لطالما استقرّ في الوعي الجمعي للبشر منذ القدم أنّ الموت نهاية للألم ونقطة السكون الأخيرة في حياة الإنسان. لكن غابت هذه الحقيقة في بعض الأزمنة والمجتمعات التي رأت أنّ الموت يمكن أن يكون بدايةً لعذابات جديدة، عذابات لا تطال الجسد الحي بل الجسد الميت، حيث يحاكَم بعد موته ويُصلب جسده ويُنبش قبره وتُنتهك حرمة جثمانه، وكأنّ الموت لم يمنحه حق الغياب.
الراحة الموعودة في الموت إذاً لن تتحقّق لدى من يصرّون على محاكمة الأموات، فلا ضير عندهم في أن تبدأ المحاكمة بعد أن تصمت الأنفاس. حتى إن فنيَ الجسد لا ضير في ألا تنتهي آلامه. قصة محاكمة الأموات شهدت فصولاً عجيبةً ومثيرةً للدهشة، أحياناً كثيرةً حزينة وأحياناً نادرةً مبهجة. لكنها على أيّ حال عرفت اختلافات بين الغرب والشرق.
في الثقافتين، تُنتهك حرمة الموتى وتُنبش القبور وتعبث الأيدي بالجثامين أو ببعض بقاياها، لكن الأمر ينتهي في الثقافة الإسلامية والعربية غالباً عند هذا الحد، بينما تبدأ مرحلة أخرى في الثقافة الغربية، وهي مرحلة المحاكمة التي قد يترتب عليها عقاب أفظع وأشد.
برزت ظاهرة الاعتداء على حرمة الأموات وأجسادهم ونبش القبور في المنطقة العربية والإسلامية بشكل خاص في أوقات الصراع على السلطة أو الخلافات المذهبية، رغبةً في الانتقام. لكنها لم تصل إلى حالة "الظاهرة"... لماذا؟ وما هي أبرز الأمثلة عليها؟
أي أن المحاكمة في الثقافة العربية الإسلامية تُعقد في نفوس القائمين بها وعقولهم، ويُتحذ القرار بالإدانة ثم تمتد الأيدي للعبث بالأجساد المقتولة أو بالقبور والجثامين بعد الدفن، بينما تشهد الثقافة الغربية مراحل مغايرةً عدة، أولاها نبش القبر لاستخراج الجثمان أو بقاياه ثم المحاكمة فالعقاب. لكن في النهاية تلحق بالأجساد الإساءة نفسها.
الصلب وحزّ الرؤوس
برزت ظاهرة الاعتداء على حرمة الأموات وأجسادهم ونبش القبور في المنطقة العربية والإسلامية بشكل خاص في أوقات الصراع على السلطة أو الخلافات المذهبية، رغبةً في الانتقام من الخصوم والثوار والمناوئين الذين كانوا جزءاً من هذه الصراعات، وإمعاناً في التشفّي منهم، وسحب الشرعية منهم حتى بعد موتهم، أو ردع أنصارهم ومنع أي تمرّد محتمل وإبراز سلطة الدولة على الجسد في الحياة وبعد الموت.
لكن هذا الفعل لم يصل إلى حد الظاهرة أو التيار البارز، إما لإحاطته بالسرّية والكتمان أو لإحجام المؤرخين عن التأريخ له. وقد جاء في كتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، لأبي الحسن المسعودي، أنه بعد مقتل الحسين بن علي، بعث عمر بن سعد "برأس الحسين بن علي وقد ثقب دماغه على رأس رمح يطاف به كُور الشام ومدائنها حتى قدموا به على يزيد بدمشق كأنما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك".
وفي القرن الأول الهجري، عام 73 هجرية تحديداً، صُلب جسد عبد الله بن الزبير، بعد قتله بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، للتشهير به وردع أنصاره، بحسب ما ذكر الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك". وعن ذلك يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية": "بُعث برأس ابن الزبير مع رأس عبد الله بن صفوان، وعمارة بن حزم إلى عبد الملك، وأمرهم إذا مرّوا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها، ثم يسيروا بها إلى الشام، ففعلوا ما أمرهم به. ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصُلِبت على ثنية كداء عند الحجون -يُقال منكسة- فما زالت مصلوبةً حتى مرّ به عبد الله بن عمر فقال: رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صوّاماً قوّاماً، ثم قال: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فبعث الحجاج، فأُنزل عن الجذع، ودُفن هناك".
اغتصاب الموتى
وتشير الدراسة المعنونة: "ظاهرة نبش القبور في الغرب الإسلامي… بين الصراع السياسي والخلاف المذهبي"، لفريد سليم، إلى أنّ الأمر في الغرب الإسلامي وصل أحياناً إلى حدود بعيدة، منها اغتصاب موتى في قبورهم، وذلك لردع الخصوم السياسيين باعتبار أنّ ذلك هو مصير مؤكد لكل من ناوأ الحكم أو خالف المذهب. وتؤكد الدراسة ذاتها أنّ آخر خلفاء الدولة الأموية، مروان بن محمد، نبش قبر يزيد بن الوليد، وأخرجه من قبره وصَلَبَه.
في حين قام قائد جيوش العباسيين، عبد الله بن علي، بنبش قبور بني أمية وإحراق عظامهم بالنار، وكان قبر معاوية بن أبي سفيان أول قبر يتعرض للنبش والتخريب بمجرد صعود الدولة العباسية واستيلائها على دمشق. كما نبش قبر يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان. ويقال إنه "ضرب جسد هشام بن عبد الملك الذي وجده صحيحاً بالسياط، ثم صَلَبَه أياماً، ثم أحرقه ودقّ رماده ثم ذرّه في الريح". وقد تحقّق للعباسيين بذلك الردع الذي رغبوا فيه حيث "اشتد خوف بني أمية وتشتت شملهم واختفى منهم من قدر على الاختفاء".
وفي القرن الرابع الهجري، قتل القرامطة آلاف الحجيج وتركوا جثثهم بلا دفن في الحرم المكي كرسالة سياسية ودينية. أما الخليفة العباسي المتوكل على الله، فأمر جنوده عام 336 هجرية بنبش قبر الحسين بن علي في كربلاء ومنع الناس من إتيانه عندما اشتدّ خلافه المذهبي مع العلويين.
وفي المغرب العربي، والحديث لا يزال وفق دراسة سليم، وبسبب الخلاف المذهبي بين السنّة والشيعة "تعرّض أبو إسحاق بن البرذون وأبو بكر بن هذيل للقتل ثم رُبِطت أجسامهما بالحبال وجرّتهما البغال مكشوفين ثم صُلبا نحو ثلاثة أيام ثم أُنزِلا ودُفنا". وطُعِنَ في عقيدة وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب، واتُّهم بالزندقة وقُتل في سجنه ولم يتورّع خصومه عن نبش قبره وإحراق جثته بالنار. وفي ظل حكم المماليك والعثمانيين، عُلّقت الرؤوس على أبواب القاهرة وإسطنبول بعد إعدام المتمردين كرمز سياسي لإرهاب الخصوم.
إيذاء الموتى في الغرب
اقتصرت دوافع معاقبة الجثث في العالم العربي والإسلامي غالباً على الدوافع السياسية والمذهبية وبغرض الردع، فيما كانت دوافع محاكمات ما بعد الموت في الغرب متعدّدةً، بعضها لغرض سياسي وبعضها الآخر لغرض ديني، وبعضها وقف وراءه الدافع المادي، بينما وقع بعضها الرابع لغرض رمزي أو عقابي، وجاءت حالات منها لغرض ردّ الاعتبار.
الأصابع الثلاثة
أبرز القصص وأكثرها دراميةً، قصّة مجمع الجثث Cadaver Synod أو قصة البابا فورموسوس الذي تعرّضت جثته لعقاب شديد الغرابة. فقد نُبش قبر البابا السابق، وأُجلست جثته على كرسي المحاكمة، ثم بدأت محاكمته وانتهت بتجريده من منصب البابوية وقطع ثلاثة من أصابعه وهي الأصابع التي كان يقدّم بها التبريكات.
أما الغرض -كما اتضح بعد ذلك- فهو إلغاء جميع الأعمال والتعيينات الكنسيّة التي قام بها البابا السابق، وتمكين فصيل مغاير من تعيين أعضائه. والغريب أن هذه المحاكمة في النهاية أدت إلى اغتيال البابا ستيفن السادس الذي عقد المحاكمة.
التشويه السياسي
أما محاكمة موتى لأغراض سياسية، فحدِّث ولا حرج، حيث كانت هذه المحاكمات محاولةً لتشويه من يُحاكم ومن ثم التخلّص من خلفائه سواء كانوا من الورثة الطبيعيين أو الحلفاء في الفصيل السياسي نفسه.
من ذلك، على سبيل المثال، نبش قبر أوليفر كرومويل وإعدامه بتهمة الخيانة العظمى عام 1661، أي بعد مرور عشر سنوات على وفاته، حيث كان كرومويل قائداً عسكرياً وزعيماً سياسياً خلال فترة الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر، وكان من أبرز الشخصيات التي ساعدت في إسقاط الملكية الإنكليزية وقيام الكومنولث، فلما استعاد تشارلز الثاني العرش عام 1660، نبش القبر وأخرج الجثة وأعلن إعدامها علناً بسبب قيام كرومويل بإعدام الملك تشارلز الأول.
عقب المحاكمة، قُطعت رأس الجثة بعد إعدامها ووضعت الرأس في مكان عام كـ"علامة على النصر" الذي حقّقه النظام الملكي ضد القوى الجمهورية، وكان هذا الأمر جزءاً من التصفية السياسية التي قامت بها الحكومة الملكية الجديدة برئاسة تشارلز الثاني بعد استعادة الملكية.
دوافع دينية
لم تخلُ محاكمات الموتى في الغرب من دوافع دينية كانت أبرزها محاكمة البابا فورموسوس، والتي اختلط فيها الديني بالسياسي. المثير للدهشة، أنّ بعض هذه المحاكمات تمت بعد عشرات بل مئات من السنين، وإن كانت هذه الحالات لم تشهد استخراج الجثث وإخضاعها للمحاكمة فعلياً. من ذلك مثلاً، إعلان الفيلسوف اللاهوتي جون ويكليف، مهرطقاً بعد 30 عاماً من وفاته، حيث صدر قرار بحرق كتبه ونبش قبره وحرق عظامه وإلقاء الرماد في نهر سويفت.
بين التحريم في الشريعة الإسلامية، والتفاوت في تبريرها أو رفضها في الثقافة الغربية، تكرّرت حوادث محاكمة الموتى ومعاقبة جثامينهم أحياناً بعد سنوات عديدة من الموت وبذرائع تنوّعت بين سياسية ودينية واقتصادية
أما رئيس أساقفة كانتربري في القرن الثاني عشر، توماس بيكيت، الذي أعلن هنري الثاني رغبته في التخلّص منه، بسبب رغبة الملك في تحجيم سلطة الكنيسة ورغبة بيكيت في استقلالها، فتمت محاكمته بتهمة الخيانة في عصر هنري الثامن، أي بعد أكثر من 360 عاماً على وفاته.
جاء ذلك بعد أن عُدّ قديساً عقب وفاته، وعُدّ مقتل بيكيت اغتيالاً دينياً لا مجرد تصفية سياسية، وهو ما اضطر الملك إلى إعلان توبته والاعتراف بخطئه وطلب المغفرة. لكن هنري الثامن اتهم بيكيت بالخيانة بعد موته بسبب ما عدّته الحكومة الملكية "تصرّفات معاديةً" من بيكيت ضد الملك هنري الثاني، وحوكمت الجثة في محكمة دينية وأُدينت وأُحرقت عظامه وأُلقيت في النهر، فضلاً عن مصادرة كنوز ضريحه كعقوبة على تمرّده ضد السلطة الملكية. لكن على الرغم من محاولة هنري الثامن، تقويض مكانة بيكيت كقديس، إلا أنّ ما حدث هو زيادة التقديس الشعبي له حيث أصبح رمزاً لمعارضة السلطة الملكية.
الأسباب المادية
الأسباب المادية البحتة كانت حاضرةً أيضاً في محاكمات الموتى في الغرب، أي لغرض الاستيلاء على أموالهم ومصادرة ممتلكاتهم. مثال على ذلك قرار ملك إسكتلندا آنذاك وملك إنكلترا لاحقاً، جيمس السادس، محاكمة جثتَي الأخوين روثفن عقب اغتيالهما، وذلك للاستيلاء على أراضيهما، فلكي يتمكن من الاستيلاء على ممتلكاتهما، كان بحاجة إلى إثبات إدانتهما في المحكمة، فأمر بحفظ جثتَيهما في الويسكي والخلّ والتوابل إلى حين إخضاعهما للمحاكمة.
في السياق نفسه، أصدر ملك فرنسا في القرن السابع عشر، لويس الرابع عشر، الذي عُرف باسم "ملك الشمس"، مرسوماً عاماً يجعل الانتحار والمبارزة والخيانة جرائم يعاقَب عليها بالإعدام حتى لو كان المتهم متوفى بالفعل، أي أنّ الانتحار وإنهاء الحياة لم يكونا كافيين لتنتهي آلام المنتحر حيث كان يُخضع للمحاكمة ويعاقَب بالإعدام بعد ذلك. أما الغرض الخفي من هذا المرسوم، فكان الاستيلاء على ممتلكات المتوفى بهذه الطريقة. وقد نصّ القرار على أن تُحضر الجثة إلى المحكمة لمواجهة الاتهامات إذا كان ذلك ممكناً، وتعيين ممثّل للتحدّث نيابةً عنها. وكان يتولى هذه المهمة غالباً أحد أقارب الجثّة المتهمة. وإذا لم يكن هناك من ينوب عنها، كانت الدولة تعيّن محامياً للقيام بهذه المهمة. وفي حال صدور حكم بالإدانة، كانت تُجرّ الجثة إلى حبل المشنقة وتُعلّق من قدميها.
العقاب الرمزي أو الردع
برغم أن الجنرال كليبر، قُتِل بخنجر سليمان الحلبي، إلا أنّ السلطات الفرنسية لم تعدّه مغدوراً بل عدّته شريكاً في جريمة قتله، ووفقاً لما ورد في كتاب "أخبار المشيخة الفرنساوية في الديار المصرية"، لنقولا ترك، فقد عُقِدت محاكمة لجثمان القائد الفرنسي باعتباره مذنباً لأنه لم يتخذ الاحتياطات الأمنية اللازمة لحماية نفسه، ما سمح للحلبي بالهجوم عليه. وهذا النوع من السرد كان مستخدماً في بعض الأوساط السياسية والعسكرية لتحميل الضحية المسؤولية بشكل غير مباشر.
ردّ الاعتبار بعد الوفاة
رد الاعتبار بعد الوفاة هو مفهوم يشكّل نقيضاً للمعاقبة أو الإيذاء بعد الموت، وهو عمل رمزي يهدف إلى تصحيح الخطأ التاريخي أو استعادة السمعة الحسنة لشخص تضرّر اسمه أو أُسيء إلى سيرته الذاتية ظلماً بسبب حكم سابق، أي إعادة تقييم للأحكام التاريخية ومحواً لوصمة عار ربما لحقت بالشخص و/ أو بأقاربه.
وكما تنوّعت أشكال وأسباب محاكمات ما بعد الموت، تعدّدت صور عملية رد الاعتبار، بما في ذلك إلغاء الإدانة أو منح العفو أو التبرئة رسمياً. ومن أشهر الأمثلة التاريخية لأشخاص رُدَّ اعتبارهم، جان دارك التي أعيدت محاكمتها وتمت تبرئتها من تهمة الهرطقة بعد وفاتها. ومن أمثلتها أيضاً ما حدث مع البابا فورموسوس بعد إدانته في مجمع الجثث حيث قامت مجامع لاحقة بإلغاء محاكمته.
إيذاء الموتى بين التبرير والرفض
لكن بعيداً عن الوقائع نفسها باعتبارها أمراً وقع على أي حال، وباعتبار أن دوافعها كانت في الأغلب دوافع خفيّةً تتستر وراء تبريرات تبدو مشروعةً، يظلّ السؤال الملحّ: هل هناك أسس قانونية وفلسفية تبرّر أو ترفض إيذاء الموتى ومعاقبتهم؟ الحقيقة أنّ الأسس القانونية والفلسفية التي تبرّر أو على العكس ترفض تعريض الموتى للأذى والعقاب مسألة خلافية للغاية بين ثقافة وأخرى.
فقد حرَّمت الشريعة الإسلامية وتفسيرات الفقهاء نبش قبور المسلمين أو المساس بها إلا بمسوّغ شرعي. كما حُرِّم التمثيل بالجثث أو العبث بها، إلى درجة اعتبار أن ترك الإنسان دون دفن مُثلة، أي تنكيلاً وتعذيباً، فحرمة المسلم غير مقيّدة بحياته بل باقية أيضاً بعد الممات.
كذلك، "لا يجوز نبش القبور أو الكشف عن الموتى بعد إهالة التراب عليهم لمدة طويلة أو قصيرة إلا لعذر أو غرض أو مسوّغ شرعي صحيح"، وفق دراسة فقهية لياسر الحوسني وسعيد النقبي. ويتّفق الفقهاء على أنّ "الميت إذا وُضع في قبره فقد تبوّأ هذا المنزل وسبق إليه وصار داره ومنزله وهو حبس عليه، وقد سلّمه أهله إلى ربه، فهذا أول منازل الآخرة، فيكون القبر وقفاً على الميت ما دام فيه شيء موجود من بدنه حتى يفنى"، وفق الدراسة نفسها.
وعليه، فإن تعرّض القبر للنبش لا يُعدّ الميت مجنياً عليه وإنما المجني عليه الجماعة. ففي الثقافة الإسلامية السائدة في المجتمعات العربية الذين قاموا بمثل هذا الفعل حاولوا إلباسه لباساً مقبولاً بالقول إنّ هؤلاء الذين يُعبَث بقبورهم إنما هم من الزنادقة والكافرين. وعندها تجوز استباحة دمائهم وانتهاك حرمة قبورهم، وفق تبريرهم.
ويدخل ضمن ذلك حزّ الرؤوس بعد القتل، الذي يُعدّ نوعاً من التمثيل بالجثث حرّمته الثقافة الإسلامية برغم الممارسات المتكرّرة له في عهدَي الدولتين الأموية والعباسية، وقد ورد في "السنن الكبرى" للبيهقي، أنّ "هذه سنّة العجم".
الأسس القانونية والفلسفية في الثقافة الغربية
أما الثقافة الغربية، فشهدت تفاوتاً في تبرير أو رفض محاكمة الموتى ومعاقبة أجسادهم. فالأسس الفلسفية لرفض الإيذاء والعقاب بعد الموت ترى أنّ الموت يعني الحرمان من الإحساس. وعليه، يستحيل الإيذاء بعد الوفاة لخسارة الإحساس وهو مبدأ يستند إلى الفلسفة التجريبية للفيلسوف الإغريقي أبيقور، الذي يرى أن الروح مكوّنة من جزيئات أبدية لا تعرف الإحساس إلا عندما تكون متحدةًً مع الجسد، فيما الموت البيولوجي يمثّل إبادةً كاملةً للإنسان كأساس لوعيه الذاتي.
فإذا لم تكن هناك ذات واعية موجودة تتلقّى الضرر، لا يمكن أن يقع هذا الضرر. كما يرى أبيقور، أنّ الخير والشر يكمنان في الإحساس، والموت هو ببساطة حرمان من الإحساس، وبما أنّ المتوفى لا يمكنه أن يشعر لا بالألم ولا بالمتعة، فلا يمكن أن يتعرّض للشرّ أو يُحرَم من الخير، وهو ما قد يتفق مع قول الصحابية أسماء بنت أبي بكر، لابنها عبد الله بن الزبير: "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها".
غير أنّ فلسفة أبيقور هذه لاقت اعتراضاً من فلاسفة آخرين يرون أنّ الضرر يمكن أن يحدث دون أن يكون محسوساً، فهم يميزون بين الأذى بمعنى الألم، الذي يتضمّن المعاناة، والضرر الذي قد يلحق بمصالح الشخص مثل الإضرار بسمعته أو خصوصيته حتى إن لم يكن واعياً به.
أيضاً، من الأسس الفلسفية التي تستند إليها حجج رفض إيذاء الموتى، النظريات العقابية البحتة التي ترى أن هدف العقاب هو إجبار الجاني على المعاناة بسبب خطئه، وليس تحقيق نتائج مستقبلية كردع الآخرين أو إصلاح وتهذيب الجاني نفسه.
هناك مجموعة من النظريات الفلسفية التي تبرّر إيذاء الأموات ومعاقبتهم وتوسِّع مفهوم الإيذاء ليشمل سمعة المتوفى ووصيته وإبداعاته وطريقة معاملة جثته، عملاً بمبدأ أنه لو أُضرّ بهذه المصالح بعد موته يلحق به الضرر
ومن ثم فالعقاب الذي لا يشعر به الشخص لا يُلبّي متطلبات النظرية العقابية، لأنّ العقوبة لا يمكن أن تحقِّق هدفها المتمثِّل في إشعاره بالمعاناة، وترفض النظرية ما يقال من إمكانية إلحاق الضرر ببعض الجوانب التي تهمّ المتوفى بعد موته كالسمعة والعلاقات الاجتماعية وغيرها، وذلك لأنها ترى أن هذا النوع من المعاملة القاسية لا يرقى إلى مستوى المعاناة الواعية.
نظريات قبول الإيذاء
على الجانب الآخر، تقف مجموعة أخرى من النظريات تبرّر إيذاء الأموات ومعاقبتهم وتوسِّع مفهوم الإيذاء ليشمل المصالح والسمعة وحاجة المجتمع، منها نظرية الإيذاء غير التجريبي والمصالح المتسامية (Non-Experiential Harm)، التي ترى أنّ الأذى الذي يلحق بالميت بعد وفاته كان ممكناً أن يؤذيه لو كان حيّاً. فكل شخص قبل وفاته له مصالح سامية Transcendent Interests، يمكن الإضرار بها أو حمايتها بعد موته، من ذلك مثلاً سمعته ووصيته وإبداعاته وطريقة معاملة جثته. فلو أُضرّ بهذه المصالح بعد موته يلحق به الضرر.
يبرّر القانون الأمريكي مقاضاة التركة مدنياً للحصول على تعويضات عن الأضرار الناجمة عن الجرائم المرتكبة، لكنه يرفض محاكمة شخص ميت. وفقاً لهذا المبدأ، يمكن رفع دعاوى مدنية ضد تركة المتوفى، كما هو الحال في الدعوى المدنية ضد تركة المغنّي الأمريكي مايكل جاكسون لتعويض الأضرار الناجمة عن جرائم يقال إنه ارتكبها.
هناك أيضاً النظرية السياسية للقانون الجنائي التي ترى أن العقاب ليس شأناً فردياً بين الجاني والضحية، بل هو عمل يخصّ المجتمع ككل. والأخطاء الجنائية هي انتهاك للواجبات السياسية ولا تنتهي بوفاة مرتكبها، لذا يبقى سبب العقاب قائماً، لأن الهدف منه بعد وفاة الجاني هو الحفاظ على استقرار المجتمع السياسي، وطمأنة الضحايا بأنّ المجتمع يعترف بكونهم ضحايا، وإحباط خطط الجاني بالحفاظ على السمعة الحسنة.
لم يكن الموت إذاً نهاية الصراع بين الأطراف المتنازعة، بل كان بدايةً في كثير من الأحيان لجولة جديدة من العقاب، والثواب في بعض الأحيان. أما المحاكمة، فقد صُدِّقَ على قراراتها أحياناً قبل أن تبدأ حتى، سواء في أروقة قصور أو قاعات محاكم أو داخل نفوس وعقول القائمين بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



