بدأت بارتداء الثوب الفلسطيني التقليدي في سن مبكرة. كان ذلك يثير استغراب البعض. لكني كنت أفضّله على الفساتين الحديثة في المناسبات الخاصة، وأحياناً في الأيام العادية، وأعتقد أن لا جمال يفوق جمال هذا الثوب.
كانت جدتي، ابنة قرية الجورة المهجرة قضاء عسقلان، السبب وراء حبي له وتعرفي إليه. فقد كانت تطرز أثوابها بيدها، وتزين بيتها بالمقتنيات والمفارش واللوحات المطرّزة.
في خزانتي، كانت ثمة زاوية مخصصة للأثواب التي ورثتها عن جدتيّ، وهما ورثتاها عن أمهاتهن بعد النكبة عام 1948. إضافة إلى الأثواب التي طرّزتها بيديّ، وأخرى اشتريتها من سيدات فلسطينيات، وواحد أبيض طرزته أمي بخيوط حريرية حمراء لمناسبة زفافها. لكل ثوب حكاية، أو أغنية، أو مناسبة.
في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، هجّرنا قسراً من بيوتنا في شمال قطاع غزة إلى جنوبه. لم نحمل معنا سوى ثيابنا التي نرتديها وبعض من الأوراق الرسمية.
وضعت هويتي وجواز سفري في محفظتي المطرزة، وخرجت إلى رحلة النزوح. وفي الثالث والعشرين من أكتوبر، تمركزت دبابات الاحتلال الإسرائيلي أمام بيتي في حي الشيخ رضوان.
تعرض البيت للقذائف والرصاص، ثم استهدف بصاروخين مباشرين نسفا معهما ذكرياتي ومقتنياتي وأثوابي وأثواب جداتي.
لدى خسارة الأشياء المادية، قد يفهم المرء، مثلي ومثل نساء غزيات أخريات، بأن قيمتها لا تثمن. وبأن الألم المرافق لفقدان الذكريات الملتصقة بثوب تقليدي، لا تقل عن فقدان أشياء أخرى قد تبدو أعلى قيمة.
وربما يحمل الثوب الغزي المتوارث ذاكرة حيوات لبسته أو مرت عنه. "فزخارفه تعكس مظاهر الحياة المتنوعة. فنرى فيه الزهرة والعروق والحصان والدجاجة والسرو"، تقول الباحثة ليلى مشحور لرصيف22.
وتردف: "ما يميز الثوب الغزي عن غيره، هو أن هذه الزخارف ليست مكونة الأشكال الهندسية فقط، واشتهرت بزخرفة القلادة والمقص. ولم توضح كتب التاريخ سبب هذا التفرّد".
تعرض البيت للقذائف والرصاص، ثم استهدف بصاروخين مباشرين نسفا معهما ذكرياتي ومقتنياتي وأثوابي وأثواب جداتي
ترميم الذاكرة بالخيط
تعمل عايدة السقا (65 عاماً)، في حرفة التطريز اليدوي منذ أكثر من أربعين عاماً. تسقبل في بيتها الفتيات والسيدات اللواتي يردن ترميم أثواب جداتهن أو تطريز أثواب جديدة.
تجلس الفتيات العاملات حولها في حلقة دائرية، يغنين أغاني البلاد، ويطرزن أثواب العرائس بألوانها البهية وغرزها المتينة.
وفي حلقة أخرى، تجلس فتيات قصدن تعلّم التطريز اليدوي، إما للانضمام إلى فريق العاملات عند عايدة أو لتأسيس مشاريعهن الخاصة.
"كانت الطرقات على باب بيتي لا تهدأ. طرزت أكثر من ألف ثوب بألوان ونقشات مختلفة. وعلّمت أكثر من 100 فتاة حرفة التطريز"، تقول عايدة لرصيف22.
وتضيف: "كنت في السنوات الأخيرة أشهد إقبالاً كبيراً من الفتيات الصغيرات السن من أجل ترميم أثواب جداتهن. فالتطريز ليس شيئاً ملموساً وحسب، بالنسبة إليهن. إنه هويتهن ومجد جداتهن اللاجئات".
يحتاج تطريز الأثواب وقتاً كافياً نظراً إلى الدقّة في العمل، وقد تتطلب وقتاً يمتد لأشهر. "كنت أعيش مع هذه الأثواب أكثر مما أعيش مع أولادي وعائلتي. ثم، بصاروخ واحد دمر الاحتلال الإسرائيلي كل ما صنعت يدي. جميع البيوت التي قصفت بيوتي، وكل الأثواب المحروقة أثوابي".
وبحسرة، تتابع: "دمروا الأثواب وحرقوا الخيوط في محاولة منهم لإنهاء الفلسطيني وتاريخه. لكنْ يدي وأياد كثيرة لا زالت تعمل. سنعيد هذا الجمال وستبقى هذه الحضارة فلسطينية رغم أنف الاحتلال".
وحسب التقديرات، فقد دمر الجيش الإسرائيلي أكثر من 50 مركزاً نسائياً للتطريز اليدوي ومئات من المشاريع الخاصة للمطرزات الفلسطينية في مدينتي غزة وخان يونس.
ثوب ينجو في حقيبة السفر
عادت جنين الشوّا (28 عاماً) إلى غزة قبل الحرب بشهر واحد. تحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ والآثار من الخارج.
ومع بدء العدوان على قطاع غزة، رتبت أمتعتها وحملت حقيبة سفرها وثوب جدتها وكتب التطريز، وخرجت من غزة إلى مصر.
تقول جنين لرصيف22: "أهدت إلي جدتي الحاجة وصفية ثوبها بخيوطه الخضراء، والذي طرزته عندما أسر عمي خالد. كانت تشرب الشاي كل صباح وتبدأ بالتطريز. قضت أشهر طويلة في تطريزه، وكانت تتمنى أن ترتديه عند خروجه من السجن. لكنها رحلت قبل أن يفك أسره".
"لن أسمح للاحتلال بحرقه كما فعل مع أثواب كثيرات من نساء المدينة. وحين اتخذت قراراً بالسفر، كان الثوب من بين الأشياء الأولى التي فكرت بأخذها معي في حقيبة السفر. سوف أحافظ عليه وأرتديه عندما يخرج عمي من الأسر"، تضيف جنين.
لطالما كان التطريز مكوِّناً هاماً في حياة المرأة الفلسطينية، في رأي جنين. فهو جزء من التراث الذي ورَّثته المرأة إلى بناتها وحفيداتها منذ عصر الكنعانيين حتى يومنا هذا. ولفن التطريز نصيب كبير من دراسات الفلسطينيين وأبحاثهم لما له من دلالات عميقة.
دمروا الأثواب وحرقوا الخيوط في محاولة منهم لإنهاء الفلسطيني وتاريخه. لكن يدي وأياد كثيرة لا زالت تعمل. سنعيد هذا الجمال وستبقى هذه الحضارة فلسطينية رغم أنف الاحتلال
جامعات الأثواب… حافظات الذاكرة
لعلّ توريث الأثواب سرى كعادة عند الفلسطينيات منذ أن عرفنه. ومنهن من أخذ المسألة إلى ما هو أبعد من العلاقة الشخصية أو ارتداء الثوب في المناسبات الخاصة.
لدى وداد قعوار قصة مثيرة مع الثوب الفلسطيني. ولدت في مدينة طولكرم عام 1931 ونشأت بين مدينتي بيت لحم ورام الله.
وفي بعض الإجازات، كانت الأسرة تذهب إلى عابود، قرية والدتها، في منطقة رام الله. خلال تلك الإجازات، بدأت وداد تقدر طبيعة الحياة في القرية الفلسطينية. وتعلمت عن الأزياء والتطريز.
تذكرت وداد كيف كانت نساء وفتيات عابود يرتدين كل يوم، بعد الغداء، أفضل ملابسهن للاجتماع والتطريز. وفي إحدى المرات، أهداها أحد أقاربها ثوبين يعود أحدهما إلى القرن التاسع عشر.
وربما تحولت هذه اللحظة إلى لحظة فارقة في حياتها. فتعد وداد، اليوم، أحد المراجع الرئيسية للتراث الفلسطيني، لا سيما في مجال الحلي والحرف اليدوية والملابس والأقمشة.
تنقلت بين فلسطين والأردن ولبنان سنين طويلة، تمكنت فيها أن تصير صاحبة أكبر مجموعة تراثية، تحتوي كذلك على الثوب الغزي بأنماطه وأشكاله وألوانه المختلفة.
جمعت وداد على مدار 60 عاماً الماضية، ما يقارب 3000 قطعة من التراث من فلسطين والأردن وسوريا، والعراق واليمن، وغيرها. وتؤسس مركز "طراز، بيت وداد قعوار للثوب العربي".
بعد النكبة أصبح الثوب مقاومة من أجل البقاء
ثم ترث الحفيدة شغف الجدة. وتنضم ليلى مشحور إلى مركز طراز عام 2020، وتقوم ببحث ودراسة الملابس التقليدية والتطريز في فلسطين والأردن وبلاد الشام.
تقول ليلي لرصيف22: "من خلال الثوب، تمكّنت كل منطقة في فلسطين من التعبير عن جغرافيتها. فالمناطق الجبلية كان يخلو فيها الثوب من التطريز بسبب انشغال النسوة في حرفة الزراعة ونقل الماء. أما في المناطق الساحلية، فكان التطريز خليطاً بين فنون التطريز التي عرفها أهل فلسطين وذاك الذي تأثروا به لاختلاطهم بشعوب أخرى".
وعن الثوب الغزي، تقول ليلي إنه ثلاثة أنماط، أشهره الثوب المجدلاوي. قماشه مقلم، وتظهر في نسيجه خطوط طولية من لون مغاير للون القماش الأصلي. وأشهر صانعيه أبناء المجدل الذين نزحوا إلى غزة عام 1948.
"لم تكن مصادفة أن يطغى اللونان القرمزي والأرجواني على القِطَع المُطرّزة حتى يومنا هذا. فاللونان اتصلا بشكل مباشر بالكنعانيين ومنسوجاتهم، كما ظلت النقلات والزخارف تعكس البيئة المحيطة من أشجار وجبال"، تقول ليلى
وتكمل: "لقد عرفنا الثوب من جدّاتنا اللواتي هُجرن قسراً. وتعلمنا أن التطريز قبل النكبة عبّر عن ذوق رفيع، وعن تباهٍ بالألوان والتفاصيل. لكن بعد النكبة أصبح الثوب مقاومة من أجل البقاء".
وسواءٌ جمت النساء الأثواب، أم أنقذتها في حقيبة سفر، أم فقدتها في نيران الحرب، تظل الحكايات التي يرثنها عن الأمهات والجدات أرشيفاً غير مادي وغير قابل للمحو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي