فتيات جيل Z الإيراني والذكاء الاصطناعي… حين تصبح الخوارزميات أداة مقاومة

فتيات جيل Z الإيراني والذكاء الاصطناعي… حين تصبح الخوارزميات أداة مقاومة

حياة نحن والنساء

الثلاثاء 30 سبتمبر 202511 دقيقة للقراءة

في إيران، حيث تُحاصر الدولة فضاء الإنترنت وتفرض قيوداً متزايدةً على المحتوى الرقمي، وجد جيل Z -خاصةً الفتيات منه- في أدوات الذكاء الاصطناعي متنفساً جديداً ومساحةً بديلةً للمقاومة. 

فمنذ اندلاع احتجاجات "امرأة، حياة، حرية"، إثر وفاة الشابّة مهسا أميني في 2022، تغيّر مشهد المواجهة بين الدولة والمجتمع، ولم تعد وسائل التواصل الاجتماعي وحدها كافيةً، إذ أصبحت مراقبة السلطة صارمةً، ووسائل الحجب أكثر تعقيداً. 

في هذا المناخ، دخل الذكاء الاصطناعي كفاعل جديد يتيح إنتاج محتوى أسرع، وصور أكثر إقناعاً، ورسائل تتجاوز الرقابة اللغوية، ليصبح أشبه بسلاح رقمي في يد فتيات يسعين من خلاله إلى تحدّي القيود المفروضة عليهنّ.

من يقود معركة المقاومة الرقمية؟

وجدت فتيات جيل Z، في أدوات الذكاء الاصطناعي، نافذةً جديدةً لمطالبهنّ، وما بدأ كتجارب شخصية في الترجمة الآلية أو إنتاج صور فنية، سرعان ما تحول إلى مساحة للمقاومة الرقمية، وميدان استثنائي تتقاطع فيه التقنية مع السياسة. تروي طالبة جامعية في كلية الهندسة (20 عاماً)، فضّلت عدم ذكر اسمها، من مدينة مشهد: "عندما أصمّم صورةً افتراضيةً من دون حجاب، أشعر أنني أعيش لحظة حرية"، بينما توضح زهرا (25 عاماً)، وهي واحدة من فتيات جيل Z درست القانون وتقيم في طهران، أنّ التجربة لم تكن مرتبطةً بالفضاء الافتراضي فحسب، بل منحتها أيضاً ثقةً أكبر في مواجهة أسرتها. بحسب قولها، فإنّ الذكاء الاصطناعي أتاح لها التعبير عما لم تستطع البوح به في الواقع.

توظّف الفتيات الإيرانيات الذكاء الاصطناعي في التعبير عن قضايا مرتبطة بالهوية الجندرية وقضايا النساء والتغلّب على القيود المفروضة عليهنّ... كيف ذلك؟

ولكن ما يلفت الانتباه حقاً، أنّ الفتيات الإيرانيات يوظّفن الذكاء الاصطناعي بطريقة تختلف عن نظرائهنّ من الذكور؛ ففي حين يميل بعض الشباب الذكور إلى استخدام الأدوات التقنية في تحليل البيانات أو إنشاء حملات سياسية عامة، تركّز الفتيات أكثر على التعبير عن قضايا مرتبطة بالهوية الجندرية وقضايا النساء.

لا شك أنّ الدافع النسوي كان الشرارة الأقوى منذ وفاة مهسا أميني عام 2022، إذ ارتبطت صور الاحتجاجات وشعارات "امرأة، حياة، حرية"، بالمطالب النسوية المباشرة، وعلى رأسها رفض الحجاب الإجباري، والمطالبة بحقوق متساوية في التعليم والعمل والفضاء العام. 

في هذا السياق المعقّد، استخدمت الفتيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج صور رمزية؛ نساء بلا حجاب، لوحات فنية رقمية تمزج بين التقاليد الإيرانية والحرية الحديثة، أو نصوص مترجمة تُسهّل وصول قصصهنّ للعالم، وهذه الاستخدامات حملت طابعاً نسوياً واضحاً، لأنها تستهدف إعادة تعريف صورة المرأة الإيرانية وكسر احتكار الدولة للهوية.

التحوّل من التعبير الشخصي إلى المواجهة السياسية

مع اتساع نطاق الاحتجاجات منذ 2022، في شوارع الجمهورية الإسلامية، أخذ استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي طابعاً أكثر جرأةً، حيث ترى فاطمة (23 عاماً)، من مدينة كرمانشاه، وتدرس الأدب الإيراني، أنّ استخدام التطبيقات الحديثة أداة مقاومة، فقبل عام، كانت تخشى حتى من كتابة تعليق سياسي على صفحتها، واليوم تقول: "صرت أنشر صوراً افتراضيةً تعكس ما أشعر به دون خوف، والميمات السياسية الساخرة، ومقاطع الفيديو المعدلة، والشعارات الرقمية المصممة بخوارزميات ذكية، صارت أدوات تعبويةً بامتياز، ولم يعد الأمر تعبيراً فردياً فحسب، بل تحوّل إلى وسيلة جماعية لإنتاج سردية بديلة تناقض ما تروّج له الدولة، لأنّ هذه الأدوات تسمح بسرعة الانتشار وبجودة مقنعة. صارت الرسائل التي تخرج من غرف صغيرة في طهران وأصفهان قادرةً على الوصول إلى جمهور دولي، لتضع النظام الإيراني أمام ضغط مضاعف". 

بحسب شهادات العديد من الفتيات الإيرانيات، فإنهنّ لجأن إلى الذكاء الاصطناعي في البداية كأداة للتعبير عن الذات. بعضهنّ يستخدمن برامج توليد النصوص لترجمة يومياتهنّ من الفارسية إلى لغات أخرى، في محاولة لإيصال قصصهنّ إلى جمهور خارج حدود البلاد، وأخريات وجدن في أدوات توليد الصور والفيديو وسيلةً لتصوير عالم بديل؛ نساء بلا حجاب، شوارع أكثر حريةً، رموز احتجاجية يصعب نشرها بالطرق التقليدية، وصور وفيديوهات تولّدها الخوارزميات تُجسّد "إيران البديلة" التي يحلمن بها. هذه الخطوة، شكلت نوعاً من التحدي الثقافي والسياسي في آن واحد، فما يجعل المحتوى أكثر حساسيةً بالنسبة للدولة، أنه لا يتحدّى السلطة السياسية فقط، بل يهزّ الأسس الثقافية والاجتماعية التي تبني عليها شرعيتها. 

أدوات الذكاء الاصطناعي لفتيات جيل Z

برزت مجموعة من أدوات الذكاء الاصطناعي كصندوق أدوات سرّي لدى الفتيات الإيرانيات من جيل Z، حيث يأتي ChatGPT في المقدمة، ليس فقط لتوليد نصوص ومقالات بالإنكليزية والفارسية، بل أيضاً لإعادة صياغة شعارات سياسية بلغة عاطفية تُسهّل انتشارها على منصات عالمية. أما MidJourney وStable Diffusion، فتمثّلان أدوات بصريةً استثنائيةً: عبرها تنتج الفتيات صوراً رمزيةً لنساء بلا حجاب أو مشاهد احتجاجيةً مستوحاةً من الفن الإيراني التقليدي، كذلك يظهر Deepfake كأداة مثيرة للجدل، إذ يُستخدم في محاكاة وجوه مسؤولين أو إنتاج فيديوهات ساخرة تسخر من الخطاب الرسمي. وأما الترجمة الآلية فتلعب دوراً حاسماً، لأنها تسمح بتحويل التجربة المحلية إلى خطاب عالمي موجه للصحافة والمنظمات الحقوقية.

وتحولت هذه الأدوات من مجرد منصات تقنية إلى ساحات مواجهة رقمية، فعبر الصور المنتجة بالذكاء الاصطناعي، تظهر رموز احتجاجية جديدة تحاكي جداريات طهران لكنها ملوّنة برسائل تحررية. بعض الفتيات ينتجن مقاطع فيديو ساخرةً عبر Deepfake تُظهر مسؤولين إيرانيين وهم يرددون شعارات الحراك النسوي، لتقويض هيبتهم أمام الجمهور. في المقابل، استخدمت أخريات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقاطع قصيرة تمزج بين الأناشيد التقليدية والإيقاعات الحديثة، تُتداول بكثافة في تيك توك وإنستغرام. حتى المقالات باتت تُصاغ بمساعدة ChatGPT أو أدوات مشابهة، لتجمع بين التحليل السياسي واللغة الإنسانية المؤثرة، ما يضاعف من قدرتها على الانتشار عالمياً، ليصبح الذكاء الاصطناعي في يد فتيات جيل Z سلاحاً تعبوياً يمزج بين الفن والسخرية والمطالبة بالحرية.

في إيران، بات الذكاء الاصطناعي امتداداً طبيعياً لـ"المقاومة الناعمة" لدى فتيات جيل Z، فمن الحجاب إلى التعليم، ومن الحرية إلى السياسة، تتقاطع هذه الأدوات مع قضايا المرأة لتفتح مساحات جديدةً للتمكين، بعيداً عن مؤسسية الدولة وحدودها الضيقة

التكنولوجيا كامتداد للنضال النسوي

بات الذكاء الاصطناعي امتداداً طبيعياً لـ"المقاومة الناعمة" لدى فتيات جيل Z في إيران، فمن الحجاب إلى التعليم، ومن الحرية إلى السياسة، تتقاطع هذه الأدوات مع قضايا المرأة لتفتح مساحات جديدةً للتمكين، بعيداً عن مؤسسية الدولة وحدودها الضيقة، فالحجاب الإجباري كان ولا يزال رمز الصراع بين الدولة والنساء في إيران. لكن دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، منح الفتيات مساحةً لتخيّل إيران المنشودة. عبر أدوات، تنتج الناشطات صوراً لنساء إيرانيات بلا حجاب في شوارع طهران أو في أماكن رمزية كجامعة طهران أو برج آزادي، وهذه الصور ليست مجرد فن رقمي، بل رسائل سياسية مشفرة تعكس حلم جيل كامل بكسر سلطوية الدولة.

قضية الحريات لا تتوقف عند اللباس فقط، فالفتيات من جيل Z يوظّفن الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى ساخر وموسيقى بديلة، أو مقالات تُنشر على منصات عالمية، وهذه الأعمال الرقمية تحوّل المطالبة بالحرية من احتجاجات في الشارع إلى حضور دائم في الفضاء الإلكتروني لتضاعف أثر قصص النساء وتجعل من الصعب إسكاتها، حتى حين تنجح السلطات في قمع التظاهرات ميدانياً.

وبرغم القيود الصارمة على مشاركة المرأة في السياسة الإيرانية، ترى الصحافية والناشطة الحقوقية الإيرانية، سحر بيت مشعل، أنّ الذكاء الاصطناعي فتح قناةً موازيةً، فبعض الفتيات يستخدمنه لكتابة مقالات رأي أو صياغة عرائض حقوقية بلغات أجنبية، تُرسل إلى منظمات دولية وصحف غربية. هذه الإستراتيجية حوّلت المشاركة السياسية من مجال مقيّد محلياً إلى ساحة رقمية عابرة للحدود، فالذكاء الاصطناعي لا يضمن لهنّ مقاعد في البرلمان ولا مساهمةً سياسيةً في مؤسسات الجمهورية الإسلامية، لكنه يمنحهنّ حضوراً في الرأي العام الدولي، وهو ما يحرج الدولة ويزيد الضغط عليها.

ومن أبرز الانعكاسات أيضاً، أنّ الذكاء الاصطناعي أعطى الفتيات الإيرانيات منفذاً مباشراً إلى المعرفة العالمية، حيث باتت الطالبات قادرات على الوصول إلى مراجع أكاديمية محجوبة أو باهظة الكلفة، وصياغة أبحاث بلغات متعددة، ما يعزز مكانة المرأة في المجال التعليمي، ويهدد احتكار الدولة للمناهج والمحتوى التعليمي التقليدي، بمعنى آخر، صار الذكاء الاصطناعي بوابةً غير رسمية لتمكين معرفي يوازي عملية تحرر سياسي.

غير أنّ الاقتصار على البعد النسوي يظلم الصورة الأكبر. فجيل Z الإيراني -نساءً ورجالاً- يعاصر تجربةً مشتركةً من الانغلاق والقيود. ووفقاً للناشطة الإيرانية في مجال حقوق المرأة، هدا صدر، بالنسبة لهذا الجيل الذكاء الاصطناعي ليس مجرد وسيلة نسوية، بل أداة أوسع للتعبير عن الإحباط من الفقر والبطالة والانعزال الدولي، وحتى الانفصال عن العالم الرقمي الحرّ، ليصبح الذكاء الاصطناعي منصة تمثيل هوية جيل كامل، لا قضية جنس واحد، وتصبح التكنولوجيا خيطاً مشتركاً يربط بين مطالب تبدو متفرقةً لكنها تصبّ جميعها في نهر واحد؛ الرغبة في الحرية والكرامة للجيل الجديد.

ما سبق يجعلنا ندرك أنّ استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي كان نسويّ الطابع، لكن سرعان ما تجاوز هذا الإطار ليصبح أداةً شاملةً لجيل Z الإيراني. الفتيات قد يكنّ في الواجهة، لكن المطالب لم تعد محصورةً في قضية الحجاب أو حقوق المرأة فحسب، بل أصبحت تعبيراً عن أزمة أوسع لجيل كامل يريد أن يُعرّف نفسه خارج قوالب الدولة.

النظام في مواجهة الفتيات

لكن لم تمرّ خطوات الفتيات نحو العالم الرقمي دون رد فعل، ولم تتجاهل السلطات الإيرانية الأمر، بل شرعت في تعزيز قدراتها التقنية، مستخدمةً بدورها الذكاء الاصطناعي في المراقبة ورصد الحسابات المشبوهة وتتبع أنماط اللغة على الشبكات الاجتماعية. وعملت الجمهورية الإسلامية على تطوير الممارسات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والمتعلقة بالتعرف على الوجوه وأنظمة مراقبة بالفيديو، بجانب أدوات تحديد الموقع الجغرافي وغيرها من أشكال الكشف الآلي، فضلاً عن أدوات المتابعة باستخدام VPN، وحملات رقمية مضادة تُضخّ من خلال حسابات آلية موالية للنظام.

تقول ليلى: "لسنا جيل الصمت، نحن جيل اللغة الجديدة"، ملخّصةً ملامح معركة تقودها التكنولوجيا ضد القيود التقليدية، ليظلّ السؤال الأهم مطروحاً: هل سيكون الذكاء الاصطناعي جسراً لجيل كامل نحو فضاء أوسع من الحرية، أو مجرد ساحة جديدة لقمع أكثر دقةً؟

وبات المشهد أقرب إلى سباق محموم بين فتيات يحاولن الإفلات من الرقابة عبر خوارزميات توليدية، وسلطة تلاحقهنّ بخوارزميات مضادة. هذا التوازن الدقيق يعكس طبيعة الصراع في إيران اليوم، وكيف تحوّل المشهد الرقمي في إيران إلى ساحة مواجهة مزدوجة؛ طرف يبتكر ليتحرّر، وطرف يبتكر ليقمع.

مستقبل مفتوح على احتمالات متناقضة

المفارقة أنّ ما يمنح الفتيات الإيرانيات اليوم مساحةً للتحرر قد يتحول غداً إلى أداة سيطرة أكبر بيد الدولة، إذا نجحت السلطات في تطوير ذكاء اصطناعي قادر على التنبؤ بأنماط المعارضة وتفكيك شبكاتها الرقمية، فقد يضيق المجال العام أكثر، لكن في المقابل، إذا استمر جيل Z -خاصة الفتيات منه- في استثمار هذه الأدوات بطريقة خلاقة، فقد تتسع دائرة الاحتجاج لتشمل روافد سياسيةً وثقافيةً واجتماعيةً جديدةً تعزز الحركة النسوية وتضعف قدرة النظام على احتكار السردية، حيث تبقى أصوات الفتيات أقوى من محاولات تهميشها.

تقول ليلى (20 عاماً)، تدرس الهندسة الكهربائية في جامعة شريف للتكنولوجيا في طهران: "لسنا جيل الصمت، نحن جيل اللغة الجديدة". بهذه الكلمات تختصر ملامح معركة تقودها التكنولوجيا ضد القيود التقليدية، ليظلّ السؤال الأهم مطروحاً: هل سيكون الذكاء الاصطناعي جسراً لجيل كامل نحو فضاء أوسع من الحرية، أو مجرد ساحة جديدة لقمع أكثر دقةً؟ بالنسبة لفتيات جيل Z الإيراني، الإجابة لم تتضح بعد، لكن الواضح أنّ الخوارزميات باتت جزءاً لا يتجزأ من معركة الهوية والسياسة في بلد يتأرجح بين الانغلاق والانفجار.

أُنتج هذا الموضوع بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image