عام على رحيل

عام على رحيل "نصر الله"... تجدّد الحزن الشيعي وسؤال الهوية

رأي نحن والتاريخ

السبت 27 سبتمبر 20258 دقائق للقراءة

اندلعت الحرب صباح الإثنين 23 أيلول/ سبتمبر 2024. سيطرت علينا حالة من الهذيان. لم نكن قادرين على استيعاب ما يحدث. كنا نترقّب، بخوف شديد، تكرار سيناريو غزة مرّةً أخرى! قرّر أهلي الانتقال إلى بعقلين، فقررت ترك عملي في بيروت، وإخلاء منزل عين الرمانة، واللحاق بهم. 

بدأت أرتّب أغراضي تدريجياً، وأودّع كل زاوية من البيت الذي حمل خيباتي وخذلاني، كأنني أستعد لإنهاء فصل كامل من حياتي قبل أن يبدأ فصل جديد. 

27 أيلول/ سبتمبر 2024… اليوم الذي أعاد تشكيلنا 

يوم الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر 2024، أنهيت عملي، وعدت إلى المنزل لألملم ما تبقّى من أغراضي. تناولت طعامي، لكن شعوراً مفاجئاً دفعني للخروج فوراً، كأنه حدس يفرض نفسه بلا تفسير. خرجت مسرعةً، مررت بشارع بدارو، فذكّرتني الزوايا والتفاصيل الصغيرة باللحظات التي لن تعود، كأنني أودّع المكان قبل أن يتغير كل شيء. طلبت سيارةً فوراً إلى الجميزة، حيث لجأ صديقي خليل ووالدته بعد تهجيرهما. 

نظرت إلى صديقي بلا أيّ تعابير: "مات نصر الله؟!"، وتوقف الزمن للحظة، ومعه تدفّق شريط حياتي كلّه، بكلّ ما حمله من تخبطات وتهميش عايشته في جنوب لبنان، ما زلت أدفع ثمنه منذ 30 عاماً

لم أكن قد وصلت، حتى بدأت الغارات المتتالية. بصوت لم أسمع له مثيلاً، هزّت المكان. استوعبت عندها أنّ الحرب بدأت فعلاً، وهو الشعور الذي ظللت أنكره بلا وعي خلال الأيام الأربعة الفائتة، وأنكر أنّ الضاحية الجنوبية ستُحرق أو أنها احترقت بالفعل. دخلت الحمام لأغسل وجهي وأعيد ترتيب أفكاري، بينما كان خليل يتابع الأخبار على التلفاز. فجأةً، شهق وقال: "إسرائيل تقول إنّ الشخص المستهدف في الغارات هو الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله"!

نظرت إليه بلا أيّ تعابير وقلت مباشرةً: "مات نصر الله؟!"، وتوقف الزمن للحظة، ومعه تدفّق شريط حياتي كلّه، بكلّ ما حمله من تخبطات وتهميش عايشته في جنوب لبنان، ما زلت أدفع ثمنه منذ 30 عاماً. وبات واضحاً بالنسبة لي أنّ ما بعد نصر الله لن يكون كما قبله!

عمّ الصمت ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاعت إسرائيل قتل نصر الله؟ كيف يمكن اغتيال من عُدّ وجوده ثابتاً في مصائرنا ومساراتنا الحياتية؟ نظرت بحسرة إلى خليل وشردت في وجهه الأصفر وعينيه المصدومتين، وتعابيره الباهتة، قائلةً في سرّي: سنطمس جزءاً من تكويننا الشخصي، وذكرياتنا الحافلة بالصدمات من الشمع، الصيف، صوت المراوح، بائع السردين وبائع الآيس، وكل تفاصيل طفولتنا البائسة... لم تعد لها أي أهمية بعد الآن، وكأننا في لحظة عدمية ستعيد تشكيل وعينا من جديد... وبالفعل أعلن حزب الله في اليوم التالي، في بيان، نبأ استشهاد نصر الله، الذي نزل كالصاعقة على الطائفة الشيعية. 

نصر الله والهوية الجماعية الرمز والكينونة في تشكّل المعنى 

عاشت الطائفة الشيعية لفترة طويلة، في ظلّ تهميش اجتماعي، سياسي، واقتصادي نتيجة الفوارق الطبقية التي كان يمثلها المجتمع اللبناني، ولا سيّما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وهذا ما جعلها في ما بعد في عملية بحث دائمةً عن أي معنى يتجاوز هذه الهشاشة. 

عاش الشيعة قبل ظهوره لفترة طويلة، في ظلّ تهميش نتيجة الفوارق الطبقية التي كان يمثلها المجتمع اللبناني، ولا سيّما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. 

ضمن هذا الإطار، ومع كل التحولات التي طرأت على الشيعة في لبنان، أصبح نصر الله رمزاً وجودياً، وممثلاً للمعنى الإنساني بالنسبة لهم. بعبارة أخرى، هو القادر الوحيد على تقديم الإجابة المطلقة: " نحن مقاومون... نحن مشاريع شهداء، إذاً نحن موجودون".

وقد حرص أيضاً وبشدّة على تكريس هذا المعنى في كلّ خطاباته، ليس من منطلق سياسيّ وحسب، بل كنوع من التكوين العاطفي والنفسي الذي تتوارثه الأجيال. وهذا ما يتقاطع مع فلسفة هيغل، الذي يرى أنّ الفرد لا يمكنه تحقيق ذاته، إلّا عبر عملية مستمرة من الانغماس في الروح الجماعية، أي في شخص أو كيان يمثّل الكل ويحتويهم، ما يعني أنّ الإنسان يختبر ذاته ويجد هويته من خلال ارتباطه بالمسلمات والمعتقدات التي تتجاوز وجوده الشخصي المحدود. 

لذا، فالتماهي مع شخصية نصر الله ليس تماهياً مع شخصه فحسب، بل هو تماهٍ مع الروح الموضوعية التي يجسدها، والتي توفر للطائفة الشيعية في لبنان إطاراً معنوياً يحدد وجودها ويمنحها القيمة والمعنى في مواجهة التحدّيات والحرمان الذي عاشته لفترات طويلة. 

كذلك، يعكس هذا التماهي علاقةً جدليةً بين الفرد والجماعة، حيث تُعيد الهوية الجماعية تشكيل نفسها باستمرار من خلال التفاعل بين الأفراد ورمزهم المشترك، الذي يمنحهم اليقين والانتماء في عالم مليء بالصراعات والفوضى. 

من ناحية ثانية، يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، إلى أنّ التواصل بين الأفراد في المجتمع هو أساس بناء الهوية الجماعية، وأنّ الرموز المشتركة -كالرمز الذي يجسده نصر الله- هي التي تمنح الأفراد القدرة على فهم وجودهم ومكانهم في العالم.  

كما يمكن فهم هذه الظاهرة، حسب عالم الاجتماع بيير بوردي، من خلال رأس المال الرمزي، أي القيمة المعنوية التي يمتلكها نصر الله والتي تمنحه القدرة على التأثير في الأفراد والجماعات، ما يعني أنّ الرموز ليست محايدةً، بل تشكل قوةً اجتماعيةً يمكنها إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية أو توجيه الهوية الجماعية، وهو واضح بتجلٍّ في شخصية نصر الله كرمز مطلق للكرامة التي تمنح حق الوجود. 

نصر الله… الأسطورة السياسية

كبرتُ على حكايات النضال؛ كانت جدّتي تروي لي كيف ضربت جندياً إسرائيلياً بالمكنسة. تلك الحكايات الصغيرة عكست وعياً جماعياً واحداً: نحن المقاومة، ولا شيء غيرها، فوجود إسرائيل على حدودنا جعل خيار المواجهة قدراً محتوماً، لا يمكن أن يتبدّل، إذ تعيدنا الأحداث دائماً إلى تاريخنا الحافل بالمحاولات الفطرية لمقاومة الاحتلال، بالسبل كافة.  

غيّر نصر الله مسار الطائفة من موقع الضحية إلى موقع الفاعل، معيداً تعريف العلاقة بينها وبين الدولة من جهة والمجتمع اللبناني من جهة أخرى. غير أنّ المحطة الحاسمة كانت حرب تموز 2006، التي ثبّتت ملامح الأسطورة: وحوّلته إلى أيقونة كاريزماتية عابرة للطوائف

إلاّ أنّ هذا الفعل العفوي والفطري أخذ شكلاً منظّماً في ما بعد مع التحولات الإقليمية. فمع انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني عام 1979، لم تعد المقاومة مجرّد ردّة فعل محلية، بل ارتبطت برؤية دينية وسياسية تتقاطع مع نصرة المظلوم، التي تكرسّها "السيرة العشورائية"، فبرزت المقاومة الإسلامية في لبنان مقدّمةً نفسها كحركة إسلامية مسلّحة مستمدّة من ولاية الفقيه في إيران، وتالياً حوّلت المواجهة مع إسرائيل من مشروع محقّ، إلى امتداد ديني وتاريخي منظّم.

لقد شكّل اغتيال الأمين العام لحزب الله الثاني السيد عباس الموسوي، عام 1992، نقطة تحوّل، إذ صعد نصر الله إلى القيادة، ليصبح بخطابه التعبوي وصوته الجهوري رمزاً لصياغة وعي جديد: المقاومة لم تعد مشروع حزب فحسب، بل مشروع جماعة تستعيد حضورها الوجودي، الديني، والسياسي. 

ومع تحرير الجنوب عام 2000، تجاوز نصر الله حدود التنظيم، ليتمّ تقديمه كرمز عربي وإسلامي؛ فالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط رسّخ صورته كقائد الانتصار الأول. إلاّ أنّ الأثر الأعمق انعكس على الطائفة الشيعية برمتها، التي عاشت لعقود في موقع "الحياة العارية"، وفق تصوّر جورجيو أغامبن، أيّ الجسد المعرّض دوماً للعنف والإقصاء من دون حماية سياسية فعلية، والتي وجدت في حزب الله ونصر الله كشخص، انتقالاً إلى موقع الفعل والقوة. 

هل بات من الضروري إعادة تشكيل علاقتنا بالمفاهيم التي فُرضت علينا مرات عديدةً وكانت سبباً في تهميشنا؟

وبهذا، غيّر نصر الله مسار الطائفة الشيعية من موقع الضحية إلى موقع الفاعل، معيداً تعريف العلاقة بينها وبين الدولة من جهة والمجتمع اللبناني ككل من جهة أخرى. غير أنّ المحطة الحاسمة كانت حرب تموز/ يوليو 2006، التي ثبّتت ملامح الأسطورة: نصر الله لم يعد قائداً حزبياً ولا رمزاً طائفياً، بل تحوّل إلى أيقونة كاريزماتية عابرة للطوائف، يقود الحرب من خلف الشاشة في حضور مضاعف بفعل الغياب. وهنا تتجلى مقولة جورج سوريل عن "الأسطورة السياسية" التي تشكّل وجدان الجماهير وتحفّزها على الفعل. 

اغتيل نصر الله وانهار حزب الله كقوة سياسية ومعنوية، وهذا واقع لا يمكننا الهروب منه، وسقط محور الممانعة في المنطقة. لكن ما يشغلني اليوم هو التساؤل: هل الممارسات التي همشتني كانت تمنح فعلاً قيمةً معنويةً للجنوب اللبناني، والتي لطالما رفضت الاعتراف بها كقوة مزعومة؟ لم أعد بعد إلى جنوب لبنان، ولا أعرف كيف ستكون علاقتي به، برغم أنني أعلم أن الجنوبيين قدّموا تضحياتهم المحقّة دفاعاً عن أنفسهم، بعيداً عن أي اعتبارات إقليمية أو سياسية.

فهل بات من الضروري إعادة تشكيل علاقتنا بالمفاهيم التي فُرضت علينا مرات عديدةً وكانت سبباً في تهميشنا؟ وهل صراعاتنا الحقيقية تتجاوز السياسة لتصبح صراعات وجوديةً، تبحث عن معنى للهوية، القيمة، والحرية وسط هذه الفوضى؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image