شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عيد الأم في غزة… قصص من أرض الأمومة المحروقة

عيد الأم في غزة… قصص من أرض الأمومة المحروقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 21 مارس 202409:08 ص

استطاع التراث العربي الحديث، مكتوباً كان أم مسموعاً، تخليد قصص فراق أو حنين أو احتفاء بالأم. وجدنا في كل أغنية أو قصيدة أماً واحدةً هي أمنا الشخصية، كما في أغنية "ست الحبايب يا حبيبة". وبالأكثر، وجدنا اثنتين، حين وجدنا أمنا وأم محمود درويش- كوننا قادرين على تصور الأم المنتظرة ابنها أن يعود من السجن- في قصيدة "أحن إلى خبز أمي". لكن أي قصيدة ستكفي عدد الأمهات الغزيات في هذا اليوم؟ وأي أغنية ستكون قادرة على إحقاق عدل يحمل وزر حكايات الآلاف منهن؟ إنها مرثية مطولة ومستمرة. مرثية النساء الثكالى والشهيدات والمنتظرات والجريحات اللاتي لن يكفي التاريخ المنظور لاستعادة مروياتهن وسردها.

تموت اثنتان من الأمهات كل ساعة في غزة منذ السابع من تشرين أول/ أكتوبر، وفق ما ترصده المؤسسات الأممية. ومن تنجو منهن بجسدها، حتى اللحظة، لا تنجو من حرب التهجير القسري والاعتقال والتجويع المرتكبة بحقها وحق أفراد أسرتها. هذه القصص غيض من فيض، وذرة رمل من أرض الأمومة التي تحترق في غزة.

أمي سيدة جميلة، أكثر النساء صبراً. أفنت عمرها في تربيتنا وحب البيت. لكنها لا تزال تحت أنقاضه

قتل الأمومة قبل ولادتها

كانت تجلس سارة الأعرج (20 عاماً) بجوار زوجها، تتحسس تكور جنينها، تخبره عن مشاعر الأمومة التي تتزوج النساء من أجلها. تمازحه قائلة إن الطفل سيحتل حصة من الحب أكثر من حصته منه. إلا أن الفرحة لم تكتمل. فقدت سارة جنينها في شهره السادس، كما فقدت يدها اليمنى، في قصف مربع سكني في مخيم البريج وسط القطاع بعد أن نزحت إليه.

بصوت مرتجف، تقول سارة: "اخرجوني من تحت الأنقاض. وصلت إلى مستشفى شهداء الأقصى. سمعت الطبيب يقول يدها محتاجة بتر. صرخت: مش مهم إيدي، المهم يافا، الله يخليك طمنّي على يافا. اخترت لها هذا الاسم لأني أحب البرتقال وأحب البلاد". وتضيف: "خرجت من غرفة العمليات. سألت عن الجنين. اخبرني والدي بأني فقدت يافا ويدي وزوجي وعائلته. حمدت الله ثم أغمى عليّ. كان من المفترض أن تكون طفلتي الأولى في حضني. واحتفل معها بأول ذكرى عيد الأم، لولا هذه الحرب".

ترى سارة أن هذه الحرب هي حرب ضد النساء الولادات اللواتي ينجبن من أجل فلسطين. "يحاربنا الاحتلال الإسرائيلي في أرحامنا، متاكدة مما أقوله. إن كان الأمر ليس كذلك، فلماذا إذن يُقتل أولادنا؟"، تتساءل.

أمهاتٌ تحت الأنقاض

في الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استهدفت الطائرات الحربية بيتاً في تل السلطان غرب مخيم رفح. فاستشهدت أم طاهر أبو يونس (65 عاماً) وخمسة من أبنائها وزوجاتهم وتسعة عشر حفيداً. لم يخرج أحد من البيت سالماً.

تقول لرصيف22 ألاء أبو يونس (30 عاماً)، المقيمة في دولة الإمارات العربية: "هذه أمي. هدى سليم، مصرية الأصل. وقعت في حب رجل فلسطيني وتزوجا. جاءت للعيش معه في غزة عام 1980. أنجبت منه خمس بنات وأربعة صبيان. كل أخوتي أطلقوا على بنت من بناتهم اسم هدى تيمناً باسمها. فاستشهدت أمي وجميع الحفيدات اللاتي حملن اسمها".

وتضيف أبو يونس: "أمي سيدة جميلة، أكثر النساء صبراً. أفنت عمرها في تربيتنا وحب البيت. لكنها لا تزال تحت أنقاضه. وهذا يؤلمني أكثر من حقيقة استشهادها. كل ما أتمناه أن تدفن بجسدها الكامل. فإن عدت إلى البلاد، فكيف سأضع رأسي على قبرها وأشكو لها شوقي. لا أريد أن أحرم من قبر أمي ورائحته".

يحاربنا الإحتلال الإسرائيلي في أرحامنّا، متاكدة مما أقوله. إن كان الأمر ليس كذلك، فلماذا إذن يُقتل أولادنا؟

رسائل الأمهات لأبناء تحت الردم

فقدت الشاعرة آلاء القطراوي الإتصال بأولادها الأربعة، الابن البكر يامن، وأوركيدا، والتوأمين كنان وكرمل موسى قنديل، منذ 13 كانون الأول/ ديسمبر 2024 بعد قصف منزلهم في شرق مدينة خانيونس. ناشدت آلاء الصليب الأحمر والمؤسسات الدولية مساعدتها في الكشف عن مصير أطفالها. لكن جميع الردود التي تلقتها تقول إن المنطقة منطقة عسكرية ولا يمكنهم الوصول إليها. تحاول الشاعرة تخفيف حدة الغياب بالرسائل التي تنشرها عبر صفحتها على فيسبوك:

يامن… كيف يغدو شعركَ الذهبيّ الآن تحت الحديد وأرتال الباطون؟ وكيف يبدو لون عينيكَ الزرقاوين؟ هل تعرف كم أنتَ جميل؟ كم أبدعَ الله عزّ وجلّ في خلق تفاصيلك؟ أنظر إلى عينيك وأسبّح الله عزَ وجلّ.

أوركيدا… أنت يا أوركيدا لستِ ابنتي، أنت صديقتي وحبيبتي. وأفرح وأنت تلقين عليّ أحياناً ملاحظاتك. ويبهرني ذكاؤك ولباقتك. أحب اهتمامك بأناقتك وفرحك بكونك أميرة صغيرة وأنت تدورين بفساتينك المنفوشة. أميرة يا أوركيدا. أنتِ أميرتي لو تعلمين.

الحرب تقطع أواصر العائلة

تشتد وتيرة القصف في منطقة الكرامة شمال القطاع. فتضطر وفاء دبابش (22 عاماً) للنزوح، بعد اليوم السابع والأربعين من الحرب، خوفاً على طفليها. حاولت جاهدة إقناع جدها الذي كان رافضاً فكرة النزوح. حملت وفاء، عبر "الممر الآمن"، طفلتها لين (4 أعوام)، أما جدها فحمل علي (عامان ونصف). تاه الجد عن وفاء ولم يكمل طريق نزوحه، فعاد إلى بيته وعاد معه الطفل دون أمه.

عند مدخل وادي غزة، أول نقطة للمنطقة الآمنة، على حد ادعاء الجيش الإسرائيلي، فهمت وفاء أن ابنها لم يكمل طريق النزوح. لجأت إلى مدرسة هارون الرشيد في حي الأمل وسط مدينة خانيونس. وعلى حائط أحد الصفوف، حيث تنام، كتبت وفاء:"يا علي، حبيبي يا ماما، أنتَ جعان، ياريت متت وما تركتك". وفي رسالة أخرى تكتب: "اشتقتلك يا علوش، قلبي محرق يمّا". خرج جميع النازحين من المدرسة بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي قراراً بإخلائها والنزوح إلى المواصي أو تل السلطان في رفح. وبقي الحائط شاهداً على قلب وفاء المحروق.

سمعت الطبيب يقول يدها محتاجة بتر. صرخت: مش مهم إيدي، المهم يافا، الله يخليك طمني على يافا. اخترت لها هذا الاسم لأني أحب البرتقال وأحب البلاد

من سيروي قصص الأمهات إن استشهدن؟

آلاف الأمهات استشهدن قبل أن يروين قصصهن، قبل أن يعشنها، وقبل يصنعن حيوات يروي أبناؤهن من بعدهن ذكرياتها. وفيما أحصت المؤسسات الأممية 17 ألف طفل غزي فقد أحد الوالدين أو الاثنين معاً، لن يضيف الرقم الدقيق لأعداد الأيتام من جهة الأم شيئاً على هول مأساة اليتم والأمومة المقتولة. سيروي حكايات هؤلاء الأمهات من نجا من عائلاتهن من أزواج وأبناء.

تزوجت سلمى مخيمر في الأردن من الطبيب علاء أبو شاور. أنجبت منه طفلهما البكر علي. عادت إلى غزة قبل الحرب بأيام قليلة لزيارة أهلها وقضاء إجازة كافية لتشبع شوقها وتعيد الذكريات مع العائلة والأصدقاء. في 24 كانون أول/ ديسمبر 2024 استشهدت سلمى وابنها وأمها وأخواتها في استهداف لمنزلهم في تل السلطان بجوار مسجد سعد في مخيم رفح.

يقول الطبيب علاء أبو شاور (38 عاماً) عن زوجته سلمى: "تركت سلمى وغزة عام 2002 وذهبت للدراسة في موسكو ثم عدت للاستقرار في الأردن. حتى شاءت الأقدار وجمعني الله بها مرة أخرى قبل أن يأخذها مني للأبد. تزوجنا وقضيت بصحبتها أجمل أيام العمر. وانجبنا ابننا علي. كانت أطيب وأحن أم. تعبت في الأشهر الأخيرة من حملها، فقرر لها الطبيب ولادة مبكرة. كانت خائفة جداً. ولد علي باكراً ورحل مع أمه باكراً ولم يتجاوز السنة.

لم يخطر ببال علاء لحظة واحدة أن الحرب ستسرق منه ضحكة سلمى، كما يقول. "سأفقد ضحكتها وهي تراقب مناغاة علي وهي تطلب مني أن أرتدي نفس لون ثيابها التي ترتديها لجلسات التصوير وتوثيق مراحل نضوج طفلها، وهي تراوغني: "بحبوش أكثر منك بس هو حبيب روحي". ثم تقول له: "يا رب يا ماما تكبر وأشوفك احلى ولد بالدنيا". كانت ستكون أعظم أم لولا ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين والنساء في قطاع غزة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image