رحلتي مع تجميد البويضات… جسدي حليفي الوحيد

رحلتي مع تجميد البويضات… جسدي حليفي الوحيد "أنا معكِ لا تخافي"

مدونة نحن والنساء

السبت 25 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

"إذا الله رايدلك يا بنتي، رح يطعمِك شو بدّك. غير هيك كلّه طق حنك". هكذا قالت أمي عندما فاتحتُها برغبتي في تجميد البويضات، إذ سيطر عليها الخوف من أن أُقدِم على هذه الخطوة، فلا أتزوج أبداً، ولا يطمئن قلبها عليَّ قبل أن ترحل عن هذه الدنيا.

أمي، كحال كثيرٍ من الناس، لا تعلم أنّ القانون يمنعني من استخدام بويضاتي المجمَّدة إذا لم أُبرز وثيقة زواجٍ رسمية، ولا تعلم أيضاً أنّ القانون شريك المجتمع في فرض القيود على النساء وأجسادهنّ وخياراتهنّ في بلدي.

رفضت صديقتي المقرّبة بدورها الفكرة، وهي أصغر سنّاً وأكثر انفتاحاً أو ادعاءً، لأنّ "هيك الدين بقول". أمّا صديقي، فقد دعمني ولكن رفض الفكرة في حال قررت خطيبته فعل الشيء نفسه يوماً ما.

فأيّ ردّات فعلٍ أتوقع من والدي وأخي، الابن الأكبر المدلّل و"وليّ عهد" العائلة؟ لم أتجرأ حتى على التفكير في سؤالهما. هل سيدركان بساطة ما أبحث عنه؟ كلّ ما أريد هو حقي في ألّا أخسر شعور الأمومة عندما تشاء الأقدار أن ألتقي بالشريك الذي أحب، من دون الخضوع لسلطة الساعة البيولوجية والعمل وفق توقيتها. ناهيكم عن اشتراط أن يكون الزوج من الطائفة الدرزية نفسها، ومن عائلة محترمة، وأن يملك بيتاً، وربما أن يكون قادراً على تحرير أموالنا المحجوزة في المصارف. شروط شبه مستحيلة لفتاةٍ خرجت من كنف العائلة وقررت أن تقرر مسيرها ومصيرها باستقلالية تامة. لكن أبسط الحقوق تبدو ترفاً صعب المنال في بلدنا.

"إذا الله رايدلك يا بنتي، رح يطعمِك شو بدّك. غير هيك كلّه طق حنك". هكذا قالت أمي عندما فاتحتُها برغبتي في تجميد البويضات، إذ سيطر عليها الخوف من أن أُقدِم على هذه الخطوة، فلا أتزوج أبداً، ولا يطمئن قلبها عليَّ قبل أن ترحل عن هذه الدنيا

لم أكترث لهذا كلّه. حملتُ قراري على عاتقي وسرتُ به وحيدةً، كما اعتدتُ في كثيرٍ من المحطات، رافضةً التأثر بأيّ رأيٍ خارجيّ. رفضتُ الاستسلام لأيّ عراقيل، حتى حالة التسمم التي تعرضتُ لها! نعم، أُصبتُ بتسمّم غذائيّ قبل موعد تلقّي الحقن بيومٍ واحد، وكأنّ جسدي نفسه كان خائفاً مما أنا مقبلة عليه، من الهرمونات الغريبة والثقيلة التي سأضخّها فيه لأيامٍ عدة.

احتجت إلى سنتين كاملتين لحجز موعدٍ في العيادة. لم تؤخرني أسباب مادية أو لوجستية، بل صراعاتٌ داخلية في رأسي. هل هذا خياري الأفضل، أنا الفتاة القادمة من مجتمعٍ درزيّ منغلق؟ وهل سيتقبّل زوجي الدرزيّ المستقبلي هذا القرار؟ هل سيقدّر حريتي؟ هل سيغفر لي ما فعلت؟ تكررت أسئلتي لنفسي وسط ماراثون من التناقضات، بين قناعاتي الشخصية، وضغوط مجتمعي، ومرجعيات عائلتي.

لكنني لم أتراجع. بلغتُ نهاية الماراثون الفكريّ الذي خضته، ليبدأ معه الماراثون الفعليّ: تجميد البويضات.

برغم وخزات الإبر اليومية التي رافقتني على مدار أسبوع، ظلّ جسدي وفيّاً لي، يرفض أن يخذلني أو يثقلني بالألم، وكأنّه يهمس لي: "أنا معكِ… لا تخافي، سنفعلها معاً". 

كان جسدي حليفي الأول والأخير، والرفيق الذي يدرك أنني أسير في هذه الرحلة وحيدةً، بلا دعمٍ من عائلة أو صديقٍ أو شريك. كلما أمسكتُ بالإبرة، كان يمدّني بقوة خفية وطمأنينة عميقة.

كان جسدي حليفي الأول والأخير، والرفيق الذي يدرك أنني أسير في هذه الرحلة وحيدةً، بلا دعمٍ من عائلة أو صديقٍ أو شريك. كلما أمسكتُ بالإبرة، كان يمدّني بقوة خفية وطمأنينة عميقة، وكأنه يعرف أنني أحتاجه أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

كنت أحرص عند زيارة أهلي على إخفاء انتفاخ بطني الذي تسببه الهرمونات. كانت ملابسي الفضفاضة تحقق دعوة أمي الدائمة: "الله يستر عليكِ يا بنتي"، علّها تحميني من أحكام لست مستعدةً لسماعها.

وجاء اليوم المنتظر. بعد عشرة أيام من الحقن الهرمونية اليومية -وما أدراكِ ما فعلته تلك الأيام بجسدي ونفسي- توجهتُ إلى العيادة ودخلتها "برجلي اليمين"، كما تقول الجدّات حين تدخل العروس بيتها. 

لكنني كنت وحدي، ترافقني صديقتي التي أصبحت بمثابة "إشبينتي" في هذا الحدث الفريد. كانت علامات القلق باديةً على وجه صديقتي أكثر مني، وأنا أُعطيها الرقم السرّي لهاتفي ورقم أختي، تحسّباً لأيّ طارئ، فهناك بنجٌ عام في انتظاري.

دخلت الممرضة، الفتاة الجميلة قلباً وقالباً، وبدأت تهيئني نفسياً قبل أيّ شيءٍ آخر. لمست كتفي ورجلي بلطف وهي تضعني على سرير العملية، وكأنها تباركني على هذه الخطوة.

"هل سأشعر وكأنني أنجبتُ طفلاً بعد العملية؟"، سألتها مازحةً، فضحكت وأجابتني: "أنا معكِ، لا تخافي".

تساءلت عندها كم مرةً كررت هذه العبارة على مسامع النساء: نساء عزبات أو متزوجات، جئن إمّا لتحقيق حلم الإنجاب أو للحفاظ على هذا الخيار للمستقبل. نساء يدفعن ثمن فعل التكاثر، وثمن استمرارية الزواج أو العائلة أو التراتبية الاجتماعية… أو حتى ثمن قيمتهنّ التي في نظر المجتمع لا تكتمل إلا بالإنجاب.

أخبرتني الممرضة سارة، لاحقاً، بأنني تكلّمتُ تحت تأثير المخدّر، وأنا غائبة عن الوعي. ارتبكت وسألتها: "شو خبّصت؟". هنا أدركتُ أنّ خوفي من أحكام الناس لحقني حتى وأنا تحت المخدر، وأنني كنت مرعوبةً من أن ينكشف سرّي. لكن سارة طمأنتني بابتسامة: "كلّ ما قلته هو أنك ذاهبة الليلة للسهر مع أصحابك!".

أكّد لي الطبيب أنّ العملية كانت ناجحةً، وأنهم سحبوا عدداً جيداً من البويضات، وأضاف مازحاً: "بس ما تكتري شرب الليلة".

أخبرتني الممرضة سارة، لاحقاً، بأنني تكلّمتُ تحت تأثير المخدّر، وأنا غائبة عن الوعي. ارتبكت وسألتها: "شو خبّصت؟". هنا أدركتُ أنّ خوفي من أحكام الناس لحقني حتى وأنا تحت المخدر، وأنني كنت مرعوبةً من أن ينكشف سرّي

ربما كان لاوعيي يدعوني للاحتفال بهذا القرار-الإنجاز. وبالفعل احتفلت، لكن في سرّي، دون شرب، وبفرحة خفيّة لم أشاركها مع أحد.

كنت أعرف تماماً ما أريده، وأعلم أنني سأظلّ في نظر هذا المجتمع "غير مكتملة". لكن الحرية عندي لم تكن مفهوماً نظرياً، بل هي فعل أسعى لممارسته يومياً. 

أكتب هنا تحت اسمٍ مستعارٍ، وأتمنى أن تصل كلماتي إلى أهلي ليعرفوا من أنا فعلاً، لأنهم لا يعرفون إلاّ النسخة التي تكيّفت لتناسبهم وأنجو من القيود المفروضة عليّ. لا يعرفونني. لا يعرفون صغيرة العائلة التي كبرت وحملت همومها وحدها.

ولكن هذه هي ابنتهم الحقيقية، وإن كنتُ أدّعي الفرح بنسختي الكاذبة. لم تكن الرحلة سهلةً، لكنني ممتنةٌ لأنني خضتها. لا لأجل بويضات قد لا أستخدمها يوماً فحسب، بل لأنني اخترتُ الثقة بقراري، وسرتُ فيه حتى النهاية… من أجلي أنا فقط.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image