لمحة من صباح السابع من أكتوبر

لمحة من صباح السابع من أكتوبر

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 7 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

حدّثني عن السنوات وكيف تمرّ؟ كيف تُعاش؟ وكيف تمضي الأيام غير آبهةٍ بخسائرنا التي لا تعدّها أصابع ولا تحرقها نيران.

سنتان وأنا أنتظر أن يعود الرضيع إلى حضن أمّه. سنتان وأنا أنتظر أن يعود الأب إلى أطفاله، يحمل في يده سكاكرهم وألعابهم المفضّلة.

سنتان وأنا أنتظر أن يلتقي الحبيب بحبيبته، وأن تعود الجدّة إلى كرسيها الخشبي في بيتها الدافئ، وأن يلتقط المصوّر صوراً للفرح لا للحزن.

سنتان وأنا أنتظر أن ينام الصغار بلا كوابيس، وأن تُزيّن النساء الجدران بالورود لا بصور الغائبين.

سنتان وأنا أنتظر أن تُستعاد للأرض رائحتها الأولى، قبل أن يختلط الياسمين بالرماد، وأن نستريح قليلاً من ثقل أحزاننا.

سنتان وأنا أنتظر أن يبتسم طفلٌ للسماء من دون أن يخاف من طائرة أو من موت محتمل.

وأنا ما زلت أنتظر أن يعود للأعمى بصره، وللمصاب عافيته، وللنازح بيته، وللميت حياته، وللحبّ معناه، وللوطن رحمته، وللإنسان صوته وكرامته. 

قد يحزن أحدهم لفقد حقيبته المفضّلة أو حيوانه الأليف، لكنني أعلم أنه ليس في وجدان الإنسان متّسعٌ لكي يستوعب فقد كل شيءٍ في حياته دفعةً واحدةً، فقد الأهل والأمل، الأصدقاء والوطن، المدينة والسكن.. ذلك شعورٌ لا يُحتمل

سنتان ونحن ندور في حلقاتٍ مفرغة؛ نسأل، نبكي، نموت، نجوع، ونُقصف. سنتان كانت فيهما إسرائيل تختبر فاعلية أسلحتها على أجسادنا وأرواحنا، بذرائع تتبدّل، ونحن شعبٌ أعزل، لا كما يصوّرنا الإعلام. 

سنتان خسرنا فيهما وطننا وشعبنا وبيوتنا، ذكرياتنا وحياتنا، أرضنا، مهننا ودراستنا والأماكن التي أحببناها. 

 قد يحزن أحدهم لفقد حقيبته المفضّلة أو حيوانه الأليف، لكنني أعلم أن ليس في وجدان الإنسان متّسعٌ ليستوعب فقد كل شيءٍ في حياته دفعةً واحدةً، فقد الأهل والأمل، الأصدقاء والوطن، المدينة والسكن... ذلك شعورٌ لا يُحتمل.

لم أكن فقط أريد لهذه الإبادة أن تنتهي، بل كنت أريد أن أستيقظ منها كما يُستيقظ من كابوسٍ طويلٍ في ليلةٍ بلا قمرٍ، أن يعود كل شيءٍ كما كان وكما ينبغي أن يكون في مخيلتي على الأقل.

لمحة من صباح السابع من أكتوبر

استيقظت يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول على أصوات انفجاراتٍ ضخمة، نهضت من السرير في حدود الساعة السادسة والنصف في حالةٍ يمتزج فيها الخوف والحذر معاً. كانت رائحة الخبز المحمّص والحليب تملأ البيت، وأبي كان قد أعدّ لنا طبق "بابا غنوج" كما اعتاد أن يفعل في يوم إجازته، بينما كانت أمي تستعد للذهاب إلى المدرسة.

حين استيقظت، كان الشريط الأحمر على شاشة التلفاز يعلن: "إسرائيل بدأت تشنّ حرباً على قطاع غزة". تنهدتُ في ثقل في تلك اللحظة، وبدأت أرمي بعضاً من أحلامي في القمامة.

 ذهبت إلى صالة البيت أتساءل عمّا يحدث، فتحت الهاتف وإذ بالأخبار تتدفق بلا توقف، شعرت أن شيئاً ثقيلاً يقترب وأن هذا اليوم لن يمرّ بسلام. بعدها صدر بيان بتعليق الدوام الجامعي والمدرسي حتى إشعارٍ آخر، وأصبح مُعلّقاً إلى أجلٍ غير مُسمى. عدت إلى السرير مثقلةً، خلدت للنوم مجدداً.

حين استيقظت ظهراً، كان الشريط الأحمر على شاشة التلفاز يعلن: "إسرائيل بدأت تشنّ حرباً على قطاع غزة". تنهدتُ في ثقلٍ، تلك اللحظة، بدأت أرمي بعضاً من أحلامي في القمامة وكأن خيبة أملٍ جديدة أصابتني من هذه الجغرافيا المغلقة، وشعرت في داخلي بسخطٍ على هذه الحياة التي لا تعرف الاستقرار. حياةٌ يلفّها العجز نتيجة دوراننا في دائرةٍ مغلقة، إذ نُزجّ كل عامين أو ثلاثة في حرب تُفرض علينا جرّاء معادلة يختزلها طرفان. دائرةٌ تعيدنا دوماً إلى المعادلة عينها: نحن والحرب والمصير ذاته.

تأمّلات إنسانية في السابع من أكتوبر وما بعده

في غزة لا ننجو فعلاً بل نؤجّل فقط موتنا المحتوم، وأن ما نعيشه بعد كل عدوانٍ إسرائيلي على القطاع ليس سوى هدنةٍ موقّتة قبل حدوث مأساةٍ أخرى. وكأن الحياة هنا تُدار وفق موعدٍ محددٍ للحزن. لم نذُق طعم السلام منذ زمنٍ، ليترسّخ في داخلنا مفهومٌ مشوّهٌ في البقاء على قيد الحياة، وتوهّم النجاة في ظل احتلالٍ هدفه وأد كلّ أملٍ بالحلم والوجود.

لقد كان ذلك اليوم لحظةَ انكسارٍ جماعيٍّ مروّعةً، لحظةً أدركنا فيها أن حياتنا تحولت إلى سراب وأننا أصبحنا جزءاً من ماض لن يعود أبداً. إنه يومٌ انهالت علينا غربانُ الأرض وتحولت سماؤنا إلى رماد كثيف قاتم خانق

السابع من أكتوبر يومٌ سوف ينحفر في وجدان الغزّي على أنه يومُ "اللعنة" أو "النكبة الـ 23" أو حتى باسم "مجزرة غزة" التي استمرت لعامين. وهو أول يومٍ نشعر فيه أنه الأخير، وهو بداية سقوطٍ لا نهاية له. إنه اليوم الذي ضاق الحصار حتى على أنفاسنا، واستعدّت فيه إسرائيل لإهانتنا وإذلالنا واستعبادنا وقتلنا بكل ما تملك من أدواتٍ للدمار والعقاب الجماعي. هي بداية سلسلة عذاباتٍ طويلة لن نشفى منها، ومسار فقدٍ جسيم لا يُعوض، وجراحات لن تلتئم.

كان ذلك اليوم لحظة انكسار جماعيّ، لحظةً أدركنا فيها أن حياتنا تحولت سراباً وأننا أصبحنا جزءاً من ماضٍ لن يعود أبداً. إنه يومٌ انهالت علينا غربانُ الأرض وتحولت سماؤنا إلى رمادٍ كثيفٍ قاتم خانق.

كأنّ ذلك اليوم يأتينا كلّ مرةٍ كتذكيرٍ مريرٍ بأنّ حياتنا ليست ملكنا، وأنّ مصيرنا ما زال يُدار بأيدي قوى لا ترحم. دفعونا إلى معركةٍ بلا أدواتٍ، بينما كنا نبحث عن حياةٍ أو حتى شبه حياة بعيداً من الحرب والموت. كنا نطمح أن نتعلّم فنّ الوجود في وقتٍ يسعى فيه عدوّنا إلى محو كلّ أثرٍ لهذا الوجود. كان ذلك اليوم امتداداً لسلسلةِ حروبٍ سابقةٍ جاءت تحت شعار "التحرير" وانتهت في الإبادة والتدمير.

إلى طاغية:

لم يخطر في بالك أن تصيبك لعنةُ إنسانٍ قضى أياماً تحت الركام بعدما قُصف منزله فوق رأسه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

وكيف لم ينفطر قلبك حين مات الكهل قهراً، والشاب قنصاً، والطفل جوعاً، والنساء قصفاً؟

كيف تنام هانئاً بينما أنت تسببت في نوم طفلةٍ على فراشٍ في خيمةٍ بلّلتها الأمطار؟

كيف تعود إلى حضن بيتك وأنت شرّدتَ أناساً من بيوتهم؟

هل تلاعب أطفالك مساءً بيديك الملطّختين بدماء أطفالنا؟

كيف تعيش وأنت حرمتَ إنساناً من حقّه في الحياة؟

كيف تتغنّى بحضارتك وتقدّمك وأنت حوّلت بلادنا إلى مقبرةٍ وحياتنا إلى جحيمٍ؟

كيف لك وأنت تنظر في المرآة يا أيّها الطاغي ألا ترى السواد في وجهك والشرّ في عينيك؟

ما بعد السابع ليس كما قبله؛ فموتنا الذي عشناه ولم يتحقّق، ولّد فينا قوّة انبعاث وإرادةً لحياة لم يسبق لإنسان أن عاشها أو عاينها. حياة كتبناها بدموع مصنوعة من الشموع، وأحلام منسوجة من أجساد أبطال روتها دماؤهم في كلّ شبرٍ من أرضنا.  




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image