في العشر الأواخر من شعبان، تبدأ مراسم التهليل لاستقبال شهر رمضان في قطاع غزة. فتُزيّن الشوارع، وتفوح روائح البخور من المحلات، وتتردد على المسامع الأناشيد، كما يتبادل أهل المدينة فيما بينهم عبارات التهنئة والأدعية. وبالطبع يتسابق الصغار لشراء أثواب الصلاة والجلابيب والمصاحف والفوانيس المغناة بـ"وحوي يا وحوي"، ولا تفوتهم "الألعاب النارية".
يطوف الغزيون في المولات التجارية والأسواق، ففي سوق الزاوية مثلاً وهو أشهر الأسواق الشعبية في مدينة غزة. ويعد امتداداً تاريخياً لسوق القيسارية الذي يعود إلى العصر المملوكي. يقسم السوق إلى زوايا، وفي كل زاوية من السوق يُباع نوع معين من السلع والمنتجات مثل العطارة والبهارات والمخللات، والخضروات، والفاكهة، واللحوم، والأسماك، والعصائر، والحلويات.
كان هذا سابقاً..
ليس أول رمضان في الحرب... لكن ليس كهذه الحرب
كانت الأجواء الرمضانية في قطاع غزة، مليئة بالبهجة والروحانيات، أما اليوم فتكسو المدينة أدعية الأمهات وجهادهن، وبعد ستة أشهر من استمرار التهجير والنزوح والإبادة الجماعية على قطاع غزة، كيف سيستقبل أهل غزة الشهر؟
تقول علا شحادة (33 عاماً) وهي مهجّرة في حي الشيخ رضوان: "لم تكن هذه المرة الأولى التي يشهد قطاع غزة شهر رمضان في الحرب. ففي عامي 2014 و2019 عشنا رمضان تحت القصف، إلا أن هذه الحرب مختلفة، فلا توجد بيوت، ولا توجد أسواق، ولا توجد مساجد، أينما ولينا وجوهنا نجد الدمار".
وتضيف في حديثها لرصيف22: "كثير من موائد الإفطار هذا العام ستكون خالية من لمة العائلة، إلا من الناجي الوحيد. وهناك عائلات مُسحت بالكامل. ليس ذلك وحده، هناك أكثر من مليون ونصف نازح يتكدسون في جنوب القطاع سيقضون رمضان في خيام أو في مراكز إيواء أو في بيوت أقاربهم".
تقول علا: "ليست هذه المرة الأولى التي يشهد بها قطاع غزة شهر رمضان في الحرب... لكن هذه الحرب مختلفة، فلا بيوت، ولا أسواق، ولا مساجد، ولا طعام".
تقول باكية: "في مثل هذا الوقت من كل عام، كنت أذهب للسوق لشراء أدوات جديدة للضيافة والاستقبال. أرتب بيتي وكأن لا بيت غيره. أصنع زاوية للإفطار، وزاوية لاستقبال الضيوف، وزاوية للصلاة. قُصف البيت وذهب كل شيء لم يبقَ إلا حزني وركضي من مركز إيواء إلى آخر للتفتيش عن (كابونة) بين مؤسسة وأخرى، كنت أتمنى أن تنتهي الحرب قبل رمضان".
كلفة صحن السلطة 20 دولار
تتجول سماح المسحال -نازحة من شمال القطاع- في سوق العودة، وهو سوق شعبي في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة لشراء ما يتوفرمن المواد الغذائية والسلع الأساسية لتجهيز الحاجيات اللازمة لشهر رمضان.
تقول لرصيف22: "تفتقر الأسواق في مدينة رفح إلى المونة، معلبات الفول، والبازيلاء، والفاصولياء التي هي بالأصل مساعدات هي ما نجده في السوق. وبعض الخضروات إضافةً إلى الأسعار الخيالية، لدرجة أن بعض السلع تتضاعف عن سعرها الطبيعي ثلاث وأربع مرات. فمثلاً كلفة صحن السلطة اليوم هي 20 دولار".
وتضيف ساخرة: بحكم أننا سُيّاح، ونحن هنا في رحلةٍ لذا على الأسعار أن تكون أيضاً سياحية. فحتى الأثرياء لا يستطيعون شراء قائمة أسعار السلع الأساسية، هل من المعقول أن يصل سعر الدجاجة 30 دولار، وكيلو السمك بـ40؟".
يتحدث بائع الفوانيس، إبراهيم لبّد لرصيف22، يقول: "كنت أنتظر رمضان من الموسم للموسم من أجل العمل، فكان يبهجني مشهد هروب طفل من يد أمه للإمساك بالفانوس وإجبارها على الدفع. كان كل شيء جميلاً".
سيجلس كثير من الغزيين في رمضان على مائدة الإفطار بدون "لمة العائلة"، تحديداً من حصلوا على لقب "الناجي الوحيد" بعد استشهاد جميع أفراد عائلاتهم
ويضيف: "اليوم لا إقبال على شراء الفوانيس وأحبال الزينة، فأسعارها مرتفعة. ثم هل سيذهب النازح المنكوب لشراء فانوس أم كيلو بندورة؟ حتى الأطفال باتوا يعرفون الأمر. كل شيء غالي في غزة، إلا الإنسان رخيص".
صائمون منذ خمسة أشهر
كانت الملوخية هي الطبق الرئيسي في أول أيام رمضان، فهذه عادة رمضانية غزية، إضافة للسلطات والكبة والسمبوسك والعصائر المتنوعة. وأطباق الحلويات وأصناف القهوة.
تروي لمى نصر (23 عاماً) بأنها منذ بدء الحرب، لم تتناول طعاماً شهياً أو مفيداً، وتقول بأنها تشتهي الكثير من الأصناف، كوجبة الدجاج المشوي أو معكرونة بالبشاميل "لن يؤثر الصيام على يومي، بزيادة شوية شهوة".
لمى: "على ماذا سنفطر في رمضان؟ وعن ماذا سنصوم؟ أمنيتنا الوحيدة اليوم هي أن يأتي شهر رمضان ومعه خبر وقف إطلاق النار".
وتضيف في حديثها لرصيف22: "الطعام الذي تتناوله لا طعم ولا هيئة، إذاً لماذا لا نستقبل رمضان بقليل من الأمل علّ الله يفرج كربنا إذا رضينا بما قسم لنا. رغم أنني متخوفة من أن يأتي رمضان وأنا لا زلت في الخيمة، أمنيتي أن يأتي الشهر ويأتي معه خبر وقف إطلاق النار".
تتساءل لمى: "على ماذا سنفطر في رمضان؟ وفي الوقت ذاته، علينا أن نجيب عن السؤال الأكثر إلحاحاً، عن ماذا سيصوم أهل الشمال؟ سيمتنعون عن أكل ماذا وشرب ماذا؟ على ماذا سيفطرون، وعلى ماذا سيتسحرون؟"
هل يفتي الأزهر بجواز إفطار أهل غزة؟
على باب مستشفى الكويتي في مدينة رفح، يتوافد المرضى من النساء والأطفال وكبار السن،
تحدثت نورا يونس (37 عاماً) بوجهٍ شاحب، عن ضعف أجساد أطفالها الثلاثة الذين أنهكهم سوء التغذية وفقر الدم. وبحسب وزارة الصحة فقد ارتفع عدد ضحايا الجفاف وسوء التغذية إلى 23 شهيداً، حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
تقول لرصيف22: "لا طعام ولا أدوية ولا فيتامينات. يخسر الأولاد أوزانهم بشكل ملحوظ. سنقترب من النصف عام من الحرب ونحن على هذه الحال، أتمنى ألا يأتي رمضان، كيف سيصوم أولادي. وحتى إن لم يفتِ لنا شيخ الأزهر بجواز عدم الصيام، لن أشجع صغاري على الصوم. فهم يذهبون لتعبئة المياه من مسافات طويلة والوقوف على الطوابير وتحمل مشقة لا تتحملها أجسادهم ولا شيء يعوض سوء تغذيتهم".
وينتظر الكثير من أهل غزة اليوم جواباً حول ما إذا كان شيخ الأزهر سيفتي لهم بجواز الإفطار نظراً للظروف القاهرة و"الحرب" التي يعيشونها؟ لكن حتى لحظة إعداد هذا التقرير لم تصدر هذه الفتوى.
رغم المجاعة والإبادة يحاول النازحون في جنوب ووسط القطاع خلق أجواء رمضانية بشيء من التفاصيل الروحانية، فيعلقون على خيامهم ما توفر من حبال الزينة البسيطة والفوانيس في محاولة للتخفيف من حدة ما يعيشونه، ولإدخال البهجة على أطفالهم.
ينتظر الكثير من أهل غزة اليوم جواباً جواباً من شيخ الأزهر بفتوى جواز الإفطار لهم في رمضان، نظراً للظروف القاهرة والمجاعة والإبادة التي يعيشونها، لكن حتى لحظة إعداد هذا التقرير لم تصدر هذه الفتوى
تقول الفنانة التشكيلة، شيماء دلول (30 عاماً): "نحاول بالقليل من الإمكانيات والمستلزمات إضفاء الفرحة وتزيين الخيام وتوزيع الفوانيس وعمل حلقات المديح النبوي، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة".
وتوضح لرصيف22: "هذه الفعاليات هي من أجل الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم ومدارسهم وأمنياتهم وعاشوا الموت والخوف مراراً. الكبار يمكنهم التأقلم لكن الصغار لا ذنب لهم".
وفي شمال قطاع غزة، قام مجموعة من الشبان بإطلاق مبادرة "حق لغزة أن تفرح"، وذلك بتزينهم جدران شوارع المدينة بعبارات التهاني لاستقبال شهر رمضان، لإضفاء نوع من السرور والفرحة في قلوب الغزيين المحاصرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي