اختراع

اختراع "الأبد"... حسن نصر الله مثالاً 

رأي نحن والخطاب الديني نحن والحرية

الاثنين 27 أكتوبر 20258 دقائق للقراءة

حين تضع جريدة "الأخبار" كلمة "الدائم" مع صورة نصر الله، لا تُنتج فقط "عنواناً صحافياً"، بل تؤسّس خطاباً يحاول أن ينقل الشخص من حقل التاريخ إلى حقل الميتافيزيقيا.

من مادية التاريخ إلى علوية الميتافيزيقا

اللغة هنا لم تعد تشير إلى إنسان سياسيٍّ زمنيّ، بل إلى "جوهرٍ" يتجاوز الزمان والموت. هذا بالضبط ما يسمّيه فوكو "إنتاج الذات كأثرٍ لغويٍّ للسلطة". إنّ "أل التعريف" التي لاحظتُها ليست تفصيلاً لغوياً، بل عملية تأليه رمزيّة: دخول "الـ" على الاسم يحوّل الدالّ إلى نظامٍ لاهوتيٍّ مغلق، بحيث تُلغى الفاصلة بين الإلهيّ والبشريّ.

فـ"الدائم" هو أحد أسماء الله الحسنى عند المسلمين عموماً، وله عبدٌ هو عبد الدائم، بهذا المعنى، لا يصبح نصر الله "الدائم" فحسب، بل يصبح "علامةً على دوام" يُقصد به دوام فكرة أو بنية سلطوية بعينها.

السلطة كمنتجةٍ للرمز

من منظور فوكو، السلطة لا تُفرض وتَفرض فحسب، بل تُغوي وتُنتج. هكذا غدت جريدة "الأخبار" فجأةً، وبعنوانٍ مكثّف، لا مجرّد وسيلة نقل لخطاب سلطة ما، بل مَخبراً لإعادة إنتاجها رمزياً.

في لحظةِ وضع الكلمة على الغلاف، تحوّلت الصحيفة إلى كاهنٍ يمارس طقساً بصرياً جماعياً: طقس التقديس. طقس يُعيد، عبر الصورة واللغة، بناء علاقة القارئ بالرمز السياسيّ على نحوٍ "ليتورجيٍّ" شبه دينيّ.

حين تضع جريدة "الأخبار" كلمة "الدائم" مع صورة نصر الله، لا تُنتج فقط "عنواناً صحافياً"، بل تؤسّس خطاباً يحاول أن ينقل الشخص من حقل التاريخ إلى حقل الميتافيزيقيا. ما رأيته في شارع الحمرا في كشك الجرائد هو: كيف يُبنى "الإله السياسيّ" داخل لغتنا اليومية

هنا، السلطة لا تُمارَس من فوق، بل تُنتَج من خلال اشتراك الجماهير في التلقي والإيمان بالرمز، أي أنّ عملية التأليه لا تكتمل إلا عندما يتلقّى الجمهور "الكلمة" كما تُراد له.

المعرفة كجهازٍ لتأريخ الخلود

ما جرى هو أيضاً تحويل المعرفة السياسية إلى معرفةٍ لاهوتية. بمعنى آخر، لم يعد الخطاب يقول: "نصر الله شخصيةٌ مركزيةٌ في تاريخ المقاومة"، بل يقول ضمنياً: "نصر الله هو التاريخ نفسه، وهو مَن يضمن استمراره".

إنها نقلةٌ من التاريخ إلى الميتافيزيقيا، ومن الزمن إلى الأبدية، أي من السياسة إلى الماوراء-سياسة. وهذا تماماً ما كان فوكو يحذّر منه: حين تتحوّل مفاهيم "الحقيقة" و"الخلود" إلى أدوات في يد السلطة، يصبح الإنسان مادّةً في طقس لغويٍّ يتجاوز وعيه.

فاصلةٌ تأملية

ما رأيته في شارع الحمرا في كشك الجرائد، ليس مجرّد لحظة تأمّل عابرة، بل اصطدام بين ذاكرتي النقدية وخطابٍ لاهوتيٍّ مُستحدث. لقد رأيتُ، بحدسي الإبستمولوجيّ، كيف يُبنى "الإله السياسيّ" داخل لغتنا اليومية، وكيف تُستخدم اللغة المقدسة لتثبيت نظامٍ رمزيٍّ من الولاء والخلود.

إنّ "تأليه الأشخاص" في هذا السياق، لا ينبع من عقيدة دينية، بل من اقتصادٍ رمزيٍّ للسلطة: فالدائم هنا ليس الله، بل فكرة استمرار سلطةٍ ما، عبر شخص يُحوَّل إلى حاملها الأبديّ.

أثر الخطاب التأليهيّ على الوعي الجمعيّ اللبناني

حين يدخل لفظ مثل "الدائم" إلى الفضاء العام مرفقاً بصورةِ زعيمٍ، لا يظلّ أثره لغوياً أو إعلامياً فحسب، بل يصبح بنيةً ذهنيةً تسكن المخيال الجماعيّ. فالكلمة هنا لا تُستقبَل كعنوانٍ سياسيٍّ، بل كعلامةٍ وجوديةٍ، أي كأنها تصف بنية الكون لا بنية الحدث.

وفي سياقِ تأبيد اللحظةِ وإلغاء التاريخ، يُنتج الخطاب نوعاً من "التاريخ المجمّد"، فلا يعود الزعيم مرتبطاً بزمنٍ محدّدٍ أو فعلٍ سياسيٍّ قابل للنقد، بل يُسحب إلى فضاء الأبدية، حيث لا يمكن التفكير فيه إلا من موقع الإجلال أو الإنكار الكلّي. إنه الانتقال من الذاكرة إلى العقيدة، ومن التاريخ إلى الأسطورة.

لبنان، بلدٌ يقوم على التعدد والتنازع بين سرديات متعددة للهوية والزمن. لكن الخطابات التأليهية، تعمل على تثبيت ذاكرة واحدة كأنها ذاكرة الجميع، فتُقصي الذاكرات الأخرى أو تُرغمها على الصمت.

بهذا المعنى، تتوقّف حركة الزمن في الوعي العام. تُصبح الحاضريّة السياسية -التي هي جوهر الديمقراطية- مستبدلةً بحالةٍ لاهوتيةٍ: "من كان دائماً، سيبقى دائماً". فتتبدّد إمكانية التغيير، لأنّ التغيير يحتاج إلى زمنٍ، بينما "الدائم" يُلغي الزمن نفسه.

القداسة كآلية للضبط

القداسة هنا ليست تعبيراً دينياً، بل أداة ضبطٍ رمزيّ. فحين يتحوّل شخصٌ إلى "الدائم"، لا يمكن نقده دون أن يُعدّ النقدُ تجديفاً رمزياً بكلمات أخرى، كفراً رمزياً، فتتحوّل العلاقة السياسية من علاقةِ مواطنةٍ إلى علاقةٍ إيمانيةٍ، ويغدو الانتماء مسألةَ ضميرٍ دينيٍّ "مذهبيٍّ" لا فكراً، وطقساً لا حواراً. هكذا تُعاد صياغة الحقل السياسيّ اللبنانيّ لا حول المصلحة أو الفكرة، بل حول الولاء الطقسيّ.

تفكّك المشترك الوطني

لبنان، تاريخياً، بلدٌ يقوم على التعدد والتنازع بين سردياتٍ متعددةٍ للهوية والزمن. لكن الخطابات التأليهية، من أيّ جهةٍ صدرت، تعمل على تثبيت ذاكرةٍ واحدةٍ كأنها ذاكرة الجميع، فتُقصي الذاكرات الأخرى أو تُرغمها على الصمت. إنها عمليةُ إعادةِ هندسة للذاكرة الجمعية بحيث تُعاد صياغة مفهوم البطولة، الموت، الفداء، وحتى معنى البقاء.

وكأننا نشهد نهاية الإنسان بوصفه فاعلاً. ففي النهاية، ما يقف خلف "تأليه الأشخاص" ليست الرغبةَ في تقديسهم فقط، بل نزعة لاواعية إلى التحرّر من عبءِ الحرية. فحين يُصبح الزعيم هو "الدائم"، لا يبقى على المواطن سوى أن يكون "العابر"، أي التابع الذي يجد في تبعيّته طمأنينةً ميتافيزيقية.

وهنا، كما يقول فوكو في نظام الخطاب، يُمحى الإنسان كفاعلٍ ويُستبدل بتمثالِ الخطاب نفسه.

الأبد بوصفه حاجةً وجوديةً

إلى ذلك، وبه، يمكن القول إنّ تأليه الأشخاص في لبنان، حتى بعد موتهم، ليس ظاهرةً فرديةً أو دينيةً فحسب، بل هو نتيجةُ بنية خطابية تجمع بين الحاجة إلى المعنى، والخوف من الفراغ. فالإنسان اللبنانيّ، الذي عاش تواريخ من الانهيار والانقسام والترومات المتلاحقة، يجد في "الدائم" ما يعوّض غياب الأبدية في واقعه الزائل.

والحال، ثمّة حاجةٌ وجوديةٌ إلى الرمز الأبديّ. فمهما تنوّعت المجتمعات وتبدّلت أيديولوجياتها، يبقى في داخلها ميلٌ فطريٌّ نحو تشييد رمزٍ يتجاوز الزوال. كأنّ الإنسان، في عمقه وجوهره، لا يحتمل هشاشته، فيخترع دوماً "أبداً" يسكن فيه كي لا يواجه عبث الفناء.

ذلك "الأبد" قد يكون إلهاً، وقد يكون فكرةً، وقد يكون زعيماً. لكن وظيفته واحدة: أن يُسكِتَ القلق الوجوديّ أمام الموت والتبدّل.

من الفناء إلى الرمز

حين يفقد الفرد ثقته بالأنظمة وبالاستمرارية التاريخية، ينهار معنى "الزمن" في داخله. ولكي يستعيد توازنه، يبحث عن رمزٍ قادرٍ على احتواء الزمن في ذاته، أي عن كائن أو فكرةٍ تتجاوز الموت بالنيابة عنه. وهنا تتكوّن العلاقة الغامضة بين السياسيّ والميتافيزيقيّ: الزعيم يصبح "مكاناً تُسكن فيه فكرة الخلود"، فيتحوّل إلى مرآة لهواجس الجماعة أكثر مما يكون قائداً لها.

في العمق، كلّ تأليه هو محاولةٌ لإيقاف الساعة، لإلغاء الزمن الذي يُرهق الكائن. لكن المفارقة أنّ ما "يُؤلَّه" اليوم سيُنسى غداً، لأنّ الزمن لا يُلغى، بل يبتلع كلّ ما يُحاول تجاوزه. ولهذا، يبقى الإنسان في حلقة أبدية: يصنع رمزه، يرفعه إلى مرتبة الديمومة، ثم يشهد سقوطه، ليصنع رمزاً جديداً

ثم نغدو أمام الرمز بوصفه عزاءً جمعيّاً. فالإنسان لا يعبد الأشخاص، بل يعبد المعنى الذي يسكن فيهم. إذ حين يقول الوعي الجمعيّ "الدائم"، لا يقصد بالضرورة بقاءَ شخصٍ، بل بقاء الإحساس بأنّ شيئاً ما سيبقى في عالم كلّه رحيل.

إنها حاجةٌ شبه "شعريةٍ" إلى ضمانةٍ للوجود، إلى رمز يقول لنا: "ثمّة ما لن ينهار". وفي غياب هذا الرمز، يتفكّك الشعور بالانتماء ويتحوّل المجتمع إلى ذرات قلقة.

الزمن والهوية

في العمق، كلّ تأليهٍ هو محاولةٌ لإيقاف الساعة، لإلغاء الزمن الذي يُرهق الكائن. لكن المفارقة أنّ ما "يُؤلَّه" اليوم سيُنسى غداً، لأنّ الزمن لا يُلغى، بل يبتلع كلّ ما يُحاول تجاوزه. ولهذا، يبقى الإنسان في حلقةٍ أبدية: يصنع رمزه، يرفعه إلى مرتبة الديمومة، ثم يشهد سقوطه، ليصنع رمزاً جديداً. وهكذا تستمرّ ديناميّة الحاجة إلى "الدائم" كاستعارةٍ عن نفي الموت. لنقل إنّ الإنسان لا يسعى فقط إلى السلطة أو المعرفة، بل إلى إقامة مأوى للكينونة داخل اللغة.

وفي غياب المقدّس الدينيّ، يخلق المقدّس السياسيّ.

وفي غياب الأب، يخلق الزعيم.

وفي غياب الله، يصنع "الدائم".

لكن ذلك المأوى الذي يصنعه ليس سوى قفصٍ من الكلمات، لأنّ كلّ "دائم" يولد من خوفٍ من الفناء، لا من حقيقة الخلود.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image