شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما غضب الموتى في عصر الآلهة... وكانت الثورة في عصر الله

عندما غضب الموتى في عصر الآلهة... وكانت الثورة في عصر الله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 14 يوليو 202211:00 ص

عبر الكاتبان، لوقيانوس السميساطي (أو لوقيان) في "استفتاء ميت"، وجميل صدقي الزهاوي في "ثورة أهل الجحيم" وهما ابنا نهر الفرات العريق، عن غضب وثورة عالم الموتى، فجمعتهما السخرية من الرؤية الإنسانية التي حاولت جعل العالم السفلي مكاناً يتحقق فيه العدل. تقاطع ابنا الفرات في كشف رياء ثقافة أحياء عصرهما، فاضحين، كل على طريقته، كم أن الموت ومفاعيله ليس أكثر من ثقافة أحياء مختلقة. أليس الموت والحياة بعداً واحداً يجسد مغزى الوجود الإنساني!

إن التشابه بين لوقيانوس والزهاوي من جانب تجربتهما في التعليم لبعض فروع العلوم الإنسانية من جهة، وبلادهما التي كانت منارة للحضارة والثقافة ولم تكن في عصرهما بأحسن أحوالها من جهة ثانية، جعل لسخريتهما طعماً مراً.

ماذا لو كان العالم السفلي مكانًا يتحقق فيه العدل؟ قصتان ساخرتان من ابني الفرات عن غضب وثورة في عالم الموتى

الهبوط إلى عالم الموتى

يرسل لوقيانوس بطله المفضل مينيب السوري إلى عالم الموتى لسؤال واضح ويعود بجوابه، بينما الزهاوي، وبكامل قصيدته، يتحدث عن دافع اختياره الهبوط إلى عالم الموتى، ليقدم رفضاً وشكاً بثقافة أحياء عصره.

قرأ مينيب وهو فتى روايات هوميروس وهسيود عما كان يجري في الأولمب، بين أنصاف الآلهة وبين الآلهة أنفسهم، من تطاحن ومنازعات وخطف وطرد الوالدين وسفاح القربى، فتصور مينيب أنها أعمال شريفة ويستطيع التلذذ بها! ولكن في طور الرجولة سمع الشرائع تأمر بعكس ما يقوله الشعراء، وتحظر الزنا والخلافات والاغتصاب! فوقع في حيرة، لا يعرف كيف يضبط سلوكه.

وضع مينيب نفسه تحت تصرف الفلاسفة، فأصبح بين النيران بعد أن كان في الدخان، فأحدهم ينصحه بالاستسلام إلى اللذات لأن فيها كل السعادة، وآخر يقنعه بالزهد وقهر الجسد، وآخر يحضه على احتقار الثروة. لم يقبل عقل مينيب أن سلوك هؤلاء الفلاسفة كان يخالف أقوالهم، فمحتقر الثروة يتمسك بها ويحتمل كل الكثير في سبيل المال، ومن يزهد بالمجد كان يعمل ويتكلم في سبيله، ومن حضه على ترك الملذات كان منصرفاً إليها في حياته الخاصة! فقرر في إحدى لحظات حيرته هذه الذهاب إلى العالم السفلي ليقابل العراف العليم تيريسياس (عراف مدينة طيبة) ليعرف منه ماهي الحياة الفاضلة التي يختارها الرجل العاقل.

يقابل مينيب العراف الذي يمتنع عن الإجابة، لأن شقيق زيوس، ويدعى رادامانتوس وهو قاضي العالم السفلي، يمنع ذلك. وبعد إلحاح مينيب ينتحي به العراف جانباً ويخبره: "عيشة الجهلاء هي الأفضل والأحكم. فاقص عنك الرغبة الجنونية في تعليل الظواهر السماوية والتدقيق في الغايات والمبادئ، واحتقر هذه القياسات المعقدة، واعتبر ذلك كله ثرثرة باطلة، ولا تبحث في كل الأمور إلا عن شيء واحد، وهو استخدام الحاضر استخداماً حسناً والتمتع به، ودع أكثر الحوادث تعبر وأنت تضحك، ولا تنظر إليها نظرة جدية".

يلتقي الزهاوي في أثناء الحلم بملاكي الموت أنكر ونكير وأسئلتهم التقليدية: من أنت؟ وما دينك؟ ومن الذي عبدت؟ وغيرها، يجيب الزهاوي على معظمها بالشكل التقليدي، ولكنه وأمام بعض الأسئلة يُظهر الشك أو التأمل المستنكر أو عدم تصديق وهو ما لا يقبل به الملاكان أبداً، فبعد سؤاله عن قوله في الحشر والميزان والحساب والصراط والجحيم والجنة دفعة واحدة، يتمهّل الزهاوي الملاك ويعترف: "كان إيماني في شبابي جماً، وما به نذرة ولا تقصير. غير أن الشكوك هبت تلاحقني فلم يستقر مني الشعور. ثم عاد الإيمان إلى أن سلّه الشيطان الرجيم الغرور. ثم آمنت ثم ألحدت حتى قيل هذا مذبذب ممرور. ثم دافعت عنه بعد يقين مثلما يدافع الكمي الجسور.

وتعمقت في العقائد حتى قيل هذا علامة نحرير. ثم إني في الوقت هذا لخوفي، لست أدري ماذا اعتقادي الأخير"، ويسر باعتراضه على فكرة الصراط وطوله، فإذا كان كالشعرة أو حد السيف صاعداً وهابطاً ومستوياً، فكيف يكون العبور؟ كما أن الوقوع منه والخلود في النار مبالغة في العقاب.

وتبدأ أجوبة الزهاوي غير مقبولة لدى الملاكين، فهي ليست خارج التقاليد المنصوص عليها، بل أيضاً ترفض النصوص ذاتها أو معناها، فلدى سؤاله عن قوله في الجن والملائكة والشياطين وجبريل والعرش والخناس يعترف: "قلت لله ما في السماوات والأرض وما بينهن خلق كثير. غير أني أرتاب في كل ما قد، عجز العقل عنه والتفكير".

يُسأل عن الحجاب، فيعترف أنه يفضل السفور: "كيف يسمو إلى الحضارة شعب، منه نصف عن نصفه مستور". وعند السؤال: ماذا هو الله؟ يقدم جواباً فلسفياً وصوفياً جميلاً، ولكنه يلحقه بشكوكه: "اللهْو والله ليس بلاه، أم لجور والله ليس يجور. أمن الحق خلقُ ابليس وهو، المستبد المضلل الشرير. إنه يلقي في النفس شكوكاً، ذات أظفار نزعهن عسير". يسألانه عن ماهية ذات الله؟ فيعترف أن التفكير يخونه: "إنني لا أدري من الذات شيئاً، فلقد أسدلت عليها الستور. ما لكل الأكوان إلا إله، واحد لا يزول وهو الأثير. ليس بين الأثير والله فرق، في سوى اللفظ إن هداك الشعور".

يستعطف الزهاوي الملاكين ليتركاه بحفرته، ويستغرب أنهما يسألانه عن أمورٍ لا تغني ولا تضر، فهما لم يسألاه عن ضميره وجهاده ووفائه ودفاعه عن المظلومين والصدق وحفظه للفن، ويصفع التراث صفعة مدوية: "أسكوت عن كل ما هو حق، وسؤال عن كل ما هو زور!". يخبره الملاكان أن ما قاله عندهما لشيء حقير ولن يسألاه إلا حول الدين، وفي جعبتهما أسئلة عن جبل قاف وجبل الزمرد ويأجوج ومأجوج والسد وهاروت وماروت، وأمام إصرارهما على هذا السياق يعترف الزهاوي: "قلت مالي بكل ذلك علم، فبجحدي عقلي عليَّ يشير"، وأمام الإصرار عن السؤال من هو ربك؟ ينهار الزهاوي ويقول: "كان ظني أن الأثير هو الرب، كريماً يمدني ويجير. لم تزل لي ذات العقيدة حتى، حال من هول القبر في الشعور". يخبره الملاكان أنه ملحد وله بئس المصير، وأنهما سيدعانه يرى الجنة في طريقه إلى النار، فيتفنن بوصفها وضمن تصورات التراث التقليدية. ويصل إلى الجحيم وأهله.

قدم لوقيانوس الحيرة في حياة رجل يبحث عن الفضيلة، وجاء بجواب ينكر مذاهب وفلسفات عصره، بينما قدم الزهاوي نفسه باعتباره يمثل فهماً لفضيلة الرجل العاقل بشخصه ويمتحنها عالم الموت.

 بين الجمعية العامة والثورة

عاد مينيب من الموت وأخبرنا عن مقررات خطيرة لجمعية عامة عقدها للموتى تمس عالم الأحياء، وكانت الجمعيات العامة التي تضم جميع فئات الشعب في عصر لوقيانوس منبتاً للاضطراب والتمرد. بينما عانى شاعرنا الزهاوي بنفسه في قصيدته من تجرد نظرة الإسلام من معنى العدالة في محاكمة الموتى، فالظلم محقق بعد الموت أو هو استمرار لما هو حاصل في الحياة، فكانت الثورة أو الانقلاب على الله النتيجة المنطقية لتراكم المظالم. وبين قرار الجمعية العامة عند لوقيانوس وثورة الزهاوي على الله غضب وخطبة نارية لمظلوميةٍ متراكمةٍ تهين من كرامة الإنسان.

تحدث مينيب عن شخص برتبة بريتان؛ وهي رتبة حكومية في عصر لوقيانوس، دعا لعقد جمعية للنظر في قضايا تخص "الجمهورية" وهي الكلمة التي استعملها لوقيانوس في وصف عالم الموتى. نظرت الجمعية في عدة قضايا وانتهت بقضية الأغنياء الذين اتهموا بعدد كبير من الجرائم الشنيعة. فقام أحد "المتحزبين المتعصبين للشعب"، وقدم اقتراح معاقبة الأغنياء كسائر المجرمين لمخالفتهم للقوانين، بأن تعود أرواحهم إلى الأرض وتدخل في الحمير مدة مائتين وخمسين ألف سنة، وينتقلون من حمار إلى آخر حيث يسوقهم وينخسهم الفقراء ويسمح لهم بعد ذلك أن يموتوا. تتجلى ظرافة لوقيانوس أن صاحب هذا الاقتراح يدعى كارنيون ابن سكوليتون من قبيلة اليبانتيد، فيكون معنى الاسم جمجمة ابن هيكل عظمي من قبيلة الموتى، ويتم التصويت بالموافقة. طبعاً لا يلمح لوقيانوس بأي شكل إلى موافقة أو اعتراض أو حتى اهتمام الآلهة بهذا القرار أو لهذه الجمعية. 

يصل الزهاوي إلى الجحيم يقابل مشاهير من سبقوه. كانت بداية الغضب عندما عبر على لسان سقراط، وحوله من الفلاسفة والعلماء العرب والأوربيين، عن حقيقة نار الجحيم، وقال: "سوف يقضي فيها التطور أن نقوى عليها وأن تهون الأمور. إن في ذا الوادي السحيق عيوناً ثرةً للبترول فيها يغور. ولقد تنضب العيون فلا نار ولا ساعر ولا مسعور".

تتالى اختراعات أهل الجحيم من آلة تطفئ النار وأخرى يختفي بها الإنسان أمام الأعين، ويظهر فتى ما، ولا يحدد من هو (في اقتراب معنوي من لوقيانوس عندما جعل من متعصب لقضايا الشعب أحداً من الموتى وليس شخصية تاريخية) ويلقي خطبة في الموتى، يحرضهم فيها على الثورة ضد الله: "قال يا قوم إننا قد ظلمنا شرَّ ظلمٍ فما لنا لا نثور؟ ومن الناس من قضى الله أن يكفر والموت منه دان يزور فهل الحق أن يخلَّد في النار على الكفر ساعة مجبور".

ويقارن محدداً المظلم من وجهة نظر سكان الجحيم في علاقتهم مع الجنة: "ألنا أسفل الجحيم مقام ولهم في أعلى الجنان قصور؟! كل ما قد أصابكم من عذاب فله ممن في السماء صدور".

تعلن الثورة وينطلق الثائرون، وليس وصف الزهاوي زحف الثائرين "في صفوف كأنهن سطور"، إلا تأكيداً على خطورة شأن المعرفة التي تعلن ثورتها.

يقود المعرّي الثائرين، ويصطدمون مع زبانية الجحيم وتسرع الملائكة لردهم ويتحاربون بما يشبه الملحمة بين الشيطان وكائناته والملائكة وأشكالهم، متراشقين بالصواعق والبراكين والبحار والجبال: "وقد اهتز عرش ربك"، وتبدأ جيوش الملائكة بالانسحاب مدحورة، ويحتل الثائرون الجنة وقصورها، ويطردون منها البله ويبقون فيها المصلحين، ويستيقظ الزهاوي.

واقع الموتى عند الكاتبين

يستوي جميع الموتى في زمن لوقيانوس في عالم واحد كئيب، وهي معادلة مختلفة عن عصر الزهاوي أمام واقع الجنة والنار.

يقود المعرّي الثائرين ويصطدمون مع زبانية الجحيم وتسرع الملائكة لردهم ويتحاربون، متراشقين بالصواعق والبراكين والبحار والجبال "وقد اهتز عرش ربك"... تنسحب جيوش الملائكة ويحتل الثائرون الجنة وقصورها... ثورة في العالم السفلي

ينتقل مينيب في أنحاء العالم السفلي ناقلاً مشاهداته، فمينوس قاضي العالم السفلي لا تخلو أحكامه من المحاباة، وبعد المحكمة يرى مينيب أهوال التعذيب والشي بالنار، وهذا التعذيب هو من خيال لوقيانوس الخاص لخلو التراث السابق للأديان السماوية من ذكر للتعذيب في العالم السفلي. والموتى جميعاً متشابهون بعظامهم، وحتى الملوك المصريون المحنطون جيداً الذين لا يلبثون أن يصبحوا كالجميع المتحلل. والجدير بالذكر في مشاهدات مينيب هو شهادة ظلال الموتى على أفعال أصحابها، فيقترب بهذا من فكرة الإسلام عندما جعل من أعضاء الإنسان شهوداً على ما فعل في حياته.

يضع الزهاوي حكماء البشرية وأدباءها وشعراءها وعلماءها في النار. فهناك يشاهد الخيام منشداً: "اسقني خمرة لعلي بها أرجع شيئاً مما سبتني السعير. واصليني بالله أيتها الخمرة إني أمرؤ إليك فقير". ويشاهد الحلاج منشداً: "إنك الواحد الذي أنا منه، في حياتي شرارة تستطير. وبه لي بعد الظهور خفاء، وله بي بعد الخفاء ظهور. لم شئت العذاب لي ولماذا، لم تُجرّبْني وأنت منه المجير".

استوي جميع الموتى في زمن لوقيانوس في عالم واحد كئيب

كما يلحق الزهاوي مشاهير العرب بمشاهير اليونان والغرب المعاصر، من هيجيل وسبينسر وفيخته واسبينوزا وروسو ونيوتن وداروين.

الآلهة! الله! الموت بين عصرين

رفض الإنسان اعتبار الموت نهاية للحياة، فقد رافقت الموتى في قبورهم أدوات تدل على الاعتقاد بالحياة بعد الموت ومنذ أقدم العصور الحجرية. إن مطالعة السجل الخاص لنوعية هذه الأدوات يمثل جزءاً من تطور قصة الإنسان غير المتقبلة للموت كفناء.

قدمت عصور بداية الكتابة في سوريا القديمة تصورات لعالم الموتى تحت الأرض تحكمه إلهة أنثى ليصارعها على حكمه إله ذكر، فيصبح زوجها وسيداً على ذلك العالم، وبالمقابل كانت بقية الآلهة تعيش في السماء. ظهر عالم الموتى كعالم شاحب يعيش فيه الموتى متساوين، فلا عواقب على طبيعة السلوك الأخلاقي في أثناء الحياة، وإن وجدت بعض العواقب فهي من باب تشجيع سلوكيات في الحياة وتقديم العزاء للأحياء، كما يظهر بوضوح في نص حوار جلجامش وانكيدو العائد مؤقتاً من الموت، ومخبراً صديقه عن واقع الموتى وعواقب أفعالهم في العالم السفي.

جاءت الأديان السماوية وأصبح ما تحت الأرض مقراً للمذنبين ويدعى الجحيم، وعاش الفاضلون في السماء مع الله في الجنة، التي كانت سابقاً مقراً للآلهة. كُرس العذاب لمخالفي شرائع هذه الأديان والثواب لمطبقي نواهيها وأوامرها، وبمقابل التباس في مفهوم الجنة والجحيم في التوراة والإنجيل، وتشابه بعض صورهم بمبدأ العالم السفلي، جاء الإسلام واضحاً في هذين المفهومين، وساعدت التفاسير والأحاديث والمرويات الشعبية في تحول عالم الموتى إلى دار امتحان كما هو عالم الأحياء تماماً!

جاءت الأديان السماوية لتجعل ما تحت الأرض مقراً للمذنبين، وعاش الفاضلون في السماء مع الله في الجنة، التي كانت سابقاً مقراً للآلهة... ولكن ماذا لو شهد العالم السفلي حياة جديدة وثورة على هذا المصير؟ 

احتوى التاريخ الإنساني للموت، في سوريا القديمة قبل الأديان السماوية، على روايتين للموت، الأولى وهي الرسمية والمدونة في أجواء المعابد والقصور والتي قصد منها الحفاظ على المجتمع وفضيلته، مثل حوار جلجامش وانكيدو وآلف من الشذرات التي تتحدث عن هبوط الملوك إلى العالم السفلي والعناية بروح الأموات من خلال التقديمات الجنائزية، وحاولت هذه الرواية أن تخفف من عبثية الموت وقدره على الإنسان وجعله مقبولاً وجواباً لمغزى الوجود الإنساني، بأن يكون الجميع متساوين في العالم السفلي، مقابل مصاعب ومتاعب الحياة في العالم العلوي، أما الرواية الثانية فهي المشاغبة على الرواية السابقة والتي تطرح الشكوك حول خلاصتها لمغزى الوجود الإنساني، وتمثلها بوضوح المناظرة بين المتشكك والمؤمن في أدب بلاد الرافدين (وهي ليست نصاً دينياً بل أدبياً).

وطبعاً ثمة نخب سورية اعترفت بوضوح بعدمية الموت، مثل القصيدة الوحيدة للفيلسوف والعالم السوري بوسيدونيوس (135- 51ق.م) "دعوة إلى النسيان" قدمها إحسان هندي في كتابه "شعراء سورية في العصر الهيلينستي": "لماذا أنا ولدت؟ ومن أين أتيت؟ وكيف حدث أني موجود حيث أنا الآن؟ لا أعلم شيئاً، وكيف بوسعي أن أعلم أي شيء؟ أنا كنت لا شيء ومع هذا فقد ولدت وقبل مضي مدة طويلة سأعود ثانية إلى العدم. أنا لا شيء ودون أي قيمة. هذا هو مصير أي إنسان كما أرى. ولهذا املأ الأقداح بمزيج النبيذ الصافي ودعنا ننسى، لأنه عن طريق النسيان فقط يمكن لنا أن نتحدى العدم".

تقع قصة لوقيانوس في فضاء المشاغبة على ثقافات عصره المتناقضة والحاملة لبذور فنائها في نفع وخير الإنسان، وهي تتجاوب في حيثية تعذيب الموتى المذنبين، مع تفصيل حشر في فضاء ثقافة الموت نتيجة المظالم الكثيرة التي عانى منها الإنسان الحي الباحث عن العدالة في عالم بعد الحياة. وربما هو السبب النفسي الذي دفع المجتمع السوري القديم إلى إرسال إله ذكر "نرجال" ليحكم العالم السفلي كسيد عليه، بدلاً من سيدته التي كانت تعتبر الموتى سواسية كالأم التي لا تفرق بين أبنائها، فقام الإله الذكر بدور النظام الأبوي بسن القوانين لعالم الموت السفلي. ومن هنا كان انتصار فكرة الجنة والنار رؤيةً ثوريةً وجديدةً لمستوى أرقى من تنظيم معالجة المظالم ومحاولة التخفيف منها بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويقوم بهذه العملية إله واحد بملامح أبوية كاملة وبصراطه الصارم لتنفيذ العدالة، ولكن عدالته هذه تحولت مع الزمن إلى أحد مصادر البلاء والظلم، بعد أن كانت لزمنٍ ما فكرة ثورية لتحقيق العدالة، فأصبحت الثورة عليها واجباً إنسانياً.

"أنا لا شيء ودون أي قيمة. هذا هو مصير أي إنسان كما أرى. ولهذا املأ الأقداح بمزيج النبيذ الصافي… دعنا ننسى، لأنه عن طريق النسيان فقط يمكن لنا أن نتحدى العدم"... للفيلسوف والعالم السوري بوسيدونيوس (135- 51 ق.م.)

إن قصيدة الزهاوي، التي كتبها عام 1928 في العقد السابع من عمره، كانت مشاغبة بشجاعة على فكرة محددة تتجلى في انتفاء العدالة بعد الموت. إن الزهاوي يسجل بطريقته وتجربته انحطاط فكرة الجنة والنار كثواب وعقاب، منبهاً الأحياء إلى معنى الظلم والبؤس الممارس بهذه الإيمان. وما لم يتابعه الزهاوي عندما استيقظ من النوم كان الخلاصة الحقيقية لقصيدته، فماذا سيفعل الثائرون بالله بعد انقلابهم؟ هل كان الزهاوي سيتبنى موقف نيتشه الذي اعتبر أن الله قد مات؟ ويجعل الثائرين يكتشفون أن الملائكة والكهان يحكمون الحياة والموت باسمه، فيكونون هم الإله الجديد أو العدالة الجديدة بدلاً من الله؟ إن وقوف الزهاوي عند هذا الحد يجعل منه ذلك النوع من الملحدين الذين يعتبرون من كبار العاشقين لله.

إن تاريخ الرهبة والخوف المرافق لمصادفات الموت غير المتوقعة وملابساتها منع الإنسانية من ملاحظة أن المصادفة الأعقد تكمن في الولادة، وليس الموت، وهي ما يجعل من الحياة لغزاً يستحق أن نحياها وأن نعتقد بالأمل من أجلها. ليس ثمة من مصادفة أو لغزٍ في الموت إلا كهامش تفصيلي صغير ولا معنى له إلى جانب لغز الولادة وأبعادها، وربما نستعيد مع الولادة بعداً منسياً للربة الأم القديمة فتكون الثورة الحقيقية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard