تندرج هذه المادة ضمن ملف "العيد 12". للاطلاع على مواد الملف كاملة، يُرجى الدخول إلى الرابط.
كل ما هنالك أننا في رصيف22 لا نمتلك أجندةً سياسيةً، وهنا بيت القصيد.
هذه "الورطة" التي قرّرها من أسسوا هذا الموقع قبل 12 سنةً، ليست قراراً عابراً أو ترفاً صحافياً، بل هي ضمير المكان الذي يحرّكنا كل يوم بيومه، وهي السبب الأكبر وراء القرارات التحريرية التي قد لا يلتقط معناها بعض القرّاء، أي حين يبدو العنوان وكأنّه انزياح عن توجّه سابق، أو انقلاب على مواقف قديمة.
المثال الأوضح لما أودّ قوله، سوريا، التي كالعادة تعجّ بالأمثلة الواضحة: ففي السنوات العشر الأخيرة، كان رصيف22 أحد أهم الوجهات للأقلام التي تعكس الآراء المقموعة في ظلّ نظام الأسد. كثرٌ من كتّابنا اختاروا أسماء مستعارةً، خوفاً على أنفسهم أو على عائلاتهم، لكننا عرفناهم دائماً وقدّرنا شجاعتهم.
وفي زمن آخر، أقرب من ذلك، صار رصيف22 أحد أهم الوجهات للأقلام التي تعكس الآراء المقموعة في ظلّ نظام الشرع. وعلى الرغم من مرور فترة من الاحتفال بسقوط النظام السابق، واختفاء الأسماء المستعارة لصالح الأسماء الحقيقية، عاد الكثير من الكتّاب ليطلبوا إخفاء أسمائهم.
هل فعلاً كنّا ضد العلويين وأصبحنا معهم؟ أو كنّا مع السنّة وانقلبنا عليهم؟ الحقيقة أبسط بكثير من تلك التصنيفات الحادّة: لم نكن يوماً مع طرف ضد طرف، بل مع قيم واضحة ضد القمع أيّاً كان مصدره. فحين لا تنتمي إلى أجندة سياسية، عليك أن تنتمي إلى منظومة قيم أخلاقية، وهذه القيم أعلى وأسمى من أي أيديولوجيات أو مشاريع سياسية
الأسوأ هو اتهامنا بأنّنا غيّرنا موقفنا من سوريا! فهل فعلاً كنّا ضد العلويين وأصبحنا معهم؟ أو كنّا مع السنّة وانقلبنا عليهم؟
الحقيقة أبسط بكثير من تلك التصنيفات الحادّة: لم نكن يوماً مع طرف ضد طرف، بل مع قيم واضحة ضد القمع أيّاً كان مصدره. فحين لا تنتمي إلى أجندة سياسية، عليك أن تنتمي إلى منظومة قيم أخلاقية، وهذه القيم أعلى وأسمى من أي أيديولوجيات أو مشاريع سياسية.
رصيف22 هو المكان الذي سيدافع دائماً عن الأقليات والمضطهدين والمنادين بحرية التعبير، مهما كانت انتماءاتهم العقائدية أو السياسية. نحن نقف في صفّ الضعيف، لا لأننا نتبنّى أجندته، بل لأننا نؤمن بأنّ من واجب الصحافة أن تُسمع الصوت الذي يُراد له أن يختفي في الضجيج، وبسبب الخوف أو التخويف.
لكن لنعترف: قرار "عدم الانحياز" قرار متهوّر، يكاد يقترب من الحماقة أحياناً. أن تختار دائماً الطرف الأضعف لتقف إلى جانبه، فهذا لا يجلب مردوداً ولا مكافآت، وبالتأكيد لا يجلب حظوةً لدى مراكز النفوذ، بل على العكس تماماً. رفضنا مبدأ "اللي ما إلو كبير يشتريلو كبير" جعلنا نخسر دعم كثيرين، وجرّ علينا أزمات عاصفةً وضغوطاً مستمرّةً وضعتنا أكثر من مرة على حافة الخطر.
لكننا نحبّ المخاطرة، وإلا فلماذا ننتقد أصحاب القوى أصلاً؟ ولماذا لا نصطفّ معهم ونريح أنفسنا؟
واقع أننا لا نمتلك أجندةً سياسيةً ولكن قيمية، أغلق أبواباً كثيرةً في وجوهنا، بالفعل، لكنه جعلنا بيتاً واسعاً لكل من لديه أو لديها صوت غير مسموع. هذا البيت مفتوح حتى أمام الـ"زنّ" الذي يسببه الذباب الإلكتروني على صفحاتنا. نحن ندرك أنّ وجودنا على وسائل التواصل الاجتماعي، بفلسفة الانفتاح على التعليقات، يجعلنا الهدف المفضّل للعدوانيين تجاه حقوق الإنسان، ولجيش "وجوه أضحكني" الذين يعتقدون أنّ النقاش العام يُختزل في زرّ أصفر صغير.
لنعترف: قرار "عدم الانحياز" قرار متهوّر، يكاد يقترب من الحماقة أحياناً. أن تختار دائماً الطرف الأضعف لتقف إلى جانبه، فهذا لا يجلب مردوداً ولا مكافآت، وبالتأكيد لا يجلب حظوةً لدى مراكز النفوذ.
كل يوم، نخوض معركةً غير متكافئة مع هذه التعليقات، لا لنقنع أصحابها، بل لأننا نؤمن بأنّ المساحة التي نفتحها للنقاش يجب أن تبقى مفتوحةً، حتى إن تحولت أحياناً إلى حلبة ساخرة. فبينما يكتب أحدهم تعليقاً عدوانياً على تقرير عن حقوق النساء، يختار آخر أن يضحك بلا سبب على مادّة عن حرية المعتقد. هذه ليست نزهةً لنا، لكنها جزء من قناعتنا بأن ترك المجال للآخرين، حتى المعارضين والمتنمّرين، هو اختبار حقيقي لقيمنا... فالصحافة التي تنحني أمام "وجوه أضحكني"، لن تبقى صحافة.
في أحيان كثيرة، نجد أنفسنا وسط عاصفة تعليقات منظّمة: هجوم متزامن على مقال يناقش حقوق مجتمع الميم مثلاً، أو على تقرير عن أوضاع النازحين، أو حتى على قصة شخصية لا تتجاوز محاولة فرد أن يروي تجربته مع الظلم المجتمعي. هنا، يتحول قسم التعليقات إلى مرآة حادّة، تكشف كيف ينظر جزء من الرأي العام إلى القضايا الحقوقية. وبرغم ما في المشهد من قسوة، إلا أننا نعدّه مادةً خاماً لفهم العقلية السائدة، وأحياناً لتحفيز مواد جديدة تناقش هذا الخطاب نفسه.
لسنا ساذجين. نعرف تماماً أنّ بعض موجات التعليقات وراءها تنظيمات سياسية أو فرق إلكترونية مموّلة. لكننا لا نغلق الباب، لأننا نعرف أيضاً أنّنا في كل مرة نحذف فيها تعليقاً عدوانياً، نخسر فرصةً لإظهار كيف يمكن للآخرين أن يواجهوا هذا الخطاب بحجة مضادة، أو أن يروا مدى فراغه.
فلسفة رصيف22 ليست سهلة. "عدم الانحياز" ليس طريقاً ممهداً أو خياراً آمناً. لكنه الطريق الذي اخترناه، لأنه "الخيار الوحيد" الذي ينسجم مع ما نؤمن به. الصحافة التي تنحاز إلى قيمها، لا إلى أجندات، تعرف أنّ معركتها يومية، وأنّ جبهتها ليست فقط في أروقة التحرير، بل أيضاً في أقسام التعليقات.
ربما نخسر امتيازات أو دعم مؤسسات، وربما نربح المزيد من المعارك التي لا يراها أحد. لكننا نعرف أنّ البقاء أوفى لأنفسنا ولمبادئنا، وأهم بكثير من إرضاء ذوق "التايم لاين". لذا، اخترنا أن نكون بيتاً واسعاً، مليئاً بالأصوات المتنوعة، وإن ضجّ بأصوات الضحكات الصفراء.
واقع أننا لا نمتلك أجندةً سياسيةً ولكن قيمية، أغلق أبواباً كثيرةً في وجوهنا،لكنه جعلنا بيتاً واسعاً لكل من لديه أو لديها صوت غير مسموع. حتى أمام الـ"زنّ" الذي يسببه الذباب الإلكتروني على صفحاتنا. نحن ندرك أنّ وجودنا على وسائل التواصل الاجتماعي، بفلسفة الانفتاح على التعليقات، يجعلنا الهدف المفضّل للعدوانيين تجاه حقوق الإنسان، ولجيش "وجوه أضحكني" الذين يعتقدون أنّ النقاش العام يُختزل في زرّ أصفر صغير
ختاماً، لا نطلب من قرّائنا أن يتفقوا معنا، أو يخففوا من حدّة التعليقات. ما نطلبه، أو ربما ما نحلم به، هو أن يبقى الباب مفتوحاً أمام الحوار، وأمام التجريب، وأمام ذلك الاحتمال الصغير؛ أن تترك كلمة ما أو جملة ما أو قصة ما أثراً، ولو كان طفيفاً، في زاوية بعيدة من وعي أحدهم أو إحداهنّ.
رصيف22 ليس مشروعاً لربح المعارك، ولا لتجميع الأتباع. إنه مساحة للاحتمالات، وللأصوات التي تجد صعوبةً في التنفس وسط جلبة السياسة والضجيج الرقمي. وجودكم/ نّ، وتعليقاتكم/ نّ، واختلافاتكم/ نّ، وحتى اعتراضاتكم/ نّ، جزء أصيل من هذه المساحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.