حين انقسم العالم إلى

حين انقسم العالم إلى "دار الإسلام" و"دار الكفر"… قراءة خارج الصورة النمطية

سياسة نحن والخطاب الديني نحن والتاريخ

الاثنين 22 ديسمبر 202511 دقيقة للقراءة

لم يكن التقسيم الثنائي للعالم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب" أو "دار الكفر" مجرّد بناء فقهيٍ معزول وُضع في بطون الكتب، بل كان في جوهره انعكاساً لمزيج معقد من الحقائق السياسية والجغرافية والاجتماعية التي صاحبت تشكّل الدولة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري. فالمفهومان لم يظهرا بوصفهما مصطلحَين جاهزَين في النص القرآني، ولا تداولهما المسلمون في عصر النبوة، بل تدرّجا عبر الزمن مع اتساع رقعة الفتوحات واحتكاك المسلمين بقوى عالمية كبرى مثل الروم البيزنطيين والفرس الساسانيين.

وبينما تُقدّم بعض القراءات الاستشراقية هذا التقسيم بوصفه "عقيدة قتالية" ثابتة في الإسلام، تكشف القراءة التاريخية-الفقهية أن الأمر أكثر تعقيداً: فالتقسيم جاء في الأصل لتقنين علاقة الدولة الإسلامية بمحيطها، ولتنظيم أوضاع المجتمعات الجديدة التي دخلت تحت سلطانها بعد الفتح. ومع مرور الزمن، أصبح المصطلح، رغم بساطته، أحد المفاتيح المهمة التي شكّلت معالم الرؤية الإسلامية للعالم، ووفّرت إطاراً تُنظّم من خلاله أحكام الجهاد، والجزية، والصلح، والأمان، والهجرة، وحقوق غير المسلمين.

نعيد هنا تفكيك هذا النموذج، لنتتبّع كيف نشأ، وكيف تغيّر، وكيف أُعيد إنتاجه في الأزمنة اللاحقة (من العصر العباسي إلى السلطنة العثمانية) وصولاً إلى بعض القراءات الحديثة التي أعادت تفسيره ضمن سياقات الدولة القومية والعلاقات الدولية.

الجذور الفقهية الأولى

تتفق أغلب الدراسات الحديثة، مثل دراسة وائل حلاق في كتابه "الشريعة: النظرية، والممارسة، والتحولات" (2018)، على أن فكرة تقسيم العالم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب" ليس لها أصل نصي مباشر في القرآن والسنة النبوية، بل هي من إنتاج الفقه السياسي الذي تبلور مع قيام الدولة الإسلامية؛ فالنبي لم يستخدم هذه المصطلحات، ولم يُصنّف العالم إلى تقسيمات ثنائية، بل كان يتعامل وفق منطق العلاقات الواقعية بين القبائل والكيانات القائمة في زمنه.

لم يولد تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب من نص القرآن، بل من حاجة دولةٍ آخذة في الاتساع إلى لغةٍ تضبط علاقتها بالعالم، فصار الفقه مرآةً للسياسة أكثر منه تعبيراً عن عقيدةِ صدامٍ دائم

مع توسّع الدولة بعد الفتوحات، أصبح على الفقهاء أن يضعوا قواعد ومعايير تنظّم العلاقة بين المجتمع المسلم والمجتمعات المفتوحة حديثاً، وبين الدولة الإسلامية والدول المجاورة. وهنا بدأ الفقه الحنفي خصوصاً في رسم التقسيم. تدلّ كتابات القاضي أبي يوسف في القرن الثاني الهجري والفقيه شمس الأئمة السَّرَخْسي في القرن الخامس الهجري على أن الفقه الحنفي هو الأكثر بلورة للمفهوم.

بحسب ما ورد في الأدبيات الحنفية تقوم "دار الإسلام" على معيار "ظهور أحكام الإسلام"، أي وجود سلطة سياسية تُجري العقود والقضاء والزكاة وسائر التشريعات. فإذا زالت هذه السلطة، يمكن أن تتحوّل المنطقة إلى "دار حرب" حتى لو بقي سكانها من المسلمين؛ على سبيل المثال يقول السّرَخسي في كتابه "المبسوط في الفقه": "الاعتبار في الدارين لظهور الأحكام، لا لوجود المسلمين أو الكافرين". هذا الربط بين مساحة سياسية/سلطة الحكم ومساحة تشريعية/ظهور الأحكام هو الركيزة الأساسية التي بني عليها المفهوم كله لاحقاً.

على الجانب الآخر، تم تناول مفهومَي دار الإسلام ودار الكفر بشكل مختلف في الفقه الشافعي والفقه المالكي. فبينما استخدم الشافعي مصطلح "دار الإسلام" بكثرة في كتابه الشهير "الأم"، لم يجعل مقابلها مصطلح "دار الحرب" بشكل صارم، بل انشغل بصورة أكبر بتنظيم أحكام الذمة والصلح والجزية. أما المالكية، وخصوصاً في بيئة الأندلس القلقة، فقدموا رؤية أكثر توجّساً من "الدار المخالفة"، كما يظهر لدى الفقيه ابن عبد البرّ في كتابه "التمهيد". اعتماداً على تلك الاختلافات، تؤكد المؤرخة الدانماركية باتريشيا كرون في كتابها "God’s Rule: Government and Islam" أن المدارس الفقهية الإسلامية في العصر الوسيط كانت تتفاعل مع الواقع السياسي أكثر مما تتفاعل مع منطق ديني تجريدي، وأن التقسيم الثنائي للعالم كان في حقيقة الأمر انعكاساً مباشراً لتجارب وظروف كل منطقة.

التشريع والسياسة

لم يبق التقسيم الثنائي للعالم إلى "دار إسلام" و"دار كفر" رهيناً بالاستخدامات الفقهية النظرية المجردة، بل سرعان ما تفاعل مع التشريعات والتعاملات السياسية القائمة. ففي القرن الثاني والثالث الهجريَّين، ومع تشكّل الدولة العباسية كإمبراطورية شاسعة، ظهر الاحتياج الملحّ لتنظيم المجتمعات المفتوحة. في هذا السياق، مثّل كتاب "الخراج" لأبي يوسف و"الأموال" لأبي عبيد القاسم بن سلام الإطارَ النظري الحاكم للعديد من التشريعات المرتبطة بالتقسيم الثنائي، ومنها تحديد الضريبة (الجزية والخراج)، وتنظيم ملكية الأرض، ووضع أنظمة القضاء بين المسلمين وغير المسلمين، وتنظيم علاقة الجند بالدولة، فضلاً عن ضبط موارد الدولة المالية. في كتابه "الفتوح العربية الكبرى" (2008) يشير المستشرق البريطاني هيو كينيدي إلى أن هذه الكتب كانت بمثابة "دساتير إدارية" أكثر من كونها كتباً فقهية، لأنها شرعنت وجود الدولة وأعطتها الأدوات اللازمة لإدارة المجتمع وضبط أموره. من هنا أصبح التقسيم بين "دار الإسلام/دار الحرب" قاعدة سياسية لإدارة الداخل والخارج معاً.

كان نظام أهل الذمة هو أوضح تجليات هذا التقسيم؛ فقد اعتمد على فكرة أن أهل "دار الإسلام" غير المسلمين يعيشون في حماية الدولة مقابل دفع الجزية، وأن لهم حقوقاً مدنية واضحة. وقد نظم أبو عبيد في الأموال هذه العلاقة باعتبارها "عقد حماية" وليس علاقة عداء، وهو ما يجعل المصطلح بعيداً عن التصوير الحديث الذي يراه إطاراً للتمييز. من جهة أخرى، ومن منظور سوسيولوجي، يلاحظ مارشال هجسون في كتابه The Venture of Islam" (1974) أن نظام الذمة كان وسيلة مناسبة لدمج مجتمعات كاملة داخل الدولة دون اللجوء للإكراه الديني.

من جهة أخرى، طوّرت المنظومة الفقهية العديد من الأحكام المرتبطة بمسألة التقسيم الثنائي للعالم؛ على سبيل المثال، صاغ الأحناف أحكاماً دقيقة لعهود الأمان عند السفر، ويمكن القول إنهم ابتكروا أحد أقدم أشكال "نظام التأشيرات" المُتعارف عليه حالياً عند السفر من دولة لأخرى. فالسّرَخسي يقول في "المبسوط في الفقه": "إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان، وجب الوفاء له ما دام في سلطان المسلمين".

أما الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام فقد كانت متصلة بدرجة الأمان؛ فإذا كان المسلم قادراً على إقامة شعائره وتأمين نفسه، جاز له البقاء في البلد غير المسلم. أما إذا فقد الأمن، فقد وجبت عليه الهجرة. أيضاً، كان تنظيم التجارة أحد أهم فصول التقسيم الثنائي، إذ لم يكن ممكناً، في واقع يعتمد على تبادل التجارة بشكل مستمر، قطعَ العلاقة مع "الدار المخالفة" بالكلية.

من هنا، يمكن فهم ما نصّ عليه ابن قدامة الحنبلي في كتابه "المغني" عندما أجاز البيع لأهل الحرب ما لم يؤدِّ إلى تقويتهم بسلاح أو ما يشبهه. أما عقود الصلح والهدنة، فقد تم تأصيلها فقهياً بشكل واضح. وفي كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" يؤكد الماوردي أن الهدنة قد تمتد لسنوات وأنها "عقد جائز" لمصلحة الأمة. وهذا يبيّن أن "الحرب" لم تكن قدراً حتمياً بل احتمالاً سياسياً.

كلما تغيّرت صورة السلطة، تغيّر معنى الدار؛ فهي عند الفقهاء الأوائل مساحة حكم، وعند ابن تيمية ميدان طاعة، وعند الدولة الحديثة حدودٌ وسيادة، أما حين تتحوّل إلى شعارٍ أيديولوجي، فإنها تفقد تاريخها وتكتسب عنفاً أعمى

في بدايات القرن الثامن الهجري، قدم شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني واحدة من أكثر القراءات دينامية لمفهوم التقسيم الثنائي للعالم، وذلك بالتزامن مع السياقات التاريخية الحرجة التي شهدها المشرق الإسلامي عقب إسلام دولة المغول في فارس والعراق في عهد الإيليخان غازان خان. ففي مجموع الفتاوى يرفض ابن تيمية أن تكون الدار محددة بدين أهلها، مؤكداً إن العبرة في الدار بظهور الطاعة والولاية، لا بمجرد الكفر والإيمان. ولهذا اعتبر التتار – رغم إسلامهم – "داراً مركّبة" لأنهم حكموا بـ"الياسا"، أي بقانون غير شرعي. هذه الرؤية تكشف تحولاً مهماً: فالتقسيم لم يعد ثنائياً بل أصبح متدرّجاً نسبياً، يتحرك مع تغيّر السلطة الشرعية.

في العصر الحديث، وفي سياق التنافس المحتدم بين العثمانيين والقوى الأوروبية المسيحية، شهد مصطلح التقسيم الثنائي تعديلاً جديداً، حيث استخدمت الدولة العثمانية المصطلح كأداة تنظيمية في علاقاتها مع أوروبا. وتم إعادة تعريف الدار بحسب الحلف، والهدنة، وميزان القوى، لا بحسب الانتماء الديني. وهكذا تحوّل التقسيم إلى أداة سياسية تستخدمها السلطة، لا إطاراً لاهوتياً جامداً.

التحولات الحديثة

مع دخول العالم الإسلامي في النظام الدولي الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت العلاقات بين الدول محكومة بمعاهدات دولية، ومعايير القانون الدولي، وحدود سياسية واضحة. بطبيعة الحال، هذا التحول جعل مفهوم "دار الحرب" غير قابل للتطبيق، لأن الدول الإسلامية أصبحت جزءاً من نظام عالمي قائم على السيادة المتبادلة، لا على ثنائية الحرب الدائمة.

في هذا السياق، بدأت عملية إعادة تأويل وفهم المصطلح من خلال كتابات مجموعة من روّاد النهضة؛ على سبيل المثال، رأى محمد عبده أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم قائمة على "السِّلم الأصلي" لا الحرب، وأن الجهاد في الإسلام دفاعي بطبيعته. كما حاول تلميذه محمد رشيد رضا أن يقدم قراءة تجمع بين الواقع الدولي والفقه التقليدي، مؤكداً أن الدولة الحديثة تقوم على العقود والمواثيق لا على تصنيف الديار. أما الشيخ علي عبد الرازق فقد خطا خطوة جديدة في هذا المضمار في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" (1925) عندما فكّك الأساس السياسي للتقسيم، واعتبره "نتاجاً تاريخياً" لا "حكماً دينياً".

من ناحية أخرى، اعتمدت الحركات الجهادية – من الفكر القطبي إلى تنظيم القاعدة ثم داعش – على إعادة إنتاج ثنائية "دار الإسلام/ دار الكفر" لتبرير العنف ورفع السلاح ضد الأنظمة السياسية الحاكمة في العديد من الدول الإسلامية. تكمن المفارقة هنا، أن تلك الحركات -ورغم احتكامها للموروث الفقهي- لم تتبن التقسيم الفقهي الكلاسيكي، بل صاغت نسخة مؤدلجة منه بحيث خلطت بين الدار والعقيدة والحكم. فبينما ربط الأحناف الدار بالسلطة السياسية، ربطت الحركات الجهادية الدار بمدى تطبيق "الشريعة" وفق تعريفها الخاص، مما يجعل أغلب العالم الإسلامي "دار كفر" بنظرها.

في محاولة للتوفيق بين الموروث الفقهي والظروف المستحدثة، ظهرت العديد من الأصوات التي قدمت مفاهيم بديلة للمفهوم التقليدي القائم على التقسيم الثنائي. من تلك المفاهيم مصطلح دار العهد: أي البلاد التي تربطها معاهدات. ومصطلح دار الدعوة: الذي طرحه الفقيه المصري يوسف القرضاوي، وبموجبه يصبح العالم كله فضاءً للتواصل لا ساحة حرب. ومصطلح دار المواطنة: وهو المفهوم الذي تبنّته الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، حيث السيادة للدولة والقانون، لا لانتماء ديني.

من هنا، يُظهر تحليل تاريخ مفهوم "دار الإسلام ودار الحرب" أنه لم يكن يوماً عقيدة ثابتة تحكم رؤية المسلمين للعالم، بل كان آلية سياسية-فقهية نشأت في لحظة إمبراطورية، وتطوّرت بمرور الزمن لتلائم احتياجات الدولة والمجتمع. وبقدر ما ساهم هذا النموذج في تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم، فقد كان أيضاً مرآة تعكس طبيعة السلطة القائمة، وتحولاتها، وصراعاتها. فالتقسيم عند الأحناف كان محاولة لضبط عالم متسع، وعند ابن تيمية كان وسيلة لمواجهة سلطة ظالمة، وعند العثمانيين كان أداة دبلوماسية مرنة، وعند المصلحين في العصر الحديث صار إطاراً يجب تجاوزه، بينما أعادت الحركات الجهادية توظيفه بصورة مشوّهة تخدم مشروعاً أيديولوجياً بعينه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image