حزب الله وسلاحه... تسليمه للدولة بيد وتمسّك به باليد الأخرى

حزب الله وسلاحه... تسليمه للدولة بيد وتمسّك به باليد الأخرى

سياسة نحن والتطرف

الاثنين 8 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

يصعب تخيّل حزب الله بلا سلاح. هو نفسه لا يستطيع تخيّل نفسه بلا سلاح. فحزب الله هو حزب سياسي بُني حول تنظيم مسلّح لحماية هذا التنظيم والعمل على بناء حاضنة شعبية واسعة له ودمجه في البيئة السياسية اللبنانية، وليس العكس.

راية حزب الله منذ رُسمت لأول مرّة تحمل يداً تمسك بندقية حربية. فكيف له أن يتخلى عن ركن أساسي في هويته؟ ماذا سيضع مكان هذه البندقية؟ حَمَلة البنادق في حزب الله، أي جهازه العسكري، اعتادوا على أن يكون الأمر لهم. هم مَن يقررون متى يجنحون بلبنان وشيعته إلى السلم ومتى يقودونه ويقودون شيعته إلى الحرب والموت، وما على الوجوه السياسية التي نعرفها بوصفها ممثلة لحزب الله سوى اللحاق بهم لتبرير قراراتهم. هذه هي المعادلة بين السياسي والعسكري داخل حزب الله منذ تأسيسه وبالتالي: كيف يمكن أن يبقى هنالك حزب الله بلا سلاح؟

لكن، وبالرغم من أن السلاح جزء من هوية حزب الله وليس مجرد أداة تحكم عملية امتلاكها حسابات واقعية وفق مقياس الفائدة والخسارة، إلا أنه حتى الهويات تتغيّر وكثيراً ما تفرض عملية التغيير هذه أو تتدخل فيها عوامل خارجية، في مخاض معقّد ويصعب توقّع نتيجته قبل بلوغها.

السلاح جزء من هوية حزب الله وليس مجرد أداة تحكم عملية امتلاكها حسابات واقعية، إلا أنه حتى الهويات تتغيّر وكثيراً ما تفرض عملية التغيير هذه أو تتدخل فيها عوامل خارجية، في مخاض معقّد. فكيف يمكن أن يبقى هنالك حزب الله بلا سلاح؟

مغامرة "الإسناد"

في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدأ حزب الله مناوشات مع الجيش الإسرائيلي تحت عنوان "إسناد غزة"، منطلقاً من فرضية أنه قادر على "مشاغلة" الجيش الإسرائيلي لتخفيف الضغط عن غزة وعن حركة حماس المسيطرة عليها، وهو ما لم يحدث في أي وقت.

خلال ساعات، تحوّلت هذه المناوشات إلى حرب محدودة هجّرت أهالي قرى الجنوب اللبناني الحدودية. وقبل مرور سنة، وبالتحديد في أيلول/ سبتمبر 2024، توسّعت الحرب المحدودة لتطال كامل خارطة المناطق الشيعية في لبنان وتسفر عن تكبّد حزب الله هزيمة مدوية، واغتيال جزء كبير من قادته، على رأسهم أيقونته وأمينه العام حسن نصر الله، وخسارته معظم ترسانته العسكرية.

غيّرت هذه الهزيمة الكثير في موازين الصراع بين حزب الله وإسرائيل بشكل خاص وبين لبنان وإسرائيل بشكل عام، وعبّر عن هذا التغيّر مضمون اتفاق وقف الأعمال العدائية بين البلدين الذي جرى التوصل إليه في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 والذي وافق حزب الله عليه رغم أنه أتى على حسابه كتنظيم، إذ ينص على تجريده من سلاحه.

وبعد أقل من أسبوعين على ذلك، أتى سقوط نظام الأسد في سوريا ليضيف على هذا التغيّر تغيّراً آخر، فصارت إمكانية ترميم حزب الله لما خسره في الحرب أقرب إلى المستحيل، بعد انقطاع خط إمداده الرئيسي من إيران، مع ما يعنيه ذلك من نهاية حزب الله كقوة إقليمية أو كقاعدة نفوذ إيراني بعيدة عن الأراضي الإيرانية.

توازنات الداخل اللبناني

بجانب هذا البعد الخارجي، هنالك بعد لبناني داخلي ساهم في تغيير قواعد اللعبة التي اعتاد عليها حزب الله لأكثر من 35 سنة، وهو قرار الحكومة اللبنانية في 5 آب/ أغسطس الماضي حصر السلاح بيد الدولة. صحيح أن هذا القرار أتى على ضوء البعد الخارجي وما كان ليأتي بدونه، ولكن هذا لا يلغي لبنانيته، فلبنان بلد متعدد الطوائف وامتلاك حزب يمثل واحدة من الطوائف للسلاح يثير خوف بقية الطوائف، وهذه نقطة خلافية سجالية بين اللبنانيين منذ نهاية الحرب اللبنانية الأهلية عام 1990، وكان تعلو أحياناً وتخفت أحياناً أخرى إلا أنها كانت حاضرة دوماً.

ويزيد من تداخل الأبعاد اللبنانية والخارجية ما يمكن اعتباره رغبة عالمية في إنهاء حالة حزب الله في لبنان كتنظيم مسلّح وهي رغبة تبدأ من الولايات المتحدة وتصل إلى أبرز وأكبر الدول العربية، مروراً بالدول الأوروبية، ويكاد لا يخرج عنها إلا إيران والأحزاب السياسية الشيعية العربية التي تأسست حول تنظيمات مسلّحة أنشأتها إيران. فكل طائفة لبنانية لها خارج يشكّل نوعاً من "مجال حيوي" لها يأتي منه الدعم السياسي وأحياناً كثيرة المالي، ومعه توجد تقاطعات "حضارية" (وقد تكون "حضارية" سيئة)، وفيه يعمل جزء كبير من أبنائها المغتربين، إلخ. وبالتالي من الطبيعي أن تحاول هذه الطوائف تكييف أحوالها وخطاباتها على الإيقاعات الخارجية، فهذا جزء من دينامياتها.

يجد حزب الله نفسه في لحظة مفصلية من تاريخه. على الأرجح، لا يعرف أي اتجاه هو الأنسب له، وعلى الأرجح لم يستوعب حتى ما حصل في العام الأخير لأنه كان خارج أي سيناريو مفكَّر فيه سابقاً

الحزب التائه

أمام هذه الظروف الخارجية والداخلية، يجد حزب الله نفسه في لحظة مفصلية من تاريخه. على الأرجح، لا يعرف أي اتجاه هو الأنسب له، وعلى الأرجح لم يستوعب حتى ما حصل في العام الأخير لأنه كان خارج أي سيناريو مفكَّر فيه سابقاً.

ليحدّ من خسائرة خلال الحرب الأخيرة، وافق على اتفاق ينص بوضوح على تجريده من سلاحه بدءاً من المنطقة الواقعة جنوبي نهر الليطاني، أي جزء لبنان الجنوبي الأقرب إلى الحدود مع إسرائيل. ولكن يبدو أنه، كعادته، كان يراهن على عامل الوقت وعلى أن التسويف يمكن أن يشكّل له طوق نجاة، على أساس أنه كلما ابتعدنا زمنياً عن نهاية الحرب ستفتر عزيمة الأطراف التي تضغط عليه ليتجرّد من سلاحه، قياساً على سابقة عدوان تموز/ يوليو 2006 وما تلاه.

ولكن أموراً كثيرة تختلف هذه المرة وتمنع قياس الأمور على تجربة العام 2006:

أولاً، تخلى حزب الله بالفعل عن معظم مراكزه وسلاحه في منطقة جنوبي الليطاني، مع أنها يُفترض أن تكون أهم منطقة له إذا كانت علّة وجوده مقاتلة إسرائيل.

ثانياً، الحرب لم تتوقف عملياً فإسرائيل مستمرة في خرق اتفاق وقف الأعمال العدائية واستهداف عناصر من حزب الله ومواقع عسكرية ومخازن أسلحة تابعة له، بوتيرة يومية.

ثالثاً، حتى الآن، لم يتبرّع أي طرف للحكومة اللبنانية بأموال لإعادة إعمار ما تهدّم. وكان حزب الله قد تنصل منذ البداية من مسؤوليته عن إعادة إعمار 53000 وحدة سكنية تدمرت بالكامل وألقاها على عاتق الحكومة اللبنانية، مكتفياً بالتعهد بتمويل إعادة ترميم الوحدات السكنية غير المهدمة بالكامل، وعددها نحو 320 ألفاً، ولكن بسبب معاناته من أزمة مالية خانقة لم يستطع الوفاء بتعهداته لجزء كبير من أصحابها.

رابعاً، هنالك زخم بعد الحرب، أميركي إسرائيلي أوروبي وعربي أيضاً، لمطلب تجريد حزب الله من سلاحه، ومن الواضح أن أموال إعادة الإعمار لن تتوفر إلا بعد طي صفحة حزب الله كتنظيم مسلح، ولا شيء في هذا المسار سيبدأ بدون ضوء أخضر أميركي للدول المانحة. أقلّه، هذه هي الصورة في اللحظة الراهنة.

مأزق حزب الله

يجد حزب الله نفسه أمام مأزق: لا هو قادر على التخلي عن سلاحه لأن سلاحه جزء من هويته التي بناها على مدار 40 سنة، ولا هو قادر على عرقلة مسار تجريده من سلاحه بشكل نهائي لأن هذا يعني أنه سيبقى تحت النار ولا حماية لقادته وعناصره وأن لا أموال لإعادة إعمار وترميم منازل عشرات آلاف الأسر الشيعية التي تشكل جزءاً من حاضنته الشعبية.

لو كان حزب الله حزباً لبنانياً صرفاً لكانت ربما الحسابات المصلحية للشيعة وللبنان سهّلت مسألة تخليه عن سلاحه مقابل مكاسب معيّنة. بالتأكيد حزب الله لبناني في أحد أبعاده وكثير من دوافعه ومحركاته لبنانية، ولكنه ليس لبنانياً صرفاً، فالارتباط بإيران جزء من هويته: اليد التي تحمل بندقية على رايته منسوخة عن شعار الحرس الثوري الإيراني.

وعدا العلاقة المادية بإيران المتمثلة بإمداده بالمال والسلاح، يعتنق حزب الله عقيدة ولاية الفقيه التي مثّلها بدايةً مرشد الثورة الإيرانية الأول روح الله الخميني ويمثلها حالياً خلفه علي خامنئي، ومن صلاحيات الولي الفقيه "اتخاذ القرارات السياسية الكبرى التي ترتبط بمصالح الأمة، وهو الذي يملك صلاحية قرار الحرب والسلم"، كما يقول أمين عام حزب الله الحالي نعيم قاسم في كتابه "حزب الله: المنهج والتجربة والمستقبل"، وبالتالي يحتاج حزب الله إلى "إجازة" من الولي الفقيه ليسلّم سلاحه، وهو أمر قد لا "يجيزه" الولي الفقيه إذا وجد في بقائه مصلحة له ولنظامه، حتى لو أراد حزب الله ذلك.

وليزداد المشهد تعقيداً، احتلت إسرائيل في الحرب الأخيرة أراضيَ لبنانية، والآن حزب الله يقول إنه لا ينبغي المطالبة بنزع سلاحه طالما إسرائيل محتلة، مع تجاهل خطابه بالتأكيد لواقع أنه هذه المرة كان هو وسلاحه أسباب الاحتلال، في وقت لا أحد يمتلك ضمانات على أن تجريد هذا الحزب من سلاحه سيؤدي إلى خروج الاحتلال الإسرائيلي واحترام إسرائيل مستقبلاً لسيادة الدولة اللبنانية.

يحتاج حزب الله إلى ترك أكثر من شعرة معاوية بينه وبين مؤسسات الدولة الرسمية والجيش اللبناني، لأنها الجهات التي تضع نفسها بينه وبين إسرائيل وتمنع تجدد الحرب بالوتيرة التي كانت عليها قبل اتفاق وقف الأعمال العدائية

نعم ولا

يحتاج حزب الله إلى ترك أكثر من شعرة معاوية بينه وبين مؤسسات الدولة الرسمية والجيش اللبناني ولا يستطيع الدخول في مواجهة معها على طريقة ما قام به في 7 أيار/ مايو 2008، ليس بسبب اختلال موازين القوى العسكرية لصالحها، بل لأنها الجهات التي تضع نفسها بينه وبين إسرائيل وتمنع تجدد الحرب بالوتيرة التي كانت عليها قبل اتفاق وقف الأعمال العدائية، وهو ما لا قدرة لحزب الله على احتماله.

ولذلك لا خيار آخر أمامه سوى الانحناء أمام العاصفة وتركها تدفعه، مع بعض المقاومة/ المعاندة، لأن ثمن تحديها كبير. وشكل هذا الانحناء هو التصريح ضد القرارات التي تتخذها الحكومة اللبنانية بخصوص حصر السلاح بيد أجهزة الدولة الشرعية، لا بل محاولة استغلالها لتعبئة الشيعة حوله وضد الدولة قبيل انتخابات 2026 النيابية، ولكن بدون أن يصطدم بشكل لا عودة عنه لا مع الحكومة اللبنانية ولا مع الجيش اللبناني.

وعليه على الأرجح أن يبقي وزراءه، وبالمثل تفعل حليفته حركة أمل، في الحكومة اللبنانية، فلا يستقيلون، ما يعني أن الحكومة اللبنانية ستبقى ميثاقية بموجب أي تفسير أو اجتهاد. وفي الوقت نفسه، سينسحب من أي جلسة تناقش بنداً له علاقة بسحب سلاحه كما فعل في جلسة 5 أيلول/ سبتمبر التي عرض فيها قائد الجيش اللبناني خطة حصر السلاح بيد الدولة، وقبلها في جلستي 5 و7 آب/ أغسطس. فتصير الصورة: هو يعترض على قرارات غير ميثاقية اتخذتها حكومة ميثاقية. وهذا هو شكل إمساك العصا من منتصفها.

وعند بدء الجيش اللبناني تنفيذ خطته لسحب سلاح حزب الله، سيستجيب حزب الله بدون ترحيب وسيتصرّف بشكل يعقّد عمل الجيش بدون الاصطدام به، وسيحاول التسبب بتأخير كبير في العملية، بالقدر الممكن الذي لا يوصل إلى صدام في الداخل اللبناني.

هكذا، إذا استمرت العاصفة طويلاً، وبقي الزخم الدولي المسنود باعتداءت إسرائيلية لنزع سلاح حزب الله، سيخسر حزب الله مع الوقت كامل سلاحه أو معظمه، وإذا لسبب ما (تغيير حكومي في إسرائيل، تقارب تركي-إيراني يشمل سوريا...) توقَّف هذا الزخم بعد شهر أو شهرين أو ستة، سيجد حزب الله أنه لا يزال يحتفظ بشيء من سلاحه، وعندها سيكون قادراً على عدم السماح باستكمال مسار نزعه وقد يحاول إعادة بناء قوته من تلك النقطة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image