عز الدين لولو... طالبُ الطبّ الذي روى للعالم قصة

عز الدين لولو... طالبُ الطبّ الذي روى للعالم قصة "مستشفى الشفاء"

حياة نحن والحقوق الأساسية نحن والحرية

الثلاثاء 7 أكتوبر 202514 دقيقة للقراءة

أجريتُ هذه المقابلة قبل أسابيع قليلة، ولم أكن أعرف أنّ الطريق إلى نشرها سيأخذنا صدفةً إلى تاريخ ذكرى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وربما إلى نهاية هذه الميتمة المستمرة منذ سنتَين، والتي طالت الحجر والبشر وخيرة شباب غزة، خاصةً صحافييها الذين لا ذنب لهم إلا أنهم ينتمون إلى فلسطين والمقهورين في هذا العالم.

في زمن الأزمات، يتجاوز الإعلام الرسمي حدوده، ويعلو صوتُ المواطن الصحافي. وفي قطاع غزة تحديداً، حيث تُقصف الأبنية قبل أن تُروى الحكاية، برز الطبيب والفنان عز الدين لولو بكونه أحد أبرز وجوه صحافة المواطن خلال العدوان الإسرائيلي الأخير.

لم يكن مُراسلاً معتمداً، ولا يحمل تصريحاً إعلامياً، لكنه حمل هاتفاً... وقلباً لا يعرف الحياد. مارس الصحافة من دون دراسة، مبتدئاً طريقها من بوابة المواطَنة، ليوثّق عدداً من الأحداث خلال حصار أحكم قبضته على شمال القطاع منذ بداية حرب الإبادة وحتى يومنا هذا. 

من على أنقاض المستشفيات، وفي ممرّات غرف العمليات، بدأ عز الدين بتوثيق ما يجري من حوله بعدسته الشخصية. لم تكن منشوراته مُعدّلةً أو مُحرّرةً، وإنما خامٌ كما هي: دماء، وصراخ، وخوف، ووجعٌ فلسطينيٌّ مكشوف بلا صوت خارجي. بهذا النهج، أعاد تعريفَ الصحافة من الميدان على أنها فعل مقاومة ومُشاركة، لا مجرّد مراقبة عن بُعد.

أبناء غزة

عز الدين لولو طبيبٌ وفنانٌ من قطاع غزة. قبل الحرب كان شخصاً متعدّدَ الهويات: رساماً، لاعب كرة قدم، ومُتعاقداً مع "الجزيرة الوثائقية"، كما حصل في الحرب على لقب سفير النيات الحسنة لدى الاتحاد الأوروبي.

يقول لرصيف22: "كان ميلادي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وكان آخر يوم احتفلتُ فيه مع عائلتي جميعها قبل أن تبدأ الحرب. ولأنّ والدي علّمني بأن على المرء أن يردّ الجميل لأهله ووطنه ودينه، فقد قرّرتُ التطوُّع منذ ثاني أيام الحرب في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، وقد كنتُ طالباً في السنة الخامسة في كلّية الطبّ".

أغلق عزّ الدين هاتفه لأنه قرّر التركيز خلال عمله، فمكث شهراً كاملاً بعيداً عن عائلته. ومع أولى موجات النزوح لإخلاء المستشفى، كان عددُ المرضى مع المُرافقين والطواقم الطبّية يقارب 70 ألف شخص، وكان الجمعة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 يوماً فاصلاً: إمّا أن يخرجوا أو يبقوا مُحاصَرين. وبعد موجة النزوح، لم يتبقَّ سوى نحو 7 آلاف شخص داخل أروقة "الشفاء".

كان أمام عز الدين خياران؛ جميع أفرادِ عائلته طالبوه بالمغادرة، وإنما والده وحده قال له: "استخِر". وبعد الاستخارة، قرَّر البقاء: "أخذتُ عهداً على نفسي بألا أخرج من المستشفى"، يقول.

لم يكن عز الدين لولو صحافياً معتمداً، بل طالب طب قرر التطوع في مستشفى الشفاء مع بداية حرب الإبادة على القطاع، ليبقى هو الشاهد الوحيد بعدما غادر معظم من في المستشفى مع أوامر الإخلاء الإسرائيلية، ومصدر الإعلام في العالم عما تفعله إسرائيل بالمرافق الصحية

بذلك كان آخر مَن تبقّى في "الشفاء"، فشعر آنذاك أنه لا بدّ من التوثيق، لا سيّما في ظلّ غياب الصحافة. يتابع: "ما كان في صحافة، فحسّيت لازم أصوّر، خفت تروح كثير لقطات وصور. وثّقنا أنا وزميلي استشهاد ثمانية أمامنا كنتُ قد لقّنتُهم الشهادة بنفسي، ودفنّا شهداءَ في الساحة بأيدينا. كنّا، نحن الأطباء، نحفر قبوراً ونشارك في الدفن. وهذا من أصعب المَشاهد التي وُثِّقت". 

آنذاك بدأ عددٌ من المؤسّسات الإعلامية العربية والغربية بالتواصل معه مُراسلاً لها بصفةٍ رسميةٍ، لعدم وجود صحافة. يوضح: "في كلّ مرة كنتُ أرفض. ببساطة، أنا طبيبٌ فقط، ولستُ صحافياً. كنتُ أصوّر لحظةً أو حادثةً شعرتُ أنه ينبغي أن تُوثَّق. قلتُ للمؤسّسات الإعلامية: المواد على صفحتي وبالإمكان نشرها".

وبهذا لم يتوقّف عن التوثيق رغم رفضه الظهور مراسلاً رسمياً. لم تكن منشوراته مجرّد توثيقٍ، فقد أسهمت في صياغة السردية الفلسطينية بلغة بصرية إنسانية، خارجة من عمق المعاناة، لا من وراء الميكروفون. وفي بيئة إعلاميةٍ متحيّزة غالباً، قدَّمت شهاداته المصوَّرة سرداً مُغايراً يصعب إنكاره أو تهميشه. وبهذا أسهم في إعادة توجيه الرأي العام العالمي، ليرى في الغزيّين بشراً لا مجرّد "أرقام".

استهداف عائلته

وعلى الرغم من استهداف عائلته في مدّة الحصار، أطلَّ لولو عبر حسابه في "إنستغرام" لشعوره أنه لا بدَّ من كشف الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ عائلته، التي على أثرها استُشهد 22 شخصاً إلى جانب والده.

بعد تلك الواقعة، كان قد تواصل معه الاتحاد الأوروبي لتسهيل خروجه من غزة، لكن عزّ رفض مغادرة القطاع، كما رفض فرصاً عدة مثل دعوة من جامعة "هارفارد". 

خلال تلك المرحلة، راودته فكرة تأسيس المؤسّسة، وكان ذلك بعد أربعة أشهر من استهداف عائلته واستشهاد والده. فأطلق "Samer Foundation"تيمّناً بروحه، لتكون داعماً للنظام الصحي وطلاب الطبّ في غزة، والآن قد مضى على تأسيسها عامٌ. يقول: "أردتُ العمل مع مؤسّسات دولية في غزة، لأنها وحدها القادرة على الوصول في القطاع. حاولتُ طلب المشورة من معارف وأصدقاء وكوادر طبّية خارج القطاع. وكنتُ قد تواصلتُ مع الدكتور محمد غنيم، وأوضحتُ له رغبتي في العمل مع مؤسّسات دولية، فردَّ: الآن أصبحتَ موثوقاً به بين الناس، فلماذا لا تنطلق من هذه الثقة نحو مؤسّسة أخرى؟". 

في مجزرة عائلية، قتل 22 فرداً من عائلة معتز، بمن فيهم والده الذي كان بالنسبة له ضميره وسط الإبادة.

استعاض عزّ عن الكاميرا الاحترافية بهاتف محمول، وعن منصة إعلامية بحسّ إنسانيّ ووعي بصريّ حادّ. ورغم ذلك، وصل صوته أبعد مما يصل صوت القنوات الكبرى. نُشرت أعماله ومقاطع الفيديو التي وثّقها في مجلات وصحفٍ عالمية مثل "The New York Times"، و"El País"، و"The Telegraph"، بفضل منصات توزيع المحتوى مثل "Demotix" التي استقبلت محتواه بكونه مواد إعلاميةً حصريةً من الميدان.

واليوم، يرى عز الدين نفسه شخصاً قيادياً إنسانياً وسط الحرب، فيوضح: "أشعر أنّ ما أفعله له تأثيرٌ أكبر من أيّ علاج. حاولتُ استغلال حضوري في مواقع التواصل ليس من أجلي فقط، وإنما من أجل أن أساعد كلَّ طلاب الطبّ في غزة وأُسلّط الضوء عليهم من خلال هذه المؤسّسة التي كانت نواة الفكرة الأساسية لها أنّ طلاب الطبّ هم الذين حملوا الطوارئ منذ بداية الحرب. الآن أحمل على عاتقي الأمانة والمسؤولية؛ إذ أصبحتُ أرى في نفسي المسؤول عن طلاب الطبّ في غزة من خلال توفير الدعم المادي أو المعنوي، وإكمال مسيرتهم التعليمية رغم الحصار". 

استطاع عز من خلال توثيقه في مواقع التواصل خَلْق فرص عدّة للتواصل مع مؤسّسات داعمة؛ ولاحقاً كان لهذه الخطوة بالغ الأثر، إذ أصبحت معظم المؤسّسات تُخصّص ميزانية لدعم مشاريع ضخمة لطلاب الطبّ؛ بسبب الصورة التي استطاع أن يخلقها بإضاءته عليهم؛ هم الذين أدّوا أدوار الأبطال رغم شحّ الإمكانات وقسوة الظروف.

وكان من ضمن المشاريع التي قدّمتها المؤسّسة، دعم طلاب الطبّ بمصروف شهريّ، وقد بلغ عددهم 76 طالباً لمدة 6 أشهر. هذا المشروع جعل التعليم الطبّي في غزة ينتعش. يقول عزّ: "الأطباء أخبروني أنّ الطلاب افتقدوا أجرة المواصلات لبلوغ أماكن تدريبهم. وبهذا المشروع استطاعوا العودة إلى العمل في المستشفيات". 

أيضاً، من مشاريع المؤسّسة، ترميم قاعات لطلاب الطبّ في القطاع؛ نحو أربع قاعات طبّ في المستشفيات، وتسليم طرود إسعافات أولية، وكذلك افتتاح أول "Medical Hub" في غزة يُغطّي 400 طالب.

سمير فاونديشن... لروح الأب

كما جرى العمل على جوانب أخرى، منها تنظيم ورشات تدريبية. ومؤخراً مُنحت مؤسّسة "Samer Foundation" رخصة بكونها منظّمة غير ربحية في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى إنشاء برنامج يضمّ 357 سفيراً ما بين طالب وطبيب في 47 دولة، توحّدهم غاية واحدة هي الوقوف مع الإنسانية والسعي نحو نظام صحيّ أفضل.

أما رسالته إلى الصحافيين في غزة، فهي: "جميعنا شهدنا على استهداف الصحافيين حسن أصليح، ومحمد قريقع، وإسماعيل الغول، وكيف أنّ كلمة الحقّ قد قتلتهم. ومع ذلك استمرّوا. الصحافي والطبيب كانوا مقاتلَيْن. لذلك على الصحافة الدولية أن تكون لسان الصحافيين في غزة وتنقل صوتهم".

ويضيف: "صحافة المُواطن قادرة، وبشدّة، على نقل الصورة، وبالتالي، إحداث التغيير في الرأي العام العالمي؛ فالصحافي ليس فقط مَن يمتلك تصريحاً، بل هو كلّ مَن يُمسك الكاميرا بأخلاقية ليُوصل الحقيقة". 

بعد أربعة أشهر من استهداف عائلته واستشهاد والده. أطلق معتز "Samer Foundation" تيمّناً بروحه، لتكون داعماً للنظام الصحي وطلاب الطبّ في غزة، من خلال المنح التعليمية وتجديد المرافق الطبية وتسهيل التدريب

ما يميّز تجربة لولو أنها لا تأتي من خلفية إعلامية، بل من تقاطُع ثلاث هويات: الطبيب، والفنان، والناشط. هذه التقاطعات منحت مادته الإعلامية عمقاً إضافياً، إذ امتزجت المهنية الطبّية بالحسّ الجمالي والالتزام الأخلاقي، لينتج عنها خطابٌ بصريٌّ وإنسانيٌّ مؤثرٌ يتجاوز التنميط الصحافي المعتاد.

عزُّ الدين هو واحدٌ من عشرات الفلسطينيين الذين مارسوا "صحافة المواطن" بوعي وإخلاص، لكنه نموذجٌ بارزٌ يختزل قدرة الفرد، حتى تحت القصف، على التأثير في السردية الإعلامية العالمية. وفي زمن أُغلقت فيه الحدود أمام المراسلين، يصبح المواطن هو الصحافي... الصوت الأخير قبل الصمت.

لم تقتصر تغطية عز على توثيق الألم الفلسطيني والإضاءة على طلاب الطبّ في غزة، فتعدَّت ذلك إلى الإسهام العمليّ في إجلاء عدد كبير من المرضى للعلاج من خلال عرض حالاتهم عبر منصّاته الرقمية.

وردَّ على سؤال وجّهته له بشأن فيديو كان قد أظهر فيه وجه طفلٍ، إذ إنّ ذلك يُخالف أخلاقيات المهنة الصحافية، بالقول: "بكوني طبيباً، لا أرى تنافياً مع أخلاقيات المهنة؛ فقد أُجلي الطفلُ للعلاج في الخارج لأنني عرضتُ حالته وشرحتُ وضعه بالكامل. وقبل كلّ شيء، أطلب الإذن من الأهل، وأكونُ مدركاً لتفاصيل الحالة قبل استخدام هاتفي للتصوير. وأرى أنّ هذا الفعل ليس مجرّد توثيق، بل مُساعدة عاجلة". 

ما يُميّز تغطية عز الدين عن غيره من المواطنين الصحافيين أنه ظلَّ يتحرّك ضمن مساحة من الوعي والمسؤولية الأخلاقية، في وقت يتسابق فيه كثيرون على نشر المواد بغرض زيادة المتابعات لحساباتهم الشخصية، ولو كان ذلك على حساب سمعة الآخرين أو كرامتهم. مثل هذه الممارسات قد تدخل في نطاق "جرائم النشر"، لِما تُسبّبه من أضرار تمسّ الأشخاص المصوَّرين، بينما يرى بعض الناشطين في المحتوى الإنساني مجرّد وسيلة لاستعطاف الجمهور لأغراض شخصية.

الأخلاق تجد مكانها وسط الإبادة

لكن عز الدين، بصفته طبيباً قبل أن يكون مواطناً صحافياً، كان يعي تماماً القيم الأخلاقية التي تضبط النشر الإعلامي، ويتحرَّى الظروف المُلائمة لمعالجة المعلومات ونقلها إلى الجمهور بصورة لائقة. بهذا المعنى، يُشكل نموذجاً لتجاوز "الفوضى التواصلية" التي تحدَّث عنها هابرماس؛ فبينما قد تنزلق بيئة الاتصال الرقمي إلى فوضى تتداخل فيها الأصوات وتضيع معها المعايير، فإنّ عز قدَّم ممارسةً اتصاليةً واعيةً ومنضبطةً تُثبت أنّ بإمكان الفرد، حتى في أشدّ الظروف قسوةً، أن يفرض مساراً أكثر أخلاقيةً ومسؤوليةً داخل المشهد الاتصالي الفوضوي.

وإذا كان عز الدين لولو قد قدَّم نموذجَ الطبيب الموثِّق الذي جعل من المستشفى منبراً إعلامياً وصوتاً إنسانياً عابراً للحدود، فإنّ أحمد جمعة اختار مدخلاً آخر أكثر خفّةً وسخريةً ليُعيد صياغة المعاناة الفلسطينية في قالب يوميّ قريب من الناس. بين الجديّة الثقيلة لتوثيق الدم والدمار، وخفة الظلّ التي تُحوّل الوجع إلى مادة قابلة للتداول، تتّضح فسيفساء "صحافة المواطن" في غزة، حيث كلُّ فرد يجد زاوية ليُعيد بها سرد الحكاية.

عزُّ الدين هو واحدٌ من عشرات الفلسطينيين الذين مارسوا "صحافة المواطن" بوعي وإخلاص، لكنه نموذجٌ يختزل قدرة الفرد، حتى تحت القصف، على التأثير في السردية الإعلامية العالمية.

أحمد جمعة، الذي اشتهر عبر منصات التواصل الاجتماعي بطرحه الكوميدي لمعاناة الغزيين، استطاع أن يُحوّل أبسط تفاصيل الحياة اليومية إلى قضايا رأي عام.

يقول: "أعلم أنّ الناس لا يُحبّون الأخبار. قد يتعاطفون لشهر أو شهرين، وفي النهاية يحلُّ الملل. لذا، أحاول تمرير رسائل من خلال المادة التي أشاركها".

سبق لجمعة أن عمل بعقدٍ مع منصة "وجهة" لعامين، كما تلقى مؤخراً عرضاً من مؤسّسة "Media Blank" لكنه رفضه، موضحاً: "أفكر بشكل جدّي مع انتهاء الحرب في حذف كلّ حساباتي في منصات التواصل والتفرُّغ لعمل آخر، لميلي إلى أسلوب حياة أكثر عملية".

وعلى الرغم من أنّ عمله في الإعلام لا يتجاوز حدود "الهواية"، فإن جمعة تمكّن بعفويته من جذب تفاعل واسع، إذ وصل مؤخراً إلى خمسة ملايين متابع في "يوتيوب".

ومع ذلك، لا يعتبر نفسه صاحب محتوى موجَّهاً أو قدوةً للآخرين، بل يرى في المنصات الرقمية –مثل "يوتيوب"، و"إنستغرام"، و"تيك توك" و"فيسبوك"– مجرّد فضاءات يُشارك فيها روايته الشخصية ويُحاكي واقعه اليومي بعيداً عن أسلوب التوثيق أو السرد التقليدي؛ حتى وهو يعكس صورة الواقع الفلسطيني ومعاناة الغزيين تحت الإبادة.

ويروي جمعة أصعب اللحظات التي مرَّ بها خلال الحرب: "أول ما طلعنا من بيوتنا في أول نزوح، وقفتُ ثلاثة شهور ما شاركتُ ولا صوّرتُ إشي. حسّيتُ إني مش قادر أرفع الكاميرا وأواصل". 

وعلى النقيض من تجربة أحمد جمعة، الذي يوظّف الأسلوبَ الكوميدي في تمرير رسائله، يبرز المواطن الصحافي عبود بطّاح برغبة حقيقية وإصرار واضح على إعادة رواية السردية الفلسطينية مباشرة من الميدان. يقول: "البداية كانت بشكل عفويّ من سطح البيت في مخيّم جباليا. كنتُ أُصوّر فيديوهات يعيشها أهلي والجيران عن المجاعة والأمراض والنزوح ومعاناة الحصول على المياه... أيّ يوميات الحياة تحت الحرب، وحصدتُ التفاعل الكبير".

لم يكن الشاب الغزّي، المولود عام 2006، يتوقَّع أن تصل فيديوهاته إلى هذا المستوى من الانتشار داخل غزة وخارجها. الحرب منعته من استكمال دراسته الثانوية، لكنه يطمح بعد انتهائها إلى متابعة تعليمِه في مجال الإعلام، إذ يرى في نفسه صوتاً قادراً على نقل معاناة أبناءِ شعبه وأحلامهم البسيطة إلى العالم. ويؤكد: "حلمي أن أكون صوتاً للناس في غزة، وأحمل رسالتهم إلى أبعد مدى".

ويرى بطّاح أنّ وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أداةٌ فعّالةٌ لإيصال صوت الفلسطينيين إلى الخارج، كما يعتبر كلَّ الصحافيين في قطاع غزة، ومَن ارتقوا منهم في سبيل نقل الحقيقة، قدوته في الحياة. وعلى الرغم من أنه لا يعمل مع أي مؤسّسة إعلامية، فإنه شاب حالم ذو هدف واضح؛ ولو حصل على فرص تدريبية في مؤسّساتٍ إعلامية، فهو يمتلك ما يكفي من الوعي والإصرار ليبلغ غايته، خصوصاً أنّ فلسطين اليوم في حاجة لجميع هذه الأصوات المؤثّرة من أبنائها.

لم تُثنه حتى الإصابة عن مواصلة توثيقه، إذ أُصيب في قدمه خلال تغطيته توزيع المساعدات عند النقاط الأميركية بشمال القطاع، لكنه يصرّ: "هذا صوتنا، والمعاناة ينبغي أن تبلغ للعالم... إن شاء الله مكمّلين"، ويضيف بطّاح: "حين أرصد انتشار منشوراتي، وحين تتداولها شخصيات مشهورة، أشعر بالسعادة لأنّ الصوت يرتفع، ولأنني استطعتُ إيصال رسالة شعبي".

ومن بين آلاف التعليقات التي تصله، يبقى واحدٌ منها عالقاً في ذاكرته: "عبود، ما تستشهد، في ناس كثير بتحبّك". 

بهذا المعنى، لا يكتفي المشهدُ الغزّي بوجه واحد للصحافة، بل يفتح المجال لأطياف متعددة: من الطبيب الذي يُوثّق الشهادة، إلى الشابّ الذي يُحوّل المأساة إلى مادة كوميدية، وصولاً إلى جيل جديد مثل عبود بطّاح، يصرّ على أن يروي من قلب الميدان. هكذا تكتمل الحكاية: أصواتٌ مختلفة، لكنها جميعاً تصبُّ في نهرٍ واحد، هو مقاومة الإبادة بالرواية والذاكرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image