غياب إيران عن قمة شرم الشيخ... حسابات الربح والخسارة

غياب إيران عن قمة شرم الشيخ... حسابات الربح والخسارة

سياسة نحن والتنوّع

الثلاثاء 21 أكتوبر 202518 دقيقة للقراءة

استضاف مركز المؤتمرات الدولي في شرم الشيخ، يوم الإثنين 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، واحداً من أهم الأحداث الدبلوماسية في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، حيث انعقدت "قمة شرم الشيخ للسلام 2025"، برعاية مشتركة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وجمعت أكثر من عشرين زعيماً عالمياً من الدول العربية والإسلامية والأوروبية والآسيوية. 

كان الهدف الرئيس من هذه القمة تثبيت وقف إطلاق النار الأخير بين إسرائيل وحركة حماس، ووضع خريطة طريق لإنهاء الحرب المستمرة منذ سنتين في غزة. هذا الحدث الذي جاء بعد مفاوضات غير مباشرة ومكثفة في شرم الشيخ بين مصر وقطر وتركيا بوساطة أمريكية، يُعدّ رمزاً للجهود الدبلوماسية الرامية إلى إعادة بناء منطقة تعاني من الصراعات والتوترات العميقة.

وبرغم الدعوة الرسمية الموجهة إلى إيران للمشاركة في قمة شرم الشيخ التي تناولت موضوع وقف إطلاق النار والسلام في غزة، إلا أنّ طهران امتنعت عن المشاركة. من هنا تتبدّى جملة من التساؤلات الجوهرية: ما الذي دفع طهران إلى اتخاذ قرار الغياب عن هذه القمة في لحظة إقليمية حرجة؟ وكيف قرأت إيران موازين الربح والخسارة في معادلة المشاركة أو المقاطعة؟ وهل كان انسحابها تكتيكياً للحفاظ على ثوابتها وموقعها المبدئي، أو تفويتاً لفرصة ربما كانت تعيد لها تموضعها الدبلوماسي في المنطقة؟

قمة شرم الشيخ وغياب إيران

بعد صمت أوّلي تجاه خطة السلام في غزة بتاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، رحّبت إيران بحذر بانتهاء الحرب، وهو موقف فاجأ العديد من المراقبين. وأكدت وزارة الخارجية دعمها لأي قرار يوقف ما تعدّها إبادةً بحق الفلسطينيين. وصرّح وزير الخارجية عباس عراقجي للتلفزيون الرسمي بأنّ حماس قبلت بالاتفاق، مشدداً على أنّ طهران "دائمًا تدعم أي خطوة توقف الجرائم والإبادة التي ترتكبها إسرائيل ضد شعب غزة". وقد وصف الرئيس الأمريكي هذا الموقف بأنه "إشارة قوية جداً وإيجابية" من إيران إلى تسوية النزاع.

أثار خبر غياب إيران عن قمة شرم الشيخ تفاعلات واسعةً داخل الأوساط السياسية والإعلامية في طهران، فرآه البعض تعبيراً عن حكمة سياسية وموقف مبدئي، واعتبره آخرون تفويتاً لفرصة نادرة كانت قد تعيد لإيران حضورها الدبلوماسي في المنطقة

وفي هذا السياق، تم توجيه الدعوة إلى إيران لحضور قمة شرم الشيخ، من مصر، بداية إلى الرئيس مسعود بزشكيان، وبعد رفضه تم توجيه الدعوة إلى وزير الخارجية عباس عراقجي، إلا أنّ طهران رفضت المشاركة ولم ترسل أيّ وفد رفيع المستوى. وأوضح عراقجي أنّ سبب عدم المشاركة هو أنّ إيران لا يمكنها التعامل مع دول "هاجمت الشعب الإيراني وما زالت تهدده وتفرض عليه العقوبات"، مضيفاً أنّ إيران ترحّب بأي مبادرة تنهي "الإبادة الإسرائيلية في غزة"، وتؤدي إلى انسحاب القوات المحتلة. 

وفي دفاعه عن القرار، كتب عراقجي على منصة "إكس" أنّ إيران ممتنة لدعوة الرئيس المصري، لكنها لا يمكن أن تدخل في تفاعلات دبلوماسية مع من يهددون الشعب الإيراني ويفرضون العقوبات عليه. مع ذلك، أكّد دعم إيران لأيّ مبادرة تنهي ما تعدّها إبادةً جماعيةً في غزة، مؤكّداً أن الفلسطينيين لهم الحق الكامل في تقرير مصيرهم، وأن جميع الدول مسؤولة عن دعم هذا الحق القانوني والمشروع. وأضاف أنّ إيران كانت وستظل قوةً رئيسيةً من أجل السلام في المنطقة، وأنها على عكس النظام الإسرائيلي، لا تسعى إلى حروب لا تنتهي، بل إلى سلام دائم وازدهار وتعاون.

من جهته، أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية، إسماعيل بقائي، في مؤتمر صحافي، أنّ جميع أبعاد الدعوة تم بحثها بدقة في جلسات خبراء داخل الوزارة وخارجها، وتم تقييم الإيجابيات والسلبيات للمشاركة أو عدمها. في النهاية، تم اتخاذ القرار الذي يحقق أكبر قدر من مصالح الدولة. وبيّن بقائي أنّ تأثير إيران في التحولات الإقليمية لا يقتصر على المشاركة الفعلية في الأحداث، مشيراً إلى أن طهران كانت واحدةً من أكثر الدول نشاطاً في ممارسة الضغط على النظام الإسرائيلي وحلفائه لوقف ما تعدّها إبادةً جماعيةً، كما تواصل نشاطها على الصعيدين الإقليمي والدولي عبر الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي لضمان تأثيرها المطلوب.

صوتان في طهران... المشاركة كفرصة أو الغياب كموقف؟

أثار خبر غياب إيران عن قمة شرم الشيخ تفاعلات واسعةً داخل الأوساط السياسية والإعلامية في طهران، حيث انقسمت الآراء بين من عدّ القرار تعبيراً عن حكمة سياسية وموقف مبدئي، وبين من رآه تفويتاً لفرصة نادرة كان يمكن أن تعيد لإيران حضورها الدبلوماسي في المنطقة. فبين خطاب الواقعية الذي يدعو إلى الانخراط في المحافل الدولية، وخطاب الممانعة الذي يرفض أي حضورٍ في مؤتمرات تُدار تحت المظلة الأمريكية، وجد القرار نفسه في قلب جدلٍ محتدم يعكس الانقسام العميق في مقاربة السياسة الخارجية الإيرانية.

فقد رأى عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية، ولا سيما من التيار الإصلاحي والوسطي، أنّ المشاركة في القمة كانت خياراً طبيعياً وبديهياً. المتحدث باسم جبهة الإصلاح في إيران، جواد الإمام، صرّح بأنّ ما قامت به حماس من قبول بخطة السلام "التي دعمناها لسنوات" يستوجب من طهران موقفاً منفتحاً. وأضاف متسائلاً: "لماذا نرفض حضور مؤتمرٍ يشارك فيه الجميع؟ إنّ في مثل هذه اللقاءات فرصاً لتخفيف التهديدات وفتح نوافذ للحوار". وأردف قائلاً: "إذا كنا قد قبلنا في الماضي قرار مجلس الأمن 598، وتفاوضنا مع من حاربنا، فما المانع من أن نحضر مؤتمراً يخدم مصالح المنطقة؟".

أما الأكاديمي المعروف صادق زيبا كلام، فقد دعا الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى اغتنام "هذه الفرصة من أجل مستقبل الأجيال القادمة"، عادّاً أنّ "السياسة الخارجية يجب أن تتحرر من الأيديولوجيا، وأن تضع المصلحة الوطنية في مقدمة أولوياتها". وفي السياق ذاته، كتب كلّ من محمد مهاجري، المفسّر المحافظ، ومحمد قوجاني، الصحافي الإصلاحي، مقالاً مشتركاً حثّا فيه الرئيس على "عدم تفويت هذه الفرصة التاريخية"، مشيرَين إلى أنّ بإمكان إيران استثمار القمة لإدانة الاحتلال الإسرائيلي علناً دون المساس بدعمها للمقاومة الفلسطينية.

أما المدير العام الأسبق لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإيرانية، قاسم محبعلي، فشدّد على أنّ حضور إيران في المؤتمر كان "ضرورةً إستراتيجيةً، لأنّ الأمن الإقليمي يتشكل في مثل هذه المنصات". وأضاف أنّ غياب إيران "يعني خسارة جزء من رأس المال السياسي الذي راكمته الجمهورية الإسلامية في المنطقة على مدى سنوات". في المقابل، قدّم دبلوماسيون سابقون رأياً مشابهاً، فقد اعتبر محمد الإيراني، السفير الأسبق في الكويت ولبنان والأردن، أنّ المشاركة "كانت لتمنح طهران فرصةً للخروج من العزلة الدبلوماسية"، موضحاً أنّ "الدعوة الرسمية بحد ذاتها اعتراف بمكانة إيران في المعادلات الإقليمية، وكان الأجدر بها أن تترجم هذا الاعتراف إلى حضورٍ فعّال". 

من جانبه، انتقد نائب وزير الخارجية الإيراني الأسبق، إبراهيم رحيم‌ بور، النهج السلبي تجاه التطورات الدولية، قائلاً: "القطيعة مع العالم لن تجلب لنا شيئاً. علينا أن ننتهج دبلوماسيةً نشطةً تحوّل مسار الحرب الميدانية إلى حرب دبلوماسية". ويرى رحيم ‌بور أنّ المشاركة في مثل هذه المؤتمرات لا تعني بالضرورة القبول بسياسات الغرب، بل تُشكّل فرصةً لعرض وجهات النظر والدفاع عن المصالح الوطنية على المستوى الدولي.

من ناحية أخرى، عبّر بعض السياسيين المحافظين عن تأييدهم لقرار الغياب. فقد قال النائب علي رضا سلیمي: "عدم مشاركة إيران جاء لأنّ الجمهورية الإسلامية ليست لاعباً ثانوياً، ولا يمكن أن تكون مجرد متفرج بينما يقرر الآخرون مصير المنطقة". أما عبدالله کنجي، الناشط السياسي المحافظ والمدير المسؤول السابق لصحيفة "جوان"، والذي كان من المعارضين لحضور إيران في قمة شرم الشيخ، فقد كتب ردّاً على مؤيّدي المشاركة قائلاً: إنّ الذين طالبوا وأصرّوا على مشاركة الدكتور بزشكيان في قمة شرم الشيخ، سواء عن قصد أو عن غير قصد، وسواء فهموا أو لم يفهموا، كانوا يسعون بلا وعي إلى تعزيز مكانة ترامب كـ"منقذ للسلام في العالم"، بينما هاجم هو بلدهم ويسعى لإضعاف قدرتهم الدفاعية. هؤلاء الأشخاص لا يريدون الاطلاع على نتائج الوساطات الأمريكية في اتفاقات أوسلو ومدريد وكامب ديفيد، ولا يستفيدون من هذه التجارب. هم رومانسيون، مبسطون، حالِمون، متطلعون، ويحتاجون إلى أن يُرى دورهم. 

وكان الوزير الأسبق عطاء الله مهاجراني، متفقاً أيضاً مع المحافظين، فكتب على صفحته الشخصية في منصة "إكس": "عدم المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ قرارٌ حكيم وعقلاني"، مذكّراً بتجارب سابقة مثل "اتفاق أوسلو الذي كسر ظهر المقاومة الفلسطينية"، على حدّ وصفه، مؤكداً أنّ "شرم الشيخ لن يكون أفضل من أوسلو".

وبين هذين الموقفين، بقيت الساحة السياسية الإيرانية منقسمةً بين من يرى في الغياب تأكيداً على مبدئية السياسة الخارجية واستقلال القرار، وبين من يراه انسحاباً غير مبرر من فرصة دبلوماسية كان يمكن أن تخفف الضغوط الدولية على طهران وتمنحها موقعاً فاعلاً في مسار التسويات القادمة. وهكذا تحولت قمة شرم الشيخ من حدث إقليمي إلى مرآة تعكس التجاذب الداخلي في إيران بين المبدأ والمصلحة، وبين خطاب يفضّل الصلابة في الموقف وآخر يدعو إلى البراغماتية السياسية.

خلفيات القرار الإيراني 

لم يكن غياب إيران عن مؤتمر شرم الشيخ حدثاً عابراً أو مجرد إجراء بروتوكولي يمكن تجاوزه بسهولة، بل كان قراراً سياسياً ذا دلالات عميقة في لحظة إقليمية بالغة التعقيد. فقد شكّلت القمة، التي استضافتها مصر وجمعت عدداً كبيراً من القادة العرب والدوليين لمناقشة أوضاع غزة ومسار الاستقرار الإقليمي، ساحةً رمزيةً لاختبار موازين القوى الجديدة في الشرق الأوسط ومقياساً لموقع طهران داخل هذه المعادلة المتحركة. وبرغم توجيه الدعوة رسمياً للجمهورية الإسلامية، فإنّ رفضها المشاركة لم يكن رد فعل انفعالياً أو تعبيراً عن مقاطعة شكلية، بل خياراً محسوباً بعناية، نابعاً من قراءة دقيقة لمعادلة الربح والخسارة، إذ تبني طهران سياستها الخارجية على مبدأ "الاستقلال في القرار"، ورفض الانخراط في الأطر التي تُدار تحت هيمنة واشنطن أو حلفائها، وقد تجلّى هذا المبدأ بوضوح في موقفها من القمة، إذ رأت أنّ المشاركة في مؤتمر تُهيمن عليه القوى الغربية قد تُفسَر كتراجع عن الشعارات التي تتمسّك بها طهران في مواجهة "الهيمنة الأمريكية" و"ازدواجية الغرب".

كما أنّ توقيت القمة جاء في ظرف إقليمي تشهد فيه المنطقة تصعيداً سياسياً وميدانياً، لذلك لم يكن قرار الغياب معزولاً عن سياق المواجهة غير المباشرة مع واشنطن وتل أبيب، بل كان جزءاً من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تجنّب فخّ دبلوماسي قد يُضعف موقع إيران في توازن القوى الإقليمي. وتستند إيران في تبرير موقفها إلى اعتبارات عدة؛ أولها أنّ المشاركة في مثل هذه القمم قد تُفسَّر كتأييد ضمني لخطط سياسية تتعارض مع مصالح شعوب المنطقة، ولا سيّما الشعب الفلسطيني. القمة التي انعقدت ضمن مسار يماثل ما يُعرف بـ"اتفاقات أبراهام"، كانت في نظر إيران خطوةً باتجاه تطبيع جديد مع إسرائيل وتكريس دور أمريكي متجدد في المنطقة، وهو ما يتناقض مع سياسة طهران "الداعمة للمظلومين والمناهضة للهيمنة الأجنبية". وقد كانت طهران قلقةً من أن يكون الهدف من دعوتها ومشاركتها في هذا الاجتماع مجرد تعزيز الصورة التي يحاول ترامب رسمها بأنّ الجميع، بما في ذلك إيران، يدعمون خطته، وتالياً الوقوع في فخ سياساته الاستعراضية دون تحقيق نتيجة محددة أو عملية. 

كما رأت إيران أنّ المشاركة في هذا الاجتماع، خصوصاً بعد استهداف منشآتها النووية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، قد تُفسَّر على أنها نوع من التنازل أو التهاون، ما قد يُضعف عزّتها الوطنية ومكانتها الدبلوماسية في مواجهة الضغوط الخارجية. كما أنّ مثل هذه المشاركة قد تمنح ترامب فرصةً ليزعم أنه، دون تقديم أي تنازلات، وباستخدام القوة والضغط فقط، أجبر إيران على "الخضوع الكامل". وهذه النتيجة لم تكن مفيدةً لإيران فحسب، بل كانت قد تضعف أيضاً كرامتها الوطنية ومكانتها الدبلوماسية أمام الضغوط الخارجية.

يظهر هذا القرار فلسفة السياسة الخارجية الإيرانية: التمسك بالمبدأ حتى لو كلّف العزلة، مع الاعتقاد بأنّ الزمن سيعيد توازن القوى لصالحها، وأنّ كل مسار سلام أو تسوية لن ينجح دون مشاركتها أو موافقتها

ويرى صانعو القرار الإيرانيون أنّ الجلوس إلى طاولة تضمّ الولايات المتحدة وإسرائيل يُعدّ نوعاً من التطبيع السياسي مع أطراف تعدّها إيران مسؤولةً عن الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، ومن هنا رفض عراقجي كل محاولات ضم إيران إلى "اتفاقية أبراهام"، عادّاً أنّ الخطة خائنة ولا تتوافق مع مبادئ الثورة، كما يعكس القرار بعداً مرتبطاً بانعدام الثقة العميق لدى إيران تجاه القوى الغربية نتيجة التجارب السابقة مثل انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات، بالإضافة إلى خروقات إسرائيل المتكررة لاتفاقات وقف إطلاق النار. وترى إيران أنّ مؤتمر شرم الشيخ ليس منصةً حقيقيةً لمعالجة جذور الأزمات، بل أداة لتعزيز النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، إذ يهدف إلى إدارة الأزمات بطريقة تحافظ على مصالح القوى الكبرى على حساب استقلال القرار الإقليمي.

وكان من المتوقع أن يحضر بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل المطلوب للمجكمة الجنائية الدولية، القمة، إلا أنّ انسحابه بسبب قرب الأعياد اليهودية ورفض مواجهة مواقف صعبة، مثل الدعوة إلى حل الدولتين أو توجيه الانتقادات لإسرائيل بشأن ارتكابها جرائم حرب محتملة في غزة، جعل أي تواجد مشترك مع المسؤولين الإيرانيين أمراً مستحيلاً.

كذلك فإنّ المشاركة الإيرانية كانت لتُفسَّر على أنها تراجع من الجمهورية الإسلامية عن بعض أهم مبادئ سياستها الخارجية، بل ربما تُعدّ إقراراً ضمنياً بإسرائيل وبخطة الدولتين. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ حضور إيران في مؤتمر شرم الشيخ كان من شأنه أن يُعطي انطباعاً بأن طهران تقبل بمشروع "السلام عبر القوّة" الذي طرحه ترامب، وبالبرامج الهادفة إلى تشكيل نظام إقليمي جديد.

ومن خلال امتناعها عن الحضور، أرادت إيران أن تُظهر رفضها الانصياع لأي عملية سلام مفروضة أحادياً، مؤكدةً أنّ أيّ اتفاق فعّال يجب أن يعكس إرادة جميع الأطراف المعنية، ويأتي هذا القرار أيضاً ضمن موقفها الرافض للموافقة على مشاريع التطبيع الإقليمي، بما فيها خطط ترامب، ولإرسال رسالة واضحة عن استقلال القرار الإيراني وقدرته على عدم الانخراط في مشاريع لا تخدم مصالحها.

ومع ذلك، لم يخلُ هذا القرار من جدل داخلي، إذ رأى بعض المراقبين أنه قد يُفسّر دولياً كإشارة إلى عزلة دبلوماسية متزايدة، بينما عدّه آخرون تأكيداً على ثبات الموقف المبدئي لإيران، حتى إن كان الثمن فقدان فرصة المشاركة في صياغة ملامح المرحلة المقبلة في المنطقة، ويُعدّ قرار عدم المشاركة امتداداً طبيعياً لنهج السياسة الخارجية الإيرانية القائمة على الممانعة ورفض الاصطفاف، وإصراراً على أن تظلّ طهران صاحبة قرار مستقل لا يُملى عليها من الخارج.

الخسائر والمكاسب الإستراتيجية 

لم يكن غياب إيران عن قمة شرم الشيخ تفصيلاً هامشياً، بل خطوة تحمل في طيّاتها تحديات واضحةً وفرصاً محتملةً في آنٍ واحد. فهذه المقاطعة لم تخلُ من ثمن، إذ تركت آثاراً ملموسةً على موقع إيران الإقليمي وقدرتها على التأثير في مجريات الأحداث بالمنطقة. فالمؤتمرات الكبرى، مثل قمة شرم الشيخ، لا تُعدّ مجرد مناسبات رمزية، بل تمثّل منصاتٍ لصياغة التوافقات وتشكيل خرائط الطريق السياسية المقبلة. وبابتعادها عن هذه الطاولة، خسرت إيران فرصة التأثير المباشر في القرارات والبيانات الختامية التي قد تُحدّد ملامح المرحلة القادمة، ولا سيّما ما يتعلّق بالملف الفلسطيني، وجهود إعادة إعمار غزة، ورسم الضمانات التي يمكن أن تحمي مصالحها الإقليمية.

فغيابها قد يضعف أيضاً النفوذ الرمزي لطهران على الحركات الفلسطينية التي تمنحها الشرعية والدعم، إذ قد يشعر بعض هذه الحركات بأنّ إيران تتجنب المشاركة في المبادرات الكبرى، ما قد يضعف تماسك التحالفات. كما أنّ عدم الحضور يحدّ من قنوات التواصل مع بعض الدول العربية التي قد تختلف مع إيران في ملفات عديدة لكنها لا تغلق باب التفاهم، وتالياً تبقى هناك فجوة يمكن أن تُستغلّ لتعميق سوء الفهم السياسي، أو لإعادة صياغة التحالفات الإقليمية دون إشراف إيران.

إلى جانب ذلك، قد يُفهم الغياب على أنه علامة ضعف مضمرة، خصوصاً إذا لم يتم شرحه بوضوح أمام الرأي العام العربي، بما يترك انطباعاً بأن الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية تمنع إيران من المشاركة في الساحات الكبرى، وهو ما قد يعزز سردية العزلة ويضعف حضورها في صياغة المشهد الإقليمي المستقبلي. 

وقد تُشكّل غياب إيران عن قمة شرم الشيخ تحدياً كبيراً لها في المستقبل المحتمل. فقد تواجه ضغوطاً داخليةً من التيار الإصلاحي والنخب، مثل عبد الله رمضان زاده، الذي وصف القرار بأنه "إضاعة فرصة"، ما قد يضعف حكومة بزشكيان ويؤثر على رأس مالها السياسي. كما أثارت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي انتقادات تتعلق بـ"الجمود" وغياب المبادرة. 

على الصعيد الخارجي، قد تؤدي العزلة الدبلوماسية الناتجة عن رفض الدعوة وغياب اجتماع يضم أكثر من عشرين زعيماً عالمياً، إلى تهميش إيران نسبياً، وفقدان فرصة للتفاعل مع الولايات المتحدة وتقليل التوتر النووي، في حين قد تعزز تركيا وقطر موقعهما في المنطقة. كما قد يؤدي انخفاض النفوذ الإقليمي إلى إضعاف محور المقاومة، إذ قد يُثار التساؤل حول انسجامه ومنح منافسين مزيداً من المجال للتأثير.

فائدة محتملة أخرى من المشاركة كانت تتمثل في أنّ إيران، من خلال حضورها وفي ظل المشاركة الواسعة الإقليمية والدولية في قمة شرم الشيخ، لن تقع على الأقل في موقع المتهمين بمعارضة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ويمكن القول أيضاً إنّ بعض الدول المشاركة في هذا الاجتماع قد لا توافق بالضرورة على خطة ترامب، لكنها تحضر إما سعياً لتحقيق مصالحها أو خوفاً من غضب ترامب في حال رفضت الدعوة.

لم يكن غياب إيران عن مؤتمر شرم الشيخ حدثاً عابراً أو مجرد إجراء بروتوكولي يمكن تجاوزه بسهولة، بل كان قراراً سياسياً ذا دلالات عميقة في لحظة إقليمية بالغة التعقيد. فما الذي دفع طهران إلى اتخاذ قرار الغياب عن هذه القمة في لحظة إقليمية حرجة؟ 

على الجانب الآخر، حمل هذا الغياب بعض المكاسب الإستراتيجية. فقد حافظت إيران على مصداقيتها الأيديولوجية، مؤكدةً على التمسك بموقفها المبدئي الرافض لأي شكل من أشكال التطبيع أو المشاركة في ترتيبات يُنظر إليها على أنها تخضع لتأثير القوى الغربية. كما تجنبت الالتزامات السياسية المستقبلية التي قد تُقيّد حركتها أو تحدّ من قدراتها في الملفات الإقليمية الحساسة، بما فيها العلاقة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة أو المسار النووي.

كما أرادت من هذا الغياب أن ترسل رسالة احتجاج واضحةً رفضاً للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، مؤكدةً أنّها لا تشارك في مؤتمرات تجمع بين من يفرض العقوبات عليها أو يهاجم حلفاءها الإقليميين. داخلياً، عزز القرار صورة الاستقلال السياسي لطهران، مظهراً أنها لا تتنازل تحت الضغط، وأنّ سياستها تقوم على أساس الثبات والصمود، وهو خطاب يلقى صدى واسعاً لدى الرأي العام الإيراني ويعزز مكانتها لدى المحيط الإقليمي الذي يقدّر الثبات والمبادئ.

مع ذلك، تظلّ هذه الإستراتيجية محفوفةً بالمخاطر. فغياب إيران عن القمة يحدّ من قدرتها على التأثير العملي في المسارات الإقليمية المعقدة ويتركها خارج صياغة البيان الختامي للحدث. وقد يكون الخيار مريحاً على المدى القصير، لكنه يحمل خطر التهميش على المدى الطويل، لأنّ المقاعد الفارغة لا تصنع النفوذ، والحضور هو ما يمنح القدرة على إدارة التباينات ضمن الإطار الجماعي.

في النهاية، يظهر هذا القرار فلسفة السياسة الخارجية الإيرانية: التمسك بالمبدأ حتى لو كلّف العزلة، مع الاعتقاد بأنّ الزمن سيعيد توازن القوى لصالحها، وأنّ كل مسار سلام أو تسوية لن ينجح دون مشاركتها أو موافقتها. ومع ذلك، فإنّ التغيرات السريعة في المشهد الإقليمي لا تمنح إيران رفاهية الانتظار، فالغياب الطويل قد يتحول تدريجياً إلى تراجع عن التأثير، وقد يضطرها المستقبل إلى إعادة تقييم موقعها في المنطقة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image