في وقت تشهد دول العالم احتفالات ونشاطات بمناسبة يوم المرأة العالمي، يحدث في إيران شيء مختلف، فاعتقلت السلطات الأمنية الإيرانية سيدتين ارتدتا زَيّ "حاجي فيروز" الشهير، ورقصتا احتفالاً بقرب حلول عيد رأس السنة الإيرانية، وذلك بعد أن نُشر مقطع مصور لهما في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كانتا تعزفان وتغنيان وترقصان في ساحة "تجريش" شمال العاصمة الإيرانية طهران.
وبعد يوم من هذه الرقصة الاحتفالية والتقليدية في الثقافة الإيرانية، وتزامناً مع يوم المرأة العالمي 8 آذار/مارس، أعلنت وكالة "تسنیم" للأنباء التابعة للحرس الثوري الإيراني، عن إلقاء القبض على تلك المرأتين بعد رفع دعوى قضائية ضدهما. وبحسب تسنيم، "فقد تم القبض على هاتين المرأتين اللتين ’تصرفتا بشكل مخالف للأعراف’ في ساحة تجريش بأمر من مكتب المدعي العام في طهران".
الرقص ممنوع في إيران
ولم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، حيث تم القبض على فتيات يرقصن في العام الماضي، والتي عرفن بـ"فتيات إكباتان" اللواتي رقصن بشكل جماعي بمناسبة يوم المرأة العالمي دعماً لاحتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" التي اندلعت في العام الماضي بإيران، لكن سرعان ما اعتقلتهن السلطات الأمنية الإيرانية وأجبرتهن على الاعتراف بخطأهن، وذلك خلال فيديو تم نشره في حساب مدربتهن عبر الإنستغرام.
اعتقلت السلطات الأمنية سيدتين ارتدتا زَيّ "حاجي فيروز" الشهير، ورقصتا احتفالاً بقرب رأس السنة الإيرانية، وذلك بعدما نُشر مقطع مصور لهما في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كانتا تعزفان وتغنيان وترقصان في ساحة "تجريش"، شمال العاصمة الإيرانية طهران
السلطات الإيرانية لم تفرض قيوداً على النساء بين المجتمع فحسب، بل يمكن الإشارة إلى الرجل المسن الإيراني صادق بوقي، الذي رقص بين عدد من الأشخاص في سوق سمك بمدينة رَشت شمال إيران، ونشر مقطعَ رقصته على صفحته الشخصية في إنستغرام، وبعد ذلك حظرت السلطات المعنية الإيرانية صفحته، مما أثار حفيظة الرأي العام في عموم إيران، وأصبحت رقصته وأغنيته "ترند" يقلدها أغلب أطياف المجتمع داخل البلاد وخارجها بمثابة حركة تضامنية مع الرجل.
وفي عام 2022، أعلن مدير عام مكتب بريد محافظة هُرمزكان جنوب إيران، عن فصل أحد موظفي المكتب الذي نشر فيديو يرقص فيه على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتذر الموظف في ما بعد عن نشر هذا الفيديو الذي اعتبره "سلوكاً غير لائق". ولطالما هاجم المسؤولون الإيرانيون الرقص بقسوة، إذ يعتبرونه مخالفاً للشريعة والقانون، كما يعاقبون مرتكبيه بشدة دون أي تسامح.
وفي قضية مماثلة أخرى حدثت في عام 2018 أثناء حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، والذي يُحسب على التيار الإصلاحي في البلاد، وهو تيار معتدل متماشٍ نوعاً ما مع مثل هذه الأمور، غير أنه حتى أثناء تلك الفترة، تم القبض على إحدى المؤثرات، مائدة هُجبري، التي كانت تنشر مقاطع لها وهي ترقص على صفحتها الشخصية في إنستغرام، وبعد عدة أيام من اعتقالها، أُطلق سراحها بكفالة مالية، وببث فيديو يحتوي على اعتذارها بسبب سلوكها غير اللائق في التلفزيون الحكومي الإيراني.
ووفقاً للقوانين الإيرانية، يأتي الرقص تحت تسمية "أعمال منافية للعفة" أو "أعمال محرمة"، وبحسب المادة 638 من قائمة العقوبات في قانون العقوبات الإسلامية، فإن أي شخص يتظاهر بارتكاب فعل محرم في الأماكن العامة، سوف يتعرض للسجن أو الجلد.
قيود مختلفة
وبعيداً عن الرقص، هناك قيود أخرى تفرضها الجمهورية الإسلامية على المجتمع الإيراني، خاصة على السيدات، ومنها ما تسبب المتاعب للنساء اللاتي لا يلتزمن بقانون الحجاب القسري، فعلى سبيل المثال يمكن ذكر الفنانة الإيرانية ماهور أحمدي التي حضرت جنازة والدها الكاتب والشاعر الشهير أحمد رضا أحمدي، دون غطاء الرأس، وواجهت أحكاماً قضائية على إثر ذلك.
كما تُشهد آثار أقدام هذه القيود الحكومية في قضايا أخرى، كـ"مهرجان الزقاق" (كوتشِه) الذي أقيم في مدينة بوشِهر جنوب إيران، حيث ختم المهرجان قبل الموعد المحدد لأسباب واضحة وغير واضحة، مثل رقص الأشخاص خلال البرامج، و عدم الالتزام بالحجاب من قبل بعض السيدات، برغم أنه كان قد حصل على تصاريح للعروض من قبل كثير من الجهات وبعد متابعات كثيرة وكبيرة.
وحول هذا الموضوع قال رئيس العلاقات العامة في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مهدي سموعي: "أقيمت عروض وبرامج المهرجان تحت إشراف زملائنا في الوزارة، حيث لم يحدث أي عمل غير قانوني خلال تلك الفترة، لكن بحسب الأفلام والتقارير العامة التي نشرت، فقد جرت أحداث غير مقبولة ومخالفة للقيم أثناء برامج المهرجان".
كما ألغي حفل المطرب الإيراني الشهير علي رضا قرباني، الذي كان من المقرر أن يقام بمدينة أصفهان وسط إيران في الرابع من آذار/مارس الجاري، وذلك لوجود عازفات في الفرقة الموسيقة المرافقة لهذا المطرب، ولم يسمح له بالعرض إلا بعد أيام ومتابعات.
هذا في حال أن رئيس مركز الشؤون الفنّية في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي محمود سالاري، صرّح في مقابلة مع برنامج "ستوديو هَشت" الإذاعي، أن "وزارة الثقافة والإرشاد أصدرت التصاريح اللازمة لإقامة حفل علي رضا قرباني، ولكن لسبب غير معروف، أرسلت أدارة محافظة أصفهان خطاب إلغاء هذا الحفل، وجاء فيه أنه يتعين عليهم (منظمي الحفل) تأجيل الحفل في الوقت الحالي حتى يتم التحقيق في مشكلة ما".
ما قصة الحاج فيروز؟
أما الحاج فيروز الذي جلب للسيدتين الراقصتين متاعب وربما أحكام قضائية، فمن هو. يحتفل الإيرانيون باليوم الأول من موسم الربيع الذي يوافق 21 آذار/مارس، تحت عنوان عيد النوروز أو النيروز، وفقاً لتقاليد قديمة تعظّم ذلك اليوم، وتجعله على رأس الأعياد الوطنية. كما أن النوروز هو بداية العام الإيراني الجديد وفق التقويم الهجري الشمسي.
ومن التقاليد التراثية المتعلقة بالنوروز، ظهور شخصية "حاجي فيروز" أو "حاجي بِيْرُوز"، في الحارات، ليعلن عن حلول الربيع وعيد النوروز. ومن مواصفات الشخصية أن يقوم بأدائها رجل ملطخ وجهه بالأسود، ويرتدي زيّاً لونه أحمر، ووشاحاً أصفر ذهبياً يستخدمه كحزام، وقبعة حمراء.
يحمل حاجي فيروز بيده، آلة الدف الصغيرة أو الرِق، ويقوم بإطراب الناس وترديد الأغاني المحلية والرقص وحركات ترسم البسمة على وجوه من يرونه أو يجتمعون من حوله، صغاراً وكباراً، ونساء ورجالاً.
وفقاً للقوانين الإيرانية، يأتي الرقص تحت تسمية "أعمال منافية للعفة" أو "أعمال محرمة"، وبحسب المادة 638 من قائمة العقوبات في قانون العقوبات الإسلامية، فإن أي شخص يتظاهر بارتكاب فعل محرم في الأماكن العامة سوف يتعرض للسجن أو الجلد
ظن البعض أن اللون الأسود الداكن لشخصية حاجي فيروز، مرتبط بسواد لون البشرة لدى الأفارقة الذين كانوا في بلاط الملوك الإيرانيين في قديم الزمان. ووفقاً لهذا الرأي، يُحتمل أن يكون من قام بواجب إسعاد الناس في الأماكن العامة من هؤلاء، إلى جانب واجبهم داخل البلاط. لكن الرأي الغالب لعلماء الأساطير والمؤرخين، هو أن حاجي فيروز، شخصية أسطورية في التاريخ الإيراني، ومع مرور الوقت أخذت طابعاً ملموساً وفقاً لأعراف المجتمع.
تغيرت هذه الشخصية الأسطورية الحية مع مرور الزمان، على أساس التحولات التي طرأت على المجتمع الإيراني ثقافياً واجتماعياً، إذ إن وجود حاجي فيروز في الشوارع اليوم، يأتي استلهاماً من دور "الأسوَد" التمثيلي الكوميدي الذي ظهر في العقود الأخيرة في البلاد.
ومن خصائص حاجي فيروز المعاصر، أنه لم يستجدِ من أحد، بل يخرج في الشوارع والأزقة ليصدح بقدوم الربيع، كي يحصل على "العيدية" وهي هدايا نقدية. أما الأشعار التي يستخدمها فهي صريحة وجريئة وذكية وعاطفية، وتكون أحياناً لاذعةً كذلك، لكنه يركّز على هدف واحد، هو إسعاد الناس وإدخال البهجة إلى قلوبهم. وعندما يطرب على الرق، يهتز جسمه ليخلق رقصةً شعبيةً، ممزوجةً بارتجال بديع يجلب إليه المارة، ويرسم البسمة على شفاههم. وفي بعض الأحيان يردد معه المارة أبياته الشعبية.
يجمع أداء حاجي فيروز، خصائص مسرح الشارع، حيث التواصل الحميم ووجهاً لوجه مع الناس، والتمثيل في الأماكن العامة، وارتداء زيّ خاص، والحصول على المكافأة، مع ترفيه الناس من خلال الأغاني الشعبية إلى جانب الارتجال والعزف، كما يمكن القول إن هناك تشابهاً بين أداء حاجي فيروز الإيراني، والكوميديا المرتجلة في الشوارع التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في إيطاليا وأوروبا.
ومن أجل قدوم الربيع أو الأعياد أو المناسبات الاحتفالية وحتى للمشاركة في الانتفاضات والاحتجاجات، يرقص الشعب الإيراني رجالاً ونساء، ولا يكترثون للأحكام المتشددة والقوانين الصارمة، إذ أن الرقص والبهجة سمة بارزة من سمات الثقافة الإيرانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...