قبل سنة بالتمام والكمال، انطلقت الحرب الإسرائيلية الموسَّعة على لبنان، ومعها انفتحت أبواب الجحيم. سقط مئات الشهداء خلال الأيام الأولى، وبدأت البلاد رحلةً طويلةً لم تنتهِ بعد.
قد يقال إنّ الحرب انتهت، لكنها في داخلي لم تنتهِ. لم تتوقف انفجاراتها في ذاكرتي، ولم يهدأ صدى أصواتها في أذني. كل ما تغيّر أنّ الخارج هدأ قليلاً، أما الداخل فلا يزال يعيش في حالة استنفار دائم.
منذ إعلان توقّف القصف وأنا أتمسك بجملة صارت لازمةً وجوديةً: "لقد قطعت مرحلة الوحش، وما دونها تفاصيل". هذه العبارة ليست مجرد كلمات؛ هي بمثابة تعويذة، سلاح غير مرئي أواجه به تفاصيل الحياة اليومية. كل مشكلة صغيرة، كل خيبة عابرة، وكل قلق وجودي، أضعها أمام هذه الجملة فتنكمش. أقول في سرّي: لقد عبرت مرحلة الوحش، ولن يهزّني شيء بعدها.
لكن هنا يبدأ الصراع الحقيقي: هل هذه الجملة انعكاس لقوة داخلية أو مجرد درع زائف أخبّئ وراءه خوفي الحقيقي؟ هل هي إعلان انتصار على الخوف أو إنكار لحقيقة أنّ الخوف غيّرني من الأعماق؟
الوحش كرمز للتجربة
الحرب، بالنسبة لي، لم تكن مجرد أحداث عسكرية أو قصف عابر. كانت مرحلة الوحش: اللحظة التي يتجسّد فيها الرعب في كل زاوية. الوحش ليس صورةً عسكريةً فحسب، بل شعور باللاجدوى، بفقدان السيطرة، وبأنّ الحياة يمكن أن تُسلب منك في ثانية. في تلك المرحلة كان الموت رفيقاً يومياً: احتمال أن تنجو كان يشبه احتمال أن تفنى، والخوف لم يعد عارضاً، بل صار قاعدة.
أحياناً أشعر أنني لم أخرج فعلياً من الحرب، حتى لو توقفت -نسبياً- أصواتها. صحيح أنّ الحياة عاودت شيئاً من روتينها، لكن داخلي ما زال يعيشها. جسدي يتصرّف كأنّ الخطر قائم: عيوني تترقب، أذني تلتقط أي صوت مفاجئ، وأعصابي في حالة استنفار
حين خرجت من تلك المرحلة حيّةً، بدا كل ما عداها أخفّ وزناً. مشكلات العمل، شجارات العلاقات، وأزمات المعيشة، كلها صارت تفاصيل صغيرةً أمام نجاة من موت جماعي معلّق فوق الرؤوس. هذه المقارنة قد تبدو طبيعيةً، لكنها ليست بريئة. في علم النفس تُعرَف مثل هذه الآلية بالعقلنة (Rationalization)، أي تحويل التجربة الكبرى إلى معيار يقاس عليه كل شيء. وهنا يكمن خطرها: قد تتحوّل إلى إنكار مستتر. الإنكار، كما شرحته آنا فرويد، ليس تجاهلاً واعياً بل آلية لاشعورية لحماية النفس من الألم.
لكن هناك أيضاً قراءةً أخرى أكثر إيجابيةً: ما أمرّ به قد يكون جزءاً مما يُسمّى النمو ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Growth)، وهو المفهوم الذي يشير إلى أنّ الإنسان، بعد التجارب المريرة، قد يعيد تشكيل وعيه ومعاييره بشكل يمنحه صلابةً جديدةً. بين الإنكار والنمو، يظلّ المعنى عالقاً، غير محسوم.
بين النجاة والعيش… فرط اليقظة كحياة
وقف إطلاق النار الحالي هشّ حدّ الانفجار. أحياناً أشعر أنني لم أخرج فعلياً من الحرب، حتى لو توقفت -نسبياً- أصواتها. صحيح أنّ الحياة عاودت شيئاً من روتينها، لكن داخلي ما زال يعيش في حالة Survival Mode مستمرة. جسدي يتصرّف كأنّ الخطر قائم: عيوني تترقب، أذني تلتقط أي صوت مفاجئ، وأعصابي في حالة استنفار. هذه الحالة تُعرَف في الأدبيات النفسية بفرط اليقظة (Hypervigilance)، وهي إحدى نتائج اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
العيش بهذه الطريقة ينهك الروح والجسد. كأنّ الحياة اليومية لا تملك وزناً كافياً لتعيدني إلى عاديّتها. لكن الغريب أنني في أحيان أخرى أشعر أنّ هذا الوعي الحادّ أنقذني: جعلني أكثر إدراكاً لهشاشة الحياة، وأكثر استعداداً لمواجهة الطوارئ. هل هذا وعي وقائي أو إعاقة؟ هل أنا أكثر قدرةً على التحمّل، أو أنني ببساطة فقدت القدرة على الاسترخاء؟
حين خرجت من الحرب حيّةً، بدا كل ما عداها أخفّ وزناً. مشكلات العمل، شجارات العلاقات، وأزمات المعيشة، كلها صارت تفاصيل صغيرةً أمام نجاة من موت جماعي معلّق فوق الرؤوس.
هنا يبرز السؤال الأصعب: هل أحتاج إلى العلاج كي أستعيد "طبيعتي القديمة”؟ أو أنني ببساطة تحوّلت إلى نسخة جديدة من نفسي، لا عودة إلى ما قبلها؟ علماء مثل جوديث هيرمان يقولون إنّ الصدمة تغيّر البنية الداخلية للإنسان إلى الأبد. فإذا كان الأمر كذلك، فربما لم يعد الهدف أن أعود كما كنت، بل أن أتعلم كيف أعيش بما أصبحت.
الروحانيات كلغة بديلة
وسط هذه القراءات النفسية، أجد نفسي أحياناً أبحث عن معنى آخر خارج القاموس الأكاديمي. الروحانيات تمنحني لغةً مختلفةً: ربما ليست هذه مجرد "أعراض”، بل عبور نحو وعي أعمق. في الفلسفات الروحية القديمة، حين يواجه الإنسان وحش الخوف ويخرج حيّاً، يُقال إنه يولد من جديد. الحرب، على قسوتها، أعطتني عيناً جديدةً أرى بها العالم: هشاشة الحياة، زوالها السريع، وقيمة اللحظة العابرة.
في هذه الرؤية، كل بسمة تصبح كنزاً، وكل صوت ضحكة يتحوّل إلى معجزة صغيرة. لكن لهذه الرؤية جانباً مظلماً أيضاً: أحياناً تعزلني عن تفاصيل الحياة اليومية، وكأنني لا أنتمي إلى عادية الآخرين. كأنني أعيش بنصف روح: نصف يرى في كل لحظة جمالاً وجودياً، ونصف عاجز عن الانغماس في اليومي.
هل هذا وعي أعلى أو مجرد محاولة لإضفاء معنى على ما لا يُحتمل؟ هنا أستعيد كلمات فيكتور فرانكل، الذي كتب من قلب معسكرات النازي: "من يملك سبباً يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمّل أي كيف". ربما ما أفعله هو بحث عن هذا السبب. وربما هو مجرد وهم آخر أسلّي به نفسي كي أحتمل.
سؤال الذات المفتوح
سنة مضت وما زلت أتأرجح بين القراءتين: النفسية والروحانية. أحياناً أرى نفسي إنسانةً أقوى، أعادت الحرب تشكيلها لتصبح منيعةً أمام التفاصيل. وأحياناً أشعر أنني فقدت حساسيتي، وصرت باردةً تجاه ما يوجع الآخرين، لأنّ مقياسي تغيّر.
عيناي الآن تلتقطان هشاشة الأشياء ككنوز صغيرة، ومرحلة الوحش صارت ميزاناً أقيس به الأشياء؛ ما كان يخلخلني بالأمس بات اليوم تفصيلاً صغيراً، لكنني أخشى أن يتحول الصمود إلى إنكار، وأن تتحول الحكمة الى قشرة تلمع وتخفي الألم تحتها
هل أنا في حالة إنكار كبرى للحاضر، أضع كل ما أعيشه في خانة "التفاصيل" هرباً من مواجهته؟ أو أنني ببساطة صرت أمتلك مهارةً مكتسبةً بالإكراه، تجعلني أكثر قدرةً على التحمّل؟ هل ما أمرّ به مرضٌ يحتاج إلى علاج أو حكمة قاسية لا تأتي إلا من التجربة؟
أحياناً أستعيد صورة الوحش كرمز داخلي: ربما لم أقتله، بل أصبح جزءاً مني. لم يعد يهاجمني من الخارج، بل صار يقيم في الداخل. هل هذا يعني أنني تماهَيت معه أو أنني تعلّمت أن أروّضه؟ الإجابة ليست سهلةً، وربما لن تكون يوماً.
لا أملك جواباً نهائياً. ما أعرفه أنّ الحرب غيّرتني، وأنّ جملة "لقد قطعت مرحلة الوحش" ستبقى معي، تارةً درعاً يحمي، وتارةً قيداً يعزل. ربما لا تكمن الصحّة في الإنكار ولا في التظاهر بالقوة، بل في الاعتراف بأننا جميعاً ما زلنا عالقين في مرحلة ما بعد الوحش. مرحلة لم تنتهِ بعد، مهما حاولنا إقناع أنفسنا بالعكس.
وفي انتظار أن تنتهي، يظلّ السؤال مفتوحاً: هل ما عشناه كان نقطة تحوّل نحو صلابة جديدة أو أنه مجرد بداية لمعركة أطول مع ذواتنا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.