تندرج هذه المادة ضمن ملف "12 سنة على رصيف22 وما زلنا نقول لا". للاطلاع على مواد الملف كاملة، يُرجى الدخول إلى الرابط.
إنها الليلة الخامسة من ليالي آذار/ مارس 2024، في رفح جنوبي قطاع غزة. بينما كنت أرتجف خوفاً من صوت الانفجارات المتتالية وطائرات "كواد كابتر" التي تطلق نيرانها على كل جسم يتحرك، بالإضافة إلى العتمة التي تخيّم على غرفة الإيواء، ناهيك عن الغضب الذي كان ينهش معدتي بمخالب الجوع، جاء المخاض في الغرفة المجاورة لفتاة لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها. بدأت أبحث عن نافذة تطلّ على طريق "الصحافة" أهرب منها إليه، عن فرصة أروي فيها ما نعيشه، نحن الذين فقدنا كل ما نملك منذ بدء الحرب على غزة، وحُرمنا حتى من رفاهية البكاء.
تقاسمت مع أصدقائي الكُتّاب، محادثات سريعةً ـ حيث توافر الإنترنت ـ وقلّبنا في المواقع بحثاً عن بابٍ مفتوح يسمح لي بسرد ما نحن فيه دون تنميق أو "رتوش" أو رقابة سياسية تقصّ جناحيَّ. لم يكن لديّ من سلاح سوى الكتابة، وحاجة ملحة بعض الشيء إلى الحصول على دخلٍ يعيل عائلتي التي فقدت مصدر رزقها نتيجة قصف المحال التجارية والمخازن، وذلك بعد أن وصلني بريد من الشركة التي كنت أعمل معها قبل الحرب. ولم يحتَج الأمر إلى كثير من الشرح: "نعتذر عن استمرار العمل معك بسبب أزمة الإنترنت والنزوح المستمر... نتمنى أن تستقرّ الأوضاع في غزة". كان عليّ أن أبدأ من جديد، من الصفر، وربما مما دونه. لم أستسلم، كنت أعرف أنّ قصصنا، نحن الناجين، تستحقّ أن تُروى، وأنّ صوتي، وإن كان قد اختنق أحياناً، لا يزال قادراً على طرق الجدران المغلقة.
أرسلت لي صديقتي تغريد دواس، وهي كاتبة سورية (فلسطينية) مقيمة في ألمانيا، "إيميل" محمد دريوس، الشاعر السوري، وتواصلت معه وأخبرته بأنني أبحث عن فرصة عمل تنقلني إلى العالم وتنقل العالم في صوتي. سألني: هل أنتِ خارج غزة؟ أجبته بالنفي. شكرني على تواصلي ثم منحني "إيميل" قسم فلسطين، وتمنّى لي النجاة والتوفيق في رحلتي الشخصية والمهنية.
"رصيف22" النافذة الأولى
"مرحباً، أنا وعد من غزّة، أكتب إليكِ من تحت القذائف وطائرات الاستطلاع التي تنخر رأسي، حصلت على بريدك من أ. محمد دريوس، وأرغب في تقديم المقترح الأول للكتابة في رصيف22. هل يمكنني ذلك؟ بعد أيام قليلة سيحتفل العالم الإسلامي بشهر رمضان المبارك بينما نحن مُجوّعون، نفكر ماذا سنفطر؟"؛ هكذا، ببساطة، أرسلت إيميلاً إلى أسماء عزايزة، محررة قسم فلسطين، حينها. ثم تساءلت: إذاً، ماذا لو طلبت ثلاثة نماذج من تقارير سابقة -على الأقلّ- أو معرّفاً بي أو سألت عن المواقع التي عملت فيها؟ ماذا لو سألتني عن ميولي السياسي أو تخصصي الجامعي؟ وماذا لو تجاهلت الرسالة تماماً؟
"مرحباً، أنا وعد من غزّة، أكتب إليكِ من تحت القذائف وطائرات الاستطلاع التي تنخر رأسي، وأرغب في تقديم المقترح الأول للكتابة في رصيف22. هل يمكنني ذلك؟ بعد أيام قليلة سيحتفل العالم الإسلامي بشهر رمضان المبارك بينما نحن مُجوّعون، نفكر ماذا سنفطر؟"
"الأهم، هل أنتِ بخير وعد؟ أتمنى السلامة التامة لكِ ولعائلتك... صحيح يمكنك ذلك، أرسلي لي محاور المقترح، لنبدأ، أنا في انتظارك"؛ أفتح هاتفي بعينين حمراوتين، نصف مغلقتين على رسالة طمأنينة وقبول. أهلّل: سأصبح يوماً ما أريد…
ثم أفكر: حسناً، ماذا الآن؟ ماذا سأكتب؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟ تندفع مني كلّ الأسئلة، ولا إجابات. بدأت أهرب من الفكرة، لكنّها تلحقني كظلّي، تحاصرني في زاوية الغرفة، وتقول: احكي، اكتبي، اقفزي في الهواء. تنسكب في قلبي مشاعر الحيرة، لا أعرف من أين أبدأ، ولا كيف أصيغ القصة في جمل مرتّبة، أو كيف أكون كاتبةً صحافيةً وأنا خائفة، وجائعة، ونازحة؟ هل المطلوب أن أشرح ما يحدث، أو ما يفعله بي ما يحدث؟
أبرّر لنفسي الهروب: للكتابة طقوس كالعبادة، وهنا لا كوب من القهوة أو عصير بارد أو قطعة صغيرة من الشوكولاتة، ولا غرفة هادئة، أو أضواء خافتة، ولا موسيقى، أو ورد يزيّن مكتبي، ولا مكتب أيضاً، هنا لا شيء... إذاً لا أريد الكتابة ولا العمل.
في اليوم التالي، أضافت أسماء رقمي إلى غروب "واتس آب"، اسمه "صحافيو فلسطين"، وبلطفِ، أصرّت عليّ أن أكتب، دون وقت كافٍ؛ ثلاثة أيام فقط. قبلت التحدّي، ومن هُنا وضعت قدمي على أولى درجات السلم المهني، وبدأت أصعده خطوةً خطوة، فكانت البذرة الأولى التي زرعتها على نافذة رصيف22، تقرير بعنوان: "كيف يستقبل القطاع الجائع شهر الصوم؟".
غمرتني السعادة، كما لو أنجبت طفلاً، رحت أشارك صوراً هنا وهناك. وخلال الأسبوع، أرسلت مقترحاً آخر. كتبت في يوم الأمّ، "قصص من أرض الأمومة المحروقة". أما التقرير الثالث، فتلقّيت طلباً للاستكتاب في ملف ذكرى النكبة: "أرشيف فلسطين تضيئه الحكايات"، وكتبت "أثواب الغزيات… أحرقتها الحرب وأنقذتها الحكاية".
سلّمت المسوّدة، وأنا في طريق نزوحي إلى مواصي خان يونس، إلى خيمة قضيت فيها شتاءً وصيفاً... ومن ذلك الوقت وأنا أشعر بالجمود. لم تكفّ أسماء عن دفعي إلى الأمام، ولم تفلت يدي يوماً، ترسل لي صوتها، تطمئنّ، وتقترح عليّ الكثير من الأفكار، وتدعوني لحضور الاجتماعات، بينما أنا أحاول. قدّمت مقترحاً رابعاً وخامساً وعاشراً، اقترحت عناوين عدة: "الأعراس في زمن الحرب إحياءً لأعراس الانتفاضة"، و"لماذا يلحّ علينا الحب في زمن الحرب؟"، و"ماذا يعني أن تكون رجلاً في الحرب"... وغيرها الكثير. لكنني فشلت، فشلت كثيراً، منعني الاكتئاب الحادّ عن كل شيء حتى عن نفسي، وإلى هنا انتهت رحلتي القصيرة مهنيّاً، والطويلة أثراً مع أسماء العزايزة.
لنتخيّل…
توقفت عن الكتابة لأكثر من عام، لكن رصيف22 لم يتركني وحدي، أمسك بيدي، كأنّ بيني وبينه "علاقةً" لن تنفكّ. تخيّل، كأننا صديقان يعودان مهما ابتعدا، ليلتقيا في نقطة واحدة على خط البقاء.
بين ليلة وضحاها، تلقّيت دعوةً من رشا حلوة، محررة قسم المدوّنة، للمشاركة مع زملائي الصحافيين من بلاد عربية في مؤتمر "لنتخيّل... عالم بلا حروب وصراعات... عن ماذا ستكتب الصحافة؟".
توقفت عن الكتابة لأكثر من عام، لكن رصيف22 لم يتركني وحدي، أمسك بيدي، كأنّ بيني وبينه "علاقةً" لن تنفكّ. تخيّل، كأننا صديقان يعودان مهما ابتعدا، ليلتقيا في نقطة واحدة على خط البقاء
ترأس الجلسة الصحافي أيمن شروف، رئيس تحرير رصيف22. تحدّثنا دون قيود، عن ذاكرة محشوة بالرصاص، حلّقنا في سماء تملؤها الطائرات الحربية، تلوّننا آيات الموت، والنجاة نخبّئها في جُعبنا. تحدّث كل منّا عن تجربته كصحافي في بلده، تعمّقنا في التجارب الشخصية والمهنية التي تشكّلت عبر العمل الصحافي في زمن الصراع. كيف تتأثر هوية الصحافي/ ة وسط مشاهد العنف المستمرّ؟ وكيف ينعكس ذلك على طبيعة التغطية الإخبارية؟ غرف الأخبار؟ وسردية الأحداث؟ حاولنا فهم الآثار النفسية والمهنية والسياسية التي تتركها الحروب على الصحافيين، وطرحنا أسئلةً جوهريةً حول دور الصحافة في عالم ما بعد الصراعات: هل هناك مستقبل للمهنة حين تنتهي النزاعات؟ ما الذي يتغيّر في سرد القصص، وأولويات العمل، والحضور المجتمعي للصحافي/ ة؟... وتحدثت أيضاً عن خيالي في الطفولة الذي كنت أظنّه كما لو أنني أرتدي طقماً رسمياً ملوّناً، وأشتري سيارة BMW، وأسافر من وقت إلى آخر… لكن عكس ذلك يحدث حينما تكون صحافياً يعيش تحت وطأة الحرب.
"عيد ميلاد سعيد"... و"كيكة" البرتقال
في ظلّ الظروف القاسية التي عشتها في غزة، ولا أزال، كان رصيف22 ولا يزال نافذةً للتنفّس. أطلق يديّ في العنان في زمنٍ ضاق فيه الهامش وتقلّصت فيه المساحات. فتح لي الأبواب على مصراعيها لأكتب بصدق، دون مقصّات رقابة ولا قوالب جاهزة. لم يطلب منّي أن أجمّل الواقع، ولم يفرض عليّ أن أخفي ألمي. بل قال: اكتبي كما أنتِ… اكتبي ما تشعرين به.
منحني رصيف22 ما هو أكثر من مساحة، منحني الثقة. شعرتُ للمرة الأولى، بأنّ صوتي له مكان، حتى لو كان مرتجفاً في البداية. تركوا لي حرية الشكل والمضمون، وساعدوني على أن أتحرر من خوفي من الرفض أو الحكم أو التعديل القاسي.
رصيف22 لا يجرّد النص من صاحبه، بل يمنحه شرعية أن يكون. ولهذا استطاع أن يكون بيتاً لكل من كُتم صوته طويلاً...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.