلاف من القرويين وابناء المدن على انتاج القمح، والقطن والنفط؟ إلى متى سنسمح بالتضحية بملايين الجنيهات، والآلاف من القوات الامبراطورية، وعشرات الآلاف من العرب لصالح قيادة استعمارية لا تنفع أحداً سوى زعمائها؟"
لم يكن الأمر قاصراً على وقت ثورة العشرين في العراق فحسب، بل كان رؤية شاملة لأسلوب إخضاع كل الشعوب المستعمرة. فقد صرح تشرشل في مذكرة داخلية أنه لا يمانع في استعمال الغازات السامة ضد القبائل الثائرة في شمال غرب الهند لأنهم "حقاً مثيرون للمشاكل، فلنستعمل الغاز عليهم". ثم أضاف لاحقاً "لا أفهم حقيقة كل هذه الحساسية المفرطة حول استعمال الغازات السامة".
إن التاريخ ملك للمنتصر يخبره كما يشاء ويلوي عنق الحقيقة بين صفحاته لصالحه. ولعل هذه هي الحقيقة الأبرز التي يجب ألا تغيب عن بالنا ونحن نتصارع حول شخصيات التاريخ بصيغة الأبيض والأسود.
فها هو تشرشل الذي يبجله العالم الغربي وتحتفي به هوليوود مجدداً يبرز من بين أفعاله وكلماته الموثقة كعنصري ومجرم حرب لم يكن يعير القيم الإنسانية بالاً إلا حين يتعلق الأمر بعرقه وبلده. وفي هذا ما يعلمنا فن قراءة التاريخ واستخلاص حقائقه ودروسه، لا أن نأخذ الظاهر ونعتمده كحقيقة مطلقة.
لأحداث التاريخ وشخصياته ظلال تحتاج إلى البحث والتنقيب، وقد تكون هذه الظلال أثقل وأكثر سوداوية مما نعتقد أحياناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...