في حيّ جُلفا الأرمني، جنوب أصفهان، حيث ينساب نهر زايَنْده رُود بهدوء، تقف كنيسة فانْك، أو كاتدرائية المخلّص المقدّس، كأنها سيرة مكتوبة بالحجر والذهب.كنيسة فانْك ليست مجرد مبنى ديني، بل هي حكاية طويلة عن المنفى والاستقرار، عن الإيمان حين يعبر الجغرافيا، وعن مدينة استطاعت أن تجعل التعدّد جزءاً من صورتها.
من الخارج، تبدو فانك أقرب إلى عمارة إيرانية مألوفة، لا تُفصح سريعاً عن هويتها المسيحية، لكن ما إن نعبر بوابتها حتى ينفتح أمامنا عالم آخر، تتجاور فيه الأرمنية والفارسية، اللاهوت والفن، والروح والتاريخ.
تاريخ الكنيسة… من المنفى إلى الجذور
بدأت حكاية كنيسة فانك في مطلع القرن السابع عشر، تحديداً عام 1605م، حين أمر الشاه عباس الأول الصفوي بنقل آلاف الأرمن من مناطقهم الأصلية إلى أصفهان. لم يكن القرار دينياً بقدر ما كان سياسياً واقتصادياً؛ فقد أراد الشاه تعزيز التجارة والحِرَف، وخاصة صناعة الحرير، مستفيداً من خبرة الأرمن وشبكاتهم التجارية الواسعة.

في هذا السياق، شُيّدت كنيسة فانك الأولى في منطقة بستان برباريس، لتكون ملاذاً روحياً لجماعة اقتُلعت من أرضها، لكنها لم تتخلَّ عن إيمانها ولا عن لغتها. لم تكن الكنيسة آنذاك سوى بناء متواضع، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى مركز حياة، حيث تداخلت الصلاة مع التعليم، والطقس مع الاجتماع اليومي.
بعد نحو خمسين عاماً، وتحديداً عام 1655، أي خلال حكم الشاه عباس الثاني، خضعت الكنيسة لتوسعة شاملة أعادت تشكيلها على صورتها الحالية: قبة كبيرة، وأقواس مرتفعة، ومساحات داخلية واسعة. في تلك المرحلة، أصبحت فانك تُعرف أيضاً باسم "سن سور وآمنا بركيتش"، وصارت مقر إقامة زعيم الأرمن في إيران والهند، ما منحها مكانة روحية وإدارية مركزية.
اسم "فانْك" نفسه، الذي يعني "الدير" باللغة الأرمنية، يكشف عن اتساع دور الكنيسة، إذ لم تُبنَ للصلاة وحدها، بل لتكون مؤسسة جامعة، تحتضن التعليم والثقافة والذاكرة.
العمارة والزخرفة: حوار بين الأرمني والفارسي
الكنيسة من الداخل عالم آخر. قبتها الكبيرة تتصدر الفضاء، مغطاة بزخارف ذهبية ولوحات جدارية تحكي قصص الكتاب المقدس: حياة السيد المسيح، مشاهد القيامة، وخلق آدم وحواء. هذه اللوحات، التي نفذها فنانون أرمن، تحمل أثراً واضحاً للرسم الإيطالي، ما يعكس انفتاح الأرمن على الفنون الأوروبية في تلك المرحلة، بل ثمة مزج وحوار فني بين الفسيفساء الأوروبية والأمنية والفن الإيراني يمكن مشاهدته في الرسوم الجدارية للكنيسة.

ينقسم المصلى الرئيسي إلى فضاءَين: الهيكل العام، والمنطقة الواقعة تحت القبة حيث تُقام الطقوس والترانيم. الجدران مكسوة بأعمال القاشاني الملوّنة، بألوانها العميقة وزخارفها الدقيقة، في استعارة واضحة من الفن الإيراني الإسلامي، بينما تتوزع اللوحات الدينية في الأجزاء العليا، كأنها تراقب المكان من علٍ.
أمام المدخل الرئيسي ينتصب برج ناقوس بِملامحَ معمارية إيرانية، شُيّد في عهد الشاه الصفوي سلطان حسين، ويقابله برج آخر في ساحة الكنيسة يقوم على أربعة أعمدة حجرية. حتى الأرضيات، ببلاطها الهندسي الملوّن، تواصل هذا التوازن الدقيق بين الأرمني والفارسي، لتجعل الكنيسة مثالاً بصرياً نادراً على التلاقح الحضاري.
المقابر والمجمع… ذاكرة لا تنطفئ
في صحن الكنيسة، تصطف قبور شخصيات أرمنية بارزة: أساقفة، قادة دينيون، وسفراء أوروبيون توفوا في أصفهان. هذه القبور لا تحكي سيرة أفراد فحسب، بل تروي مكانة الكنيسة كمركز دبلوماسي وثقافي، وكمحطة عبور بين الشرق والغرب.
يمتزج في كنيسة فانْك المعمارُ الأرمني بالفارسي، حيث تلتقي القباب والأقواس الأرمنية مع الزخارف الفارسية لتصبح فضاءً يعكس تاريخ الجالية الأرمنية في أصفهان
إلى اليوم، لا تزال فانك تؤدي دورها الديني بشكل كامل، فتُقام فيها الصلوات والاحتفالات الكبرى مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، محافظة على إيقاع طقسي لم ينقطع رغم تعاقب القرون.
المتحف والمكتبة… إيمان يتحول إلى أرشيف
ضمن مجمع الكنيسة، يقع متحف فانك، الذي أُسس عام 1905، ويضم مجموعة نادرة من المخطوطات والوثائق واللوحات. من بين معروضاته فرمانات صادرة عن ملوك وحكام إيران، تشهد على العلاقة الخاصة بين الدولة الصفوية والطائفة الأرمنية.

وتحتل المطبعة الأرمنية مكانة خاصة في تاريخ الكنيسة؛ فقد أُنشئت عام 1636، وطُبع فيها أول كتاب مقدس أرمني أي "الزبور". ولا تزال نسخة مستنسخة من هذا العمل محفوظة في المتحف، بينما تحتفظ مكتبة أكسفورد بالنسخة الأصلية، في دليل على أهمية فانك في تاريخ الطباعة بالمنطقة.
أما مكتبة الكنيسة، فتضم نحو 25 ألف عنوان، ما يجعلها واحدة من أبرز المراجع للباحثين في التاريخ الأرمني والدراسات الدينية والثقافية، وذاكرة حية لجماعة حرصت على توثيق نفسها بنفسها.
التعايش فعلٌ يومي
بالنسبة للأرمن في إيران ولكل من يعرفها تمثّل كنيسة فانْك أكثر من معلم ديني؛ إنها شاهدة على مرحلة تاريخية منح فيها الشاه عباس الصفَوي الأرمن حرية ممارسة شعائرهم، وبناء كنائسهم ومدارسهم. في حي جُلفا، لم يكن التعايش شعاراً نظرياً، بل ممارسة يومية وحواراً بين الثقافات، تجلى في العمارة، واللغة، والعلاقات الاجتماعية.

داخل الكنيسة أيضاً هناك نصب تذكاري يخلد ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية الأرمنية في مطلع القرن العشرين، ليضيف بعداً آخر للمكان: بعد الذاكرة الجريحة، والصمود الطويل، والإصرار على البقاء.
تجربة الزيارة بين الفن والسكينة
زيارة كنيسة فانك ليست جولة سياحية عابرة تنتهي بساعة أو "زِد قليلاً"! إنها عبور بطيء في طبقات الزمن؛ بين القبة الذهبية، واللوحات الجدارية، والمتحف، والمكتبة، نشعر أن المكان لا يُشاهَد فقط، بل يُصغى إليه.

هنا، في قلب أصفهان، تروي فانك حكاية إيمانٍ لم ينغلق، وهويةٍ لم تتصلّب، ومدينةٍ استطاعت أن تجعل من التنوّع جزءاً من صورتها. ليست الكنيسة مجرد شاهد على الماضي، بل هي حضور مستمر لمعنى التعايش، حين يتحول من سياسة إلى ثقافة، ومن استثناء إلى حياة يومية.

هكذا تبقى فانك، لا كرمزٍ مُعلّق في كتب التاريخ، بل مساحة حاضرة، يعيش فيها الإيمان جنباً إلى جنب مع الحياة، بلا صدام ولا ادّعاء، بذاكرة مفتوحة على الآخر، فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



