عن انتظارات قاسية… نادين جوني وليلى سويف وسارة حجازي ووفا مصطفى

عن انتظارات قاسية… نادين جوني وليلى سويف وسارة حجازي ووفا مصطفى

مدونة نحن والحرية

الأربعاء 6 أغسطس 20257 دقائق للقراءة

تندرج هذه المادة ضمن ملف "العيد 12". للاطلاع على مواد الملف كاملة، يُرجى الدخول إلى الرابط.


على هامش أيّامنا، انتظرنا… أو ما زلنا ننتظر.

ننتظر أياماً مؤجّلةً، أُمنيات مؤجّلةً، مشاريع مؤجّلةً… وحياةً مؤجّلة.


ننتظر حياةً مؤجّلةً،

فيها،

هناك،

شيء ما،

تبحث عنه قلوبنا. 

قد لا نعرفه.

ولكننا نبحث عنه طوال الوقت،

ظنّاً منّا أننا عندها فقط سنحيا،

كما ينبغي لنا أن نحيا. 

ولكن الانتظارات ليست كلّها واحدةً، وهو ما لا يخبرنا قاموسنا به.

لا يخبرنا بأنّ الانتظارات ليست واحدةً، وأنها تتفاوت في الثقل، وفي اللون، وفي الوقع. لا يخبرنا أنّ للانتظار وجوهاً كثيرةً، بعضها يمرّ خفيفاً، وبعضها يترك ندوباً ترحل مع راحلها. أُفكر كثيراً في انتظارات الغير. تلك التي تشلّ الأيام، حرفياً، وتجعل من كل شيء ومن أي شيء مشروعاً مؤجلاً. انتظارات نادين جوني مثلاً… وليلى سويف، ووفا مصطفى، وسارة حجازي التي طال بها الانتظار... حتى سئمته.

أُفكّر كثيراً في انتظاراتهنّ. أكتب الآن وأنا لا أعرف بالتحديد ما الذي يقودني لأكتب عن هذه الانتظارات، ولو بشكل عابر، ووضعها هنا والتذكير بها. لا أعلم إن كان ذلك شكلاً من أشكال "الطبطبة"، أو محاولةً، أو دعوةً لمن يقرأ إلى أن يكون فقط رحيماً بهنّ، وبكلّ من يشاركهنّ انتظارات مشابهة. أن يحاول أن يكون رحيماً. 

وهذا ليس تنظيراً. لستُ من أنصار التنظير، لكنّ محاولة أن نكون رحماء، "قرار" يمكن تحقيقه، وقابل للتطبيق. كلٌّ يحاول أن ينجو، وكلّنا لا نعرف إلا القليل القليل عن "انتظارات" بعضنا. في ما يلي نبذة عن انتظاراتهنّ، وكثير من الحب، والمواساة، والورود البيضاء.

وفا مصطفى 

وفا، صحافية وناشطة سورية. تُعرّف بنفسها على أنها "بنت أبو صامد". وأبو صامد هو والدها الذي اعتقله نظام الأسد في عام 2013، ثم أُخفي قسراً. وحتى هذه اللحظة، ما زالت تنتظر أي شيء عنه.

في بعض الأحيان، تكتب على مواقع التواصل عن مناماتها التي يزورها فيها، تُخبرنا قليلاً عنه، وتنشر صوراً لمحادثاتها معه. فهي تُراسله حتى اليوم. وفا تُصدّق أنه موجود، لأنه لا يوجد ما يُثبت عكس ذلك بالنسبة لها. لهذا، البحث جارٍ ونضالها جارٍ كذلك. 

بعض الانتظارات قد تفضي إلى الموت، نادين جوني، الأم والناشطة اللبنانية، ماتت في حادث سير، وهي تُناضل من أجل حضانة ابنها في المحكمة الجعفرية. أما سارة حجازي، فاختارت الموت بنفسها بعد عجزها عن التشافي لما تعرضت له من تعذيب نفسي وجسدي في السجن، وهي تطالب بحقوق مجتمع الميم-عين في مصر

فبرغم انتظارها الطويل، تُواصل في كل مناسبة الحديث عن "أبو صامد"، لأنها تؤمن بأنّ "عكس النسيان ليس التذكّر، بل الفعل. لا يكفي ألا ننساهم، علينا أن نعمل من أجل قضيتهم"، فتحمل معها قضية "أبو صامد"، وبقية المعتقلين والمخفيّين قسراً حتى اللحظة. 

نادين جوني

نادين باختصار، هي أمّ لبنانية وناشطة حقوقية. كانت تُناضل من أجل حضانة ابنها، لكنها ماتت في حادث سير خلال انتظارها حياتها المؤجلة مع ابنها كرم.

كانت وفاتها فاجعةً. شكّلت صدمةً في أوساط الحقوقيين، وكل من شاركها يوماً في اعتصامات بيروت وعرفها آنذاك وعرف مطلبها الصغير: أن تحصل على حضانة ابنها. لكن كان للمحكمة الجعفرية (وهي المحكمة الشيعية الدينية في لبنان)، رأي مخالف.

بعد طلاقها، حكمت المحكمة بنقل الحضانة إلى الأب، ومن هنا بدأت نادين نضالها لاستعادة حضانة ابنها، في وجه قرار رأته ظالماً قانونياً واجتماعياً، إذ يمنح القانون الحضانة للأب عند سنّ السنتين للولد، وسبع سنوات للبنت، بغضّ النظر عن مصلحة الطفل أو ظروف الأم.

ولم تكن نادين تطالب فقط بحضانة ابنها، بل كانت تسعى لتغيير النظام القضائي الطائفي بأكمله، والذي يمنح الأولوية للمذهب، لا للقانون المدني، ولا لمصلحة الطفل، فأسّست حملة "الأمّ مش حاضنة" لتوعية النساء بحقوقهنّ القانونية والاجتماعية.

لكن "موت" نادين لم ينتظر الحياة التي انتظرتها. 

ليلى سويف 

هي دكتورة جامعية وأمّ مصرية.

أمّ الناشط والمبرمج علاء عبد الفتاح، المُعتقل في مصر منذ نحو 14 سنةً، بشكل غير متواصل، وفي أكثر من عهد وأكثر من رئيس. 

هذه المدوّنة للتأمل، للتأمّل فحسب في هذه الانتظارات: ماذا تعني؟ ولماذا حدثت؟ ومن السبب؟ وكيف كان يمكن تفاديها؟ "كل ده كان ليه؟"

حبس علاء طال كثيراً. على الرغم من أنّ مدة محكوميته -التي بدأت من لحظة اعتقاله في 29 أيلول/ سبتمبر 2019- انتهت عملياً في 29 أيلول/ سبتمبر 2024، إلا أنه لم يُفرَج عنه، بسبب احتساب السلطات المدة ابتداءً من تصديق الحكم في كانون الثاني/ يناير 2022، وهو ما دفع والدته للإضراب عن الطعام، 278 يوماً، بين إضراب كلّي وآخر جزئي، انتهى في 14 تموز/ يوليو الجاري، بعد مناشدات من ابنتَيها منى وسناء، سرعان انتقلت إلى دوائر أوسع.

ابنه ينتظر، سناء ومنى تنتظران، وليلى انتظرت، وما زالت تنتظر. لكن انتظارها هذه المرّة مختلف، يحمل معه نوراً. كتبت يوم 20 تموز/ يوليو الماضي: "اللي عارفيني عارفين إني عمري ما صدّقت أي وعود بالإفراج أو العفو أو أي حاجة شبيهة… المرة دي مش عارفة إيه اللي حصل لي، كل شوية أقفش نفسي بعمل خطط لحاجات حعملها لمّا علاء يخرج من السجن، وطبعاً كلها خطط غرضها تحقيق أهداف صغيرة جداً… ونحن لم نحلم إلا بحياة كالحياة، لكن كانت جريمتنا أننا حلمنا بها لكل الناس". 

سارة حجازي 

سارة كانت ناشطةً مصريةً في مجال حقوق الإنسان وحقوق مجتمع الميم-عين. عُرفت على نطاق واسع عام 2017، حين رفعت علم قوس قزح في حفل لفرقة "مشروع ليلى" في القاهرة، فاعتُقلت بعدها لثلاثة أشهر، تعرّضت خلالها، بحسب شهادتها، لتعذيب نفسي وجسدي.

بعد الإفراج عنها، لجأت إلى كندا، إلى منفاها القسري، بعد محاولات من "التأقلم" في مكان يرفض وجودها. كتبت هناك عمّا بعد السجن، وما بعد الاكتئاب، ومنفاها، وفقدان الانتماء، وعن زعلها على من تركتهم خلفها.

لكنها لم تُشفَ. ولم تنجُ. كانت تنتظر ما لا يُنتظر ربما؛ أن يتقبّلها الآخر المختلف عنها، وألا يعدّ وجودها تهديداً لوجوده، ولا خطراً على المجتمع أو "القيم المجتمعية" التي فشلت في أن تُوقف خطاب الكراهية والتحريض المتواصل ضدّها والمستمرّ حتى اللحظة.

في 14 حزيران/ يونيو 2020، وضعت حدّاً لحياتها، وكتبت في رسالتها الأخيرة: "إلى العالم، كنت قاسياً إلى حدٍّ عظيم، لكنّي أسامح".

في حوار سابق، قال لي صديقها المقرّب مصطفى فؤاد، إنّ سارة قُتلت. "قتلها من كان يشتمها ليلاً ونهاراً ويحرّض ضدها منذ بدأت بالكتابة عن آرائها على فيسبوك. قتلها من أصدر قراراً بحبسها، ومن اعتقلها من المنزل، ومن حرّض السجينات معها كي يتحرّشن بها ويعتدين عليها بالضرب. قتلها وكيل النيابة الذي كان خلال التحقيقات يتعمد إهانتها وكسر إرادتها… هذا كلّه قتلها. سارة لم تنتحر. سارة ماتت قبل ذلك بكثير". 

منذ عام 2013، والصحافية والناشطة وفا مصطفى تنتظر والدها "أبو صامد" الذي اعتقله نظام الأسد في العام نفسه، ثم أُخفي قسراً. حالها في هذا الألم، كحال آلاف الأمهات والأخوات والبنات السوريات اللواتي أخلصن لانتظار الأحبة، ولو للإبقاء على الأمل الضعيف بأن يطرق الباب يوماً ما

هذه انتظاراتهنّ.

هكذا كان انتظار نادين.

وهكذا كان انتظار سارة. 

كانت أمومة نادين مؤجّلةً، فيما موتها لم يكن كذلك. وكانت "حياة" سارة التي تمنّتها حقّاً، مؤجلةً، بينما نفيها ثم موتها لم يكونا كذلك. 

أُفكّر كثيراً في نقيض روايتيهما، وماذا لو كانتا لا تزالان هنا؟

عرفتُ الآن لماذا كتبت هذا.

هذه المدوّنة للتأمل، للتأمّل فحسب في هذه الانتظارات: ماذا تعني؟ ولماذا حدثت؟ ومن السبب؟ وكيف كان يمكن تفاديها؟

"كل ده كان ليه؟"... 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image