الشمس تضرب الأرصفة كأنها مطرقة من نار، والهواء كثيف، لا يُستنشق إلا بالعناء.قترجّلت سيدةٌ مريضة، بدا عليها الإرهاق، وهي تخرج للتو من عيادة أحد الأطباء في حيّ مصر الجديدة.بتتلفّت المرأة حولها باحثةً عن ظلٍّ تستريح تحته قليلاً، ظلّ شجرةٍ ربما، لكن لا شيء في الشارع الطويل سوى لافتاتٍ تجارية، وأعمدة إنارةٍ معدنية، وجدرانٍ تمتدّ بلا توقّف.لكانت قد سمعت من الطبيب أن عليها تجنّب الإرهاق، فابتسمت بمرارة: كيف تتجنّب الإرهاق في مدينةٍ بلا ظلّ؟ تتذكّر طفولتها حين كانت تمشي إلى المدرسة تحت شجر اللبخ والفيكس، حين كان لكل شارعٍ رائحةٌ خضراء وصوت عصافير.االيوم، تصغي فلا تسمع سوى ضجيج السيارات، صراخ الكلاكسات، وصفير أجهزة التكييف.لكأنّ المدينة لفظت أنفاسها الخضراء، واستبدلتها بأنفاسٍ من غبارٍ وسراب.
من ظلٍّ إلى صحراء
ليس هذا المشهد استثناءً. القاهرة - التي كانت تُعرف يوماً بـ"مدينة الحدائق" - فقدت معظم أشجارها في العقد الأخير. في أحياءٍ كانت تُعدّ من أكثر مناطق العاصمة خُضرة، مثل مصر الجديدة، والميرغني، ومساكن الشيراتون، ومدينة نصر القديمة، اختفت آلاف الأشجار خلال سنواتٍ قليلة، لتفسح المجال لما يُسمّى "التطوير".توالتطوير هنا يعني توسعة الطرق، ورصف الأرصفة، وإزالة ما يُسمّى بالعوائق البصرية: الشجر أحدها.دلكن كيف تحوّل الشجر إلى عدوّ؟قوكيف صارت الظلال تهمةً في مدينةٍ تعرف جيّداً معنى الحرّ؟
التوسعة في حدّ ذاتها ليست جريمةً. لكن حين تُنفّذ دون تخطيطٍ بيئي أو رؤيةٍ عمرانية متكاملة، تصبح شكلًا من أشكال العنف الحضري. المدينة تتّسع على حساب روحها، والشجر ليس عائقًا في الطريق، بل حامٍ له
الخطاب الرسمي يقول إن الهدف هو تحسين المرور، وتجميل الشوارع، وإزالة التشوّهات البصرية.يلكن ما يُسمّى بالتجميل صار يعني، في أغلب الأحيان، تعرية المكان. شوارع بكاملها أُعيد رسمها لتبدو "نظيفة" و"منظّمة"، خطوط مستقيمة من الإسفلت الرمادي، بلا اعوجاج، بلا شجرةٍ واحدة.قتُغسل الأرصفة كل صباحٍ بالماء، لكنها بلا حياة.
المفارقة أنّ إزالة الأشجار تمت في وقتٍ ترتفع فيه درجات الحرارة عالمياً، وتزداد فيه الدعوات إلى زيادة الغطاء الأخضر في المدن الكبرى لمواجهة آثار التغيّر المناخي.
العالم يزرع، ونحن نقتلع.
الوجه الآخر للتوسعة
التوسعة في حدّ ذاتها ليست جريمةً. لكن حين تُنفّذ دون تخطيطٍ بيئي أو رؤيةٍ عمرانية متكاملة، تصبح شكلًا من أشكال العنف الحضري.
المدينة تتّسع على حساب روحها.
الشجر ليس عائقًا في الطريق، بل حامٍ له.
الأشجار تخفّف الحرارة بما لا تفعله أي مظلّةٍ إسمنتية، تمتصّ ثاني أكسيد الكربون، وتمنح المارّة شعوراً غامضاً بالأمان، كأنها كائناتٌ تحرس الشوارع.
حين تُزال، يختلّ توازن المناخ المحلي: تزداد الحرارة، يتصاعد الغبار، وتصبح الأرصفة غير صالحةٍ للمشي. قال أحد المهندسين البيئيين في حديثٍ صحفي: "كل شجرةٍ نُزيلها تجعل المدينة أفقر. الفقر ليس دائماً في الجيب، بل في التنفّس".
أين ذهبت العصافير؟
حين اختفى الشجر، اختفت معه الطيور. كانت العصافير تملأ الصباح، واليمام يرفرف على شرفات البيوت، والغربان تراقب من فوق أعمدة الإنارة كجنودٍ صبورين. أمّا الآن، فالصوت الوحيد الذي يملأ السماء هو هدير السيارات.
القاهرة القديمة كانت مدينةً يمكن أن تُرى وتُشمّ وتُسمع. كانت رائحة شجر اللبخ في الصيف علامة حياة، وصوت العصافير جزءًا من نبض الصباح.
تسأل السيدة المريضة، وهي تمشي في شارعٍ بلا ظلّ:
"أين تبني الطيور أعشاشها الآن؟"
لا أحد يجيب.
الطيور هاجرت إلى المدن الصغيرة، إلى المقابر، إلى الحدائق القليلة الباقية على أطراف العاصمة.
في القاهرة الجديدة مثلاً، نادراً ما تسمع زقزقة عصفورٍ واحد.
كأنّ الطبيعة اختارت الصمت احتجاجاً.
لا يمكن اختزال ما حدث في خطأ إداري بسيط. فالمسألة أعمق من ذلك: هي ثقافةٌ عمرانية جديدة ترى في الشجرة شيئاً غير ضروري، لا يدرّ ربحاً ولا يُترجم إلى أرقام.
المسؤولون عن المشروعات يرون الطريق أوّلاً، ثم الأرصفة، ثم الإضاءة، ثم… لا شيء. أمّا الشجرة فمؤجَّلة دائماً إلى "المرحلة الثانية"، تلك التي لا تأتي أبداً.
حتى حين يُعاد التشجير في بعض الأماكن، تأتي الأشجار الجديدة صغيرةً وهزيلة، تُزرع بلا تربةٍ كافية، أو بلا رعاية، فتموت سريعاً. أشجارٌ بلا جذور، كأنها تمثّل مصير المدينة نفسها.
العداء الخفي للشجر
ربما لا يُقال هذا صراحةً، لكن هناك نوعاً من العداء النفسي تجاه الشجر. البعض يرى فيه فوضى، أوراقاً تتساقط وتحتاج إلى تنظيف، جذوراً تشقّ الرصيف، فروعاً تحجب اللافتات.
بعضهم يخشى أن تستتر خلفها القطط أو المشرّدون. وهكذا تتحوّل الشجرة، ببطء، من كائنٍ حيّ إلى "مشكلة لوجستية". لكن من قال إن الجمال لا فوضى فيه؟ ومن قال إن الظلّ يجب أن يكون منتظماً مثل خطوط الرصف؟
حين تُقتلع الأشجار، لا نفقد الخُضرة فقط.
نخسر الذاكرة.
كل شجرةٍ كانت تحفظ قصةً، لقاءً، لحظة راحة، أو نظرة حبٍّ عابرة. كانت جزءاً من الصورة القديمة للمدينة، تلك التي تمشي فيها مع غروب الشمس، فيغمر وجهك ضوءٌ مائلٌ إلى الخضرة.
كما نخسر ما هو أعمق:
تزداد درجات الحرارة في الأحياء الحضرية بمعدّل ثلاث إلى خمس درجاتٍ مئوية مقارنةً بالأحياء ذات الغطاء الأخضر.
يتضاعف التلوّث الهوائي، ويتدهور الهواء حتى يصبح سامًّا في بعض الأيام.
تُصبح الشوارع غير صالحةٍ للمشي، لأن الناس يهربون من الشمس إلى السيارات، فتزداد حركة المرور التي كانت سبباً في قطع الشجر أصلاً.
إنه دور مغلق من العبث: نقطع الأشجار لتوسيع الطرق، ثم نزيد عدد السيارات التي تجعلنا نحتاج إلى مزيد من الطرق، ثم نقطع المزيد من الأشجار.
القاهرة التي نعرفها… والقاهرة التي تُبنى الآن
القاهرة القديمة كانت مدينةً يمكن أن تُرى وتُشمّ وتُسمع. كانت رائحة شجر اللبخ في الصيف علامة حياة، وصوت العصافير جزءًا من نبض الصباح. حتى وسط البلد، رغم ضجيجه، كان يحتفظ بأشجاره القديمة في شارع محمد محمود، وميدان التحرير، ومحيط الجامعة.
اليوم، في القاهرة الجديدة أو العاصمة الإدارية، تُزرع الأشجار أحياناً بانتظامٍ هندسي بارد، تُروى بأنابيب بلاستيكية، وتُقصّ على شكل مكعّباتٍ هندسية.
لا طير يحطّ عليها، ولا ظلّ حقيقي منها. إنها أشجار تصويرٍ فوتوغرافي: جميلة في الصورة، عقيمة في الواقع.
حين تسير الآن في شوارع القاهرة الحديثة، قد تندهش من النظام والانضباط، لكنك ستشعر بشيءٍ ناقص، شيءٍ لم يعد يُرى، لكنه يُحَسّ... ذلك الشيء هو الظلّ، ليس ظلّ الشجرة فحسب، بل ظلّ الحياة نفسها، الظلّ الذي يجعلنا نحتمل وهج الوجود، ونعرف أن وراء الحرارة، دائماً، برودةً ممكنة
لم يقف الناس مكتوفين تماماً.
ظهرت خلال السنوات الأخيرة مبادرات محلية مثل "شجّرة في شارعك" و"القاهرة الخضراء"، يقودها متطوّعون يزرعون الأشجار في الأحياء، ويروونها من مالهم وجهدهم.
المدارس بدأت تُدرّب الأطفال على الزراعة المنزلية. حتى بعض البلديات الصغيرة بدأت تعيد النظر في قرارات الإزالة بعد شكاوى السكان. لكن هذه الجهود تظلّ فرديةً ومتقطّعة، لا تواجه تيار الإزالة الكبير الذي يتدفّق باسم التطوير. فالقوانين لا تزال ضعيفة، والمسؤولية غير واضحة: من الذي يملك قرار قطع شجرةٍ في شارعٍ عام؟ ومن يُحاسَب إن اختفت مئات الأشجار فجأة؟
ظِلّ واحد يمكن أن يغيّر الكثير
حين وصلت السيدة المريضة إلى آخر الشارع، وجدت شجرةً واحدة، يتيمة، ما زالت تقاوم. اقتربت منها ببطء، ووقفت تحت ظلّها القصير.
للحظة، بدا لها أن درجة الحرارة انخفضت فعلاً، وأن العالم صار محتملاً. مدّت يدها ولمست الجذع بحنانٍ غريب، كأنها تواسيه أو تشكره.
في تلك اللحظة الصغيرة، فهمت كل ما لم تستطع الصحف شرحه:
أن المدينة التي لا ظلّ فيها، لا راحة فيها.
وأن الشجرة ليست زينةً، بل ضرورة.
هي الكائن الوحيد الذي يعطينا دون أن يأخذ.
ربما لا يمكننا استعادة ما قُطع.
لكن يمكننا أن نبدأ من جديد، من شجرةٍ واحدة، من إناء زرعٍ على شرفة، من شارعٍ صغير يتّفق سكانه ليزرعوا غصنًا بدلًا من حجر.
التغيير لا يبدأ من المكاتب، بل من الإصرار على الحياة. أن يطالب الناس بحقّهم في الظلّ، كما يطالبون بالماء والكهرباء والهواء النظيف.
أن نعامل الشجر كما نعامل البشر: بكامل الاحترام.
دعوة إلى الظلال
المدينة التي تقتل ظلّها، تقتل ذاكرتها أيضاً.
حين تسير الآن في شوارع القاهرة الحديثة، قد تندهش من النظام والانضباط، لكنك ستشعر بشيءٍ ناقص — شيءٍ لم يعد يُرى، لكنه يُحَسّ.
ذلك الشيء هو الظلّ. ليس ظلّ الشجرة فحسب، بل ظلّ الحياة نفسها، الظلّ الذي يجعلنا نحتمل وهج الوجود، ونعرف أن وراء الحرارة، دائماً، برودةً ممكنة.
في النهاية، ربما لا نحتاج إلى أكثر من جملةٍ واحدة نكتبها على لافتةٍ صغيرة في كل شارع:
"اتركوا لنا ظلّ شجرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



