بين الجبل والبحر... 4 كنائس تحاكي روح لبنان

بين الجبل والبحر... 4 كنائس تحاكي روح لبنان

رود تريب نحن والتاريخ

الجمعة 19 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة


تنشر هذه المادة ضمن ملف رصيف22 "الكنائس الشرقية... جوار في جغرافيا الرب" الذي يتوقف عند أجمل كنائسنا... منها ما يقترب من النسيان ومنها ما زال زيت قناديله مضيئاً.


لا يمكن أن نفهم روح لبنان وجذوره العميقة، ولا أن نشعر بتاريخه، إلا إذا زرنا كنائسه، حيث تتلاقى السماء مع الأرض، وتهمس الحجارة بحكايات الأجيال والإيمان.

لكلّ كنيسة قصة تستحقّ التوقّف عندها والتأمّل بها. في كلّ مرة ندخل كنيسة نرى شيئاً لم نره من قبل، فنشعر بالارتباط القويّ بالمكان. في هذا التقرير يزور رصيف22 في لبنان 4 كنائس بـ4 قصص مختلفة، كلّ واحدة منها تأخذكم إلى عالمها الخاص وتكشف لكم تاريخها وعمرانها الفريد.

كنيسة سيّدة إيليج… "قاديشا الأولى" في التاريخ الماروني

تقع كنيسة سيدة إيليج ضمن دير يحمل نفس الاسم في بلدة ميفوق في جبيل، وتُعدّ من أبرز المعالم الدينية والتاريخية في التراث الماروني. مع مطلع القرن الثاني عشر، أصبح الدير مركزًا للبطريركية المارونية، ليكون ثالث مقر لها بعد ديري كفرحي ويانوح، واستمر هذا الوضع حتى سنة 1440.

أُقيمت الكنيسة على مراحل متعدّدة، كما تؤكّد الكتابات الأثرية المنقوشة على المداخل، التي توثّق بناء الدير منذ سنة 1121 وترصد التعديلات والترميمات التي جرت على مر القرون. خلال تاريخها الطويل، تعرّض الدير للعديد من الاجتياحات، ولا سيما من المماليك والعثمانيين، مما أدى إلى هدم أجزاء منه، قبل أن تعيد الرهبانية اللبنانية المارونية استلامه وإعادة بنائه في القرن الثامن عشر، مع ترميمات لاحقة بين عامي 1945 و1982 بإشراف الأب نعمة الله الكفوني ومديرية الآثار.

تُعدّ "كنيسة سيدة إيليج" في جبيل محطة أساسية في التاريخ الماروني، إذ كانت مقرّاً للبطريركية قروناً طويلة. كما تحتفظ بأقدم أيقونة مارونية معروفة، بينما توثّق حجارتها مسارات تجدد الإيمان والترميم بعد كل اجتياح أصابها في تاريخها

يعكس الهيكل المعماري للكنيسة بساطة وسحر البناء القديم، كما يحتوي على مصطبة مرتفعة ومجلس للبطريرك والأساقفة. وتعلو المذبح أيقونة "سيدة إيليج" التاريخية، المعروفة أيضًا باسم "أم النور"، والتي تُعتبر أقدم أيقونة مارونية في لبنان.

هذه الأيقونة رافقت البطاركة الموارنة منذ سنة 1121 وحتى انتقالهم إلى وادي قنوبين عام 1440، وتعرضت على مر السنين لأضرار عديدة بسبب الإهمال، أو الحريق، قبل أن تُرمّم بين 1985 و1991 على يد راهبات الكرمل في حريصا.

وقد كشف الترميم أن الأيقونة تحتوي على عشر طبقات تصويرية متراكبة، أقدمها يعود إلى القرن العاشر، مما يجعلها ثروة فنية وتاريخية لا تقدّر بثمن.

تحمل الأيقونة رموزاً غنية بالمعاني: الشمس والقمر في الطبقة الأصلية ترمز إلى سلطانة الليل والنهار، وتحولت لاحقاً إلى رأسَي ملاكين نتيجة التأثير الغربي.

كما تظهر ثلاث نجوم، واحدة على جبين العذراء، وأخرى على كتفها اليمنى، والثالثة في يدها اليُسرى حاملة يسوع، ما يرمز إلى الحبل بلا دنس. اللونان الطاغيان هما الأزرق، رمز الديمومة، والترابي، رمز الزوال، ما يجمع فيه الله بين الثبات والفناء، بينما الهالة حول رأس العذراء مكونة من اثنتي عشرة قطعة نقدية مستوحاة من سفر الرؤيا، تمثل المرأة الجديدة التي تحمل الإكليل السماوي وتحت قدميها القمر.

وفيها، تمّ تصميم الأثاث الكنسي وفق أساليب تقليدية باستخدام خشب السنديان والقنب، مما يحافظ على أصالة المكان وروحانيته. كما تحتوي على نقوش سريانية تاريخيّة توثّق مراحل البناء والترميم بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر.

جلس على كرسي الكنيسة ثمانية عشر بطريركاً مارونياً، دُفن منهم سبعة داخل قلب الهيكل، مما يعكس أهمية الكنيسة ومكانتها الروحية والتاريخية في حياة الموارنة.

واليوم، تظلّ كنيسة سيدة إيليج مركزاً دينياً وروحياً مهماً، يجذب المؤمنين والزوار من مختلف أنحاء لبنان والعالم للتأمّل في جمال المكان، والصلاة، والاطلاع على التاريخ الماروني، ولتبقى "قاديشا الأولى" بحق، رمزاً للإيمان الماروني العميق.

كنيسة سيدة النوريّة... منارة البحّارة

على حافة جرف صخري في حامات، تطلّ كنيسة النوريّة مباشرة على البحر في منطقة رأس الشقعة، والتي تتبع لمطرانية جبيل والبترون الأرثوذكسية.

تًعدّ من أبرز المعالم الدينية والسياحية في لبنان والمنطقة، حيث يعود تأسيسها إلى القرن السادس على يد عبد المسيح الأنفي اللبناني ويوحنّا كسانوفون، ووفق الرواية فبعد أن نجا يوحنّا من الغرق أمام الشاطئ، وبفضل ظهور نور يُنسب للعذراء مريم، الذي أضاء المنطقة وأرشد البحّارة إلى برّ الأمان.

على الجرف الصخري المطل على البحر في رأس الشقعة، وبقصتها المتداولة عن إنقاذ أحد البحّارة من الغرق، بقيت كنيسة "سيدة النوريّة" رمزاً لحماية البحارة.

تحكي القصة أن عبد المسيح، أثناء توجهه إلى دير القديس سابا في بيت المقدس، لاحظ نوراً يشع من مغارة في رأس الشقعة، ورأى امرأة تحمل طفلاً تشير إليه نحو البحر، وكان هناك شاب يتشبث بخشبة كي لا يغرق. فبادر عبد المسيح لإنقاذه، وقال له الشاب: "ساعدني لأصل إلى المرأة في المغارة المقابلة"، ليكتشفا لاحقاً أن هذه المرأة هي العذراء مريم. ومن حينها أصبح الدير يُعرف باسم "دير سيدة المنيرة"، نسبةً إلى نور العذراء الذي كان ينير المنطقة ويحمي البحّارة من المخاطر.

في عام 1890، أقام مطران بيروت وجبل لبنان غفرائيل شاتيلا الدِمشقي ديراً جديداً بالقرب من القديم وأُطلق عليه اسم دير سيدة النوريّة، قبل انفصال المطرانيتين في عام 1901. أما اسم "النوريّة" فيشير إلى العطايا التي تُقدّم للكهنة عند زيارة بيوت المؤمنين في عيد الغطاس لتكريسها.

تتألّف هذه الكنيسة البديعة من القاعة الرئيسية التي يُفصل المذبح عنها بواسطة الحاجز الأيقوني (Iconostasis) المزيّن بالأيقونات المستوحاة من الطراز البيزنطي والروسي التي تعود إلى القرن العشرين.

على جانبي المدخل الرئيسي، توجد أيقونات لسيدة النوريّة، وإلى يمين باب الهيكل ويساره أيقونات للمسيح والعذراء مريم. كما تزيّن جدران الكنيسة أيقونات للصليب، والعذراء على العرش حاملة يسوع بين ذراعيها، وأيقونة رقاد السيدة العذراء، محاطًا بالقديسين بطرس وبولس.

كما يحتوي الدير على أربع نسخ من أيقونة النوريّة، اثنتان في الكنيسة وأخريان في المغارة، تُظهر العذراء مريم مرتدية رداءً أحمر فوق ثوب أزرق، حاملة الطفل يسوع الذي يرفع يده المباركة، فيما تتوهج هالتهما، وأسفل الأيقونة تظهر أمواج البحر الهائجة والبحارة في مواجهة الخطر، لتُهديهم العذراء بنورها إلى بر الأمان.

كنيسة القديسة ماريا غوريتي... وردة وشمعة على تلة مزيارة

تطلّ الكنيسة في منطقة مزيارة في قضاء زغرتا، على مناظر خلابة تشمل البترون وعكار والكورة. بُنيت الكنيسة تكريماً لريّا فرنسوا الشدياق، التي أرسلت، وفق المعتقد، إشارات بعد وفاتها، تطلب تشييد كنيسة باسم القديسة ماريا غوريتي مقابل بيت والدتها على التلة، لتكون مزاراً روحياً يدعم البنات اللواتي لا صوت لهنّ ويقدّم لهنّ المساعدة والدعم المرجوّ.

مقارنة ببقية كنائس لبنان، تعتبر كنيسة ماريا غوريتي في مزيارة حديثة نسبياً، وقد بُنيت لدعم الفتيات والنساء رمزياً وروحياً. كما يتميز تصميمها بشكل وردة وثلاث شموع، وتضم ذخيرة نادرة نُقلت من إيطاليا إلى لبنان

تتّبع الكنيسة الطائفة المارونية، وقد بدأ بناؤها عام 2018 ودُشنت في أيلول 2022 في عهد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، تتميّز بتصميم فريد على شكل وردة يحيط بها ثلاث شموع رمزية:

الشمعة الصغيرة تمثل مراحل درب الصليب.

الشمعة الوسطى نُقش عليها صليب السيد المسيح مع المسامير وجرسين.

الشمعة الكبيرة تحمل صليب القيامة ومجسّم الدينونة، ويُرى فيها وجه السيد المسيح ووجوه القديستين ماريا غوريتي ومارينا.

تضمّ الكنيسة ذخيرة القديسة ماريا غوريتي، وهي المرة الأولى التي تُنقل فيها هذه الذخيرة من إيطاليا إلى لبنان، لتكون مصدر بركة للمؤمنين من كل أنحاء العالم. كما تحتوي الكنيسة على جدارية كبيرة في القبة تمثل عبور الأرض إلى الملكوت السماوي محاطًا بإكليل الشوك، والمذبح يعكس وجه المسيح مع إكليل من الشوك، والمقاعد الخشبية مزينة بإكليل ورود.

تجمع كنيسة ماريا غوريتي بين الجمال المعماري، الرمزية الدينية، والتاريخ الحديث، لتصبح مزارًا مميزًا يجذب الزوار والمؤمنين على حد سواء.

كنيسة التجلّي... جمال الأرزة وروحانية المكان

في قلب غابة أرز الرب في بلدة بشرّي شمال لبنان، ترتفع كنيسة التجلّي الفرانسيسكانية على تلّة مرتفعة تمنحها إطلالة ساحرة وسط الطبيعة الخضراء. وفيها تحتفل الطائفة بعيد التجلّي في 6 أغسطس/ آب من كل عام، حيث يستقطب المكان زواراً من كل أنحاء العالم للتأمّل والصلاة.

تقع "كنيسة التجلّي" وسط غابة "أرز الرب" في بشرّي، وتُعد نموذجاً لارتباط العمارة بالطبيعة. بُنيت من خشب الأرز، وتحولت عبر الترميم إلى معلم يجمع التراث والعبادة في مكان واحد.

يعود تاريخ الكنيسة إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما بدأ الخوري يوحنا شبيعا الأول في بنائها من جذوع وأغصان شجر الأرز، بموجب مرسوم بطريركي في عهد البطريرك يوسف حبيش (1823-1845). وكان يُعاد بناء الكنيسة كلما تهدّمت بفعل تراكم الثلوج، لتستمرّ في خدمة المؤمنين عبر الأجيال.

في سنة 1936، قام المونسينيور إغناطيوس كيروز بتغطية سقفها بألواح التنك، ثم أصبح السقف من الخرسانة المسلحة في العام 1983، بجهود الخوري جورج جوريّة، وكيل الكنيسة آنذاك. أما في العام 1990 أعادت لجنة أصدقاء غابة الأرز ترميم الكنيسة بالكامل، بما في ذلك المذبح المصنوع من خشب الأرز، وأيقونة التجلّي التي تعلوه، والتي صنعها الحرفي سليم أبي قبلان جعجع، مبتكر حرفة الحفر على خشب الأرز.

يتميز هيكل كنيسة التجلّي في بشرّي بتصميم معماري فريد، يجمع بين البساطة والتراث، ويعكس روحانية المكان وطبيعته المحيطة، وقد بنيت على شكل قبو من الحجر، لتحاكي بساطتها وسحرها المبني من خشب الأرز التراث الفينيقي والروماني باستخدام الأخشاب للبناء والمذابح.

أما المذبح نفسه، فقد صنع من خشب الأرز، وتعلوه أيقونة التجلّي المؤطرة بالزخارف التقليدية، ويظهر في الوسط يسوع المسيح محاطًا بالملائكة والقديسين.

لبنانياً، تمثّل كنيسة التجلّي في بشرّي نموذجاً فريداً للارتباط بين الطبيعة والروحانية، حيث يلتقي المؤمنون مع جمال الأرزة ونور الله المتجلّي، في مكان يحفظ التاريخ والتراث المسيحي في لبنان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image