يوم الخميس 31 تموز/ يوليو الماضي، وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، على رأس وفد رفيع، إلى العاصمة الروسية موسكو، في زيارة هي الأولى منذ "تحرير سوريا" إلى الدولة التي لطالما عُدّت الحليف الأبرز لنظام بشار الأسد، والتي لا تزال تستضيفه وأسرته منذ فراره من البلاد فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
التقى الشيباني بادئ الأمر بنظيره الروسي سيرغي لافروف، وعقدا مؤتمراً صحافياً صرّح الوزير السوري خلاله بأنّ بلاده تمرّ "بمرحلة مليئة بالتحديات"، وبأنّ هناك فرصاً كبيرةً لسوريا، معلناً: "نطمح إلى أن تكون روسيا بجانبنا"، و"تتطلّع سوريا إلى إقامة علاقات صحيحة وسليمة مع روسيا، قائمة على التعاون والاحترام" المتبادلَين.
وتابع الشيباني: "هناك بعض الحكومات التي تُفسد العلاقة بين سوريا الجديدة وروسيا، ونحن هنا لنمثّل سوريا الجديدة، ونرغب في فتح علاقة سليمة وصحيحة بين بلدَينا، ونطمح إلى أن تكون روسيا إلى جانبنا في مسارنا، وعملنا منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي على ملء الفراغ السياسي، واستطعنا الحفاظ على مؤسّسات الدولة".
بدوره، أعرب لافروف عن أمل موسكو في حضور الرئيس السوري أحمد الشرع، القمة الروسية العربية الأولى المقررة في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، متمنّياً أن يتجاوز الشعب السوري التحديات، وأن يعود الوضع في سوريا إلى طبيعته بالكامل، معلناً الاتفاق على إجراء مراجعة شاملة للاتفاقيات كلها بين البلدين.
بعد ذلك، التقى الشيباني برفقة وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، ورئيس الاستخبارات العامة حسين سلامة، بوزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف، في العاصمة الروسية موسكو، وجرى خلال اللقاء بحث عدد من القضايا العسكرية المشتركة بما يخدم العلاقات السورية الروسية.
وفق السليمان، "عندما تحدّث الوزير الشيباني عن موضوع العدالة الانتقالية من قلب موسكو، فقد قصد بذلك أنّ سوريا لم تنسَ الماضي، خصوصاً ملف بشار الأسد. لكنها، برغم الجرح الكبير، تنظر نحو المستقبل مع وجود تحديات كبيرة لا يمكن إدارتها بعقلية ثابتة، خاصةً أنّ روسيا دولة ذات وزن عسكري وحضور عميق في سوريا"
وقبيل انتهاء الزيارة، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والوزير الشيباني، وأكدت الخارجية السورية، في بيان لها نشرته وكالة "سانا"، أنّ اللقاء شكّل انطلاقةً لمرحلة جديدة من التفاهم بين البلدين تقوم على احترام سيادة سوريا ودعم وحدة أراضيها، وأكد أنّ سوريا ملتزمة بتصحيح العلاقات مع روسيا على أسس جديدة تراعي مصالح الشعب السوري، وتفتح آفاق شراكة متوازنة، وأنّ الرئيس الروسي عبّر عن رفض بلاده أي تدخّلات إسرائيلية أو محاولات لـ"تقسيم سوريا"، وأعرب عن التزام موسكو بدعمها في إعادة الإعمار واستعادة الاستقرار.
وبعيداً عن التطمينات الدبلوماسية والإشادات المتبادلة، يبدو مستقبل العلاقات السورية الروسية ما بعد الأسد غير واضح المعالم، ولا سيّما أنّ موسكو لا تزال توفر الحماية لهذا الأخير الذي يأمل سوريون كثر في أن يخضع لمحاكمة عن جرائم نظامه. وربما هذا ما أخّر التواصل الرسمي بين البلدين، وهو ما يثير تساؤلات حول التحديات التي تواجه هذه العلاقات وحول أهمية روسيا للسلطة الجديدة في دمشق.
زيارة صادمة
أثارت زيارة الوفد السوري لموسكو صدمةً في الأوساط السياسية السورية، فقد جمعت موسكو ونظام الأسد علاقات إستراتيجية وعضوية على مدار عقود، وعقب سقوط النظام واجهت هذه العلاقات تحديات كبيرةً لأسباب لعلّ أهمها تدخّل روسيا ودعمها للنظام السابق وعملها الدؤوب على تثبيته في الحكم، ثم استقبال رأس النظام وكبار رموزه بعد هروبهم من دمشق، ما جعل المتابعين للشأن السوري يتساءلون عن الطريقة التي قد يتم من خلالها بناء علاقات جديدة مع حليفة الأسد الكبرى، في ظلّ وجود ملفات شائكة عالقة بين البلدين، بما في ذلك مصير القاعدة العسكرية الروسية في حميميم السورية، ومصير الاتفاقيات التي وقّعتها موسكو مع بشار قبيل إسقاطه، وذلك بالنظر إلى المستجدات في الملف السوري وكثرة الدول الفاعلة فيه، ومن بينها روسيا برغم خسارتها السياسية بسقوط الأسد.
"تطلّع إلى المستقبل دون نسيان الماضي"
يوضح المحلل السياسي بسام السليمان، لرصيف22، أنّ "الانفتاح على روسيا يأتي ضمن سياقين مهمّين، أولهما إسقاط النظام الذي عقد جملةً من المعاهدات المجحفة بحق سوريا، وعليه يجب تحويل هذه الاتفاقيات إلى فرصة للشعب السوري، وثانيهما ترسيخ نهج سوريا الجديدة المتمثّل في 'الدبلوماسية المتوازنة مع الجميع'. فبعد الانطلاقة الجيدة مع الغرب، لزم فتح علاقات متوازنة مع الشرق لتحقيق التوازن في العلاقات مع المجتمع الدولي التي ترغب سوريا في أن تكون ضمنه بعيداً عن التكتّلات".
يضيف السليمان، أنه "عندما تحدّث الوزير الشيباني عن موضوع العدالة الانتقالية من قلب موسكو، فقد قصد بذلك أنّ سوريا لم تنسَ الماضي، خصوصاً ملف بشار الأسد. لكنها، برغم الجرح الكبير، تنظر نحو المستقبل مع وجود تحديات كبيرة لا يمكن إدارتها بعقلية ثابتة، خاصةً أنّ روسيا دولة ذات وزن عسكري، وحضور في سوريا، والعلاقة بين البلدين -بعيداً عن حقبة بشار- هي علاقة ممتدة لسنوات، وتوجد بين الشعبين علاقات واسعة بدليل وجود ماهر الشرع، شقيق الرئيس أحمد الشرع، الذي درس في روسيا، ضمن الوفد الزائر، بالإضافة إلى أنّ لروسيا دوراً كبيراً في مشاريع سابقة، مثل سدّ الفرات. لذا، يجب عدم قطع العلاقات مع عدم نسيان الماضي، والتطلّع نحو المستقبل، ما يجعلنا نضع ذلك كعنوان رئيسي للزيارة".
موسكو تختبر جدّية دمشق
بدورها، تعتمد خرّيجة العلوم السياسية من روسيا، كيناز الأحمد، في تحليلها لزيارة الوفد الرسمي السوري إلى روسيا على معطيات عدة تستند إلى قوة موسكو أمام دمشق. وتقول لرصيف22، إنّ "استقبال موسكو للوفد السوري ولقاء بوتين به لهما دلالات عدة، أولاها رسالة للإدارة الجديدة وللدول الفاعلة في الملف السوري بأنّ روسيا لم تخرج من سوريا وليست لديها نية لذلك، ولا تزال مؤثِّرةً في هذا الملف، وتريد القول إنها منفتحة على بناء علاقات جديدة ولو لم تكن بقوة التحالف العضوي مع نظام الأسد نفسها، بل علاقات قائمة على مبدأ تبادل المصالح".
وعليه، والحديث لا يزال للأحمد، فإنّ هذه الزيارة تأتي وفق العقل الروسي لجسّ نبض الإدارة السورية الجديدة واختبار مدى استقلاليتها في اتخاذ القرار ونضجها السياسي. "ففي حال كانت هناك جدّية وقدرة من طرف الإدارة الجديدة، فإنّ موسكو ستتحرّك نحو بناء علاقات مع دمشق، وفي حال لم تملك دمشق الجدّية والقدرة فإنّ لموسكو وسائل ضغط تحفظ لها مصالحها، كالعلاقات الجيدة مع الأكراد، والوجود العسكري في حميميم، وحتى العلاقات النسبية مع إسرائيل"، تشرح.
بداية الطريق…
أما المحلل السياسي والمحامي باسل حوكان، فيرى في حديثه إلى رصيف22، أنّ "علاقات الدول تعتمد على ما يتحقّق لكل أطراف المعادلة من مصالح مرحلية وإستراتيجية، خاصةً في الحالة السورية وفي علاقات سوريا التقليدية مع الروس، برغم اختلاف معطيات المرحلة وانقلابها. والزيارة التي قام بها الشيباني بدعوة روسية، على أهميتها، لا تشكّل أكثر من مسألة إعادة نظر في العلاقة السورية الروسية بشكل تفاوضي يحقّق إلى حد كبير السمات الرئيسية لمستقبل هذه العلاقة، بمعنى أننا ما زلنا في بداية الطريق".
ويعتمد مستقبل العلاقة بين دمشق وموسكو، وفق حوكان، على محدّدات عدة منها: "القواعد العسكرية الروسية في سوريا، والتي تحتاج إلى إعادة رسم الآليات التوافقية لمستقبلها، فلا يمكن (عمليّاً) الانقلاب على هذه الأوضاع بكبسة زر من الحكومة السورية. كذلك الحال بالنسبة إلى جملة المعاهدات الاقتصادية الموقّعة بين البلدين في قطاعات عدة بشكل ملزم قانونياً لكليهما، ما يعني استمرارها مع ضرورة إعادة النظر فيها لترميمها. كما أنّ لروسيا نقاط ارتكاز من شخصيات سورية اقتصادية وسياسية وأمنية، وهي تسعى إلى إعادة تدوير بعض هذه الشخصيات، والزجّ بها في التشاركية المفترضة للحكومة السورية القادمة، التشاركية التي تطالب بها الدول المعنية بالملف السوري".
روسيا… لاعب دولي تحتاجه دمشق
إلى ذلك، يصف حوكان روسيا بأنها "لاعب عالمي ممتاز، وترتبط بعلاقات تصل إلى حد التحالف مع دول مؤثِّرة في الملف السوري، مثل تركيا وإسرائيل وحتى إيران، ولا يمكن التغاضي عن دورها السياسي المهم لإعادة رسم الخريطة السورية ليس جغرافياً، وإنما في مسارات شكل وطبيعة الحكم والعلاقات. يتبع ذلك أنّ الحكومة السورية تميل وبتوجيه شرطي إلى بناء جديد مؤسَّس على 'صفر مشكلات'، ما يعني أخذ الجانب الروسي بعين الاعتبار، خصوصاً أنه لا يمكن نكران ما له من تأثير قوي مستمر، ولو بشكل أقلّ، في الداخل السوري، خاصةً مع بقاء أعداد كبيرة من عناصر المنظومة الأمنية العسكرية والحكومية التابعة للنظام السابق، ما يجعل من المفيد تحييد روسيا عن المشاركة في أيّ توجّهات تصعيدية في الداخل من خلال دعمها المحتمل لأيّ حركات تمرّد تستهدف الحكم الجديد".
ومن زاوية أخرى، ينبّه حوكان إلى أنّ "الغرب، وبرغم مظاهر التصعيد، يحاول غلق ملف الصراع الروسي الأوكراني، ولا تزال سوريا ومطامع روسيا فيها إحدى أوراق الإغراء السياسي التي من الممكن التلويح بها للروسي مقابل وقف الحرب الأوكرانية. فأمريكا (برئاسة دونالد) ترامب، تأمل في غلق كل ملفات الصراع في الشرق الأوسط وتحقيق 'السلام الإبراهيمي'، وليس مبالغةً القول إنّ ترامب اللاهث خلف نيل جائزة نوبل للسلام، لا يرغب في تحييد روسيا كقوة مؤثِّرة في هذه الملفات، خاصةً مع علاقة حميمية تحالفية تجمعها بإسرائيل، فضلاً عن أنّ تركيا، اللاعب الأكثر تأثيراً في الملف السوري راهناً والتي تعاني تاريخياً من علاقات متوترة بأوروبا بسعيها لمحاولة تحييدها كلاعب عالمي قدر المستطاع، هي أيضاً تحتاج إلى قوة داعمة لها، ولو بالحدّ الأدنى، في جملة التفاهمات القادمة لإنهاء الصراعات الشرق أوسطية".
العلاقة مع روسيا وضمان تفاهمات واسعة شاملة، بحسب حوكان، يعنيان بالنتيجة تحييد إيران، وضمان تفاهمات قادمة محتملة جداً معها. كيف ذلك؟
كما أنّ العلاقة مع روسيا وضمان تفاهمات واسعة شاملة، والحديث لحوكان أيضاً، يعنيان بالنتيجة تحييد إيران، وضمان تفاهمات قادمة محتملة جداً معها، و"ربما نرى في قادمٍ ليس بعيداً، لقاءات مشابهةً بين السوري والإيراني لوضع حجر الأساس لعلاقة تحفظ مصالح الطرفين بشكل توافقي. وعلى الجانب الآخر، برغم الخصوصية المطلقة للسياسة الصينية الهادئة في العالم والمنطقة، فإنّ التوافق مع روسيا يُعدّ بشكل أو بآخر وثيقةً مبدئيةً لتوافق روسي أمريكي في ما يتعلّق بالمصالح الصينية في المنطقة، خاصةً ما يتعلق منها بمبادرة الحزام والطريق، وتعارضه الجيواقتصادي مع ممر داود".
هل روسيا مهمة لدمشق؟
في غضون ذلك، يرى الناشط السياسي حسين شبلي، أنّ "أهم محدّدات السياسة الخارجية لأيّ دولة، نسج سلوك دولي يضمن لها أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية كأولوية موازنة بين ما تقدِّمه وما تحصل عليه في علاقاتها مع الدول، والدفاع عما تتبناه من قيم وأفكار لتكون السياسة الخارجية الوجه الذي يتعرّف من خلاله العالم عليها، ويتخذ قراراته بخصوص علاقاته معها في المقابل. لذا، لنا أن نتساءل: هل لدى روسيا ما تقدّمه للإدارة السورية من ناحية الأمن والمصالح العليا كما تقدّرها الإدارة الحالية في دمشق؟ نعم، نسمع عن دور قد تلعبه روسيا للتقريب بين دمشق وتل أبيب، وضمان تفاهمات كالتي رعتها سابقاً لأجل الأسد. لكن هذه المقاربة، في اعتقادي، غير سليمة، وذلك لأنّ الدور الروسي كان مهماً لإسرائيل في أثناء الوجود الإيراني لضبطه، بل إن قبول الدور الروسي المتزايد شرقي المتوسط كان أصلاً لكبح النفوذ الإيراني في سوريا عبر ميليشياتها المسلحة".
ويسأل شبلي، في حديثه إلى رصيف22: ماذا تبقّى من هذا كله في واقعنا الحالي؟ ثم يجيب: "إيران خرجت وغدت الحرب مباشرةً بينها وبين إسرائيل، وما كان إسلاماً غير مقبول ويتم التعاون بين الغرب وروسيا لقتاله، تمت مباركة وصوله إلى الحكم في سوريا بدعم أمريكي للشرع لم يعُد خافياً، عسى أن تغني روسيا عن واشنطن في كبح تل أبيب عن بناء منطقتها العازلة في الجنوب السوري".
ويشدّد شبلي على أنّ "بوتين مقبول أكثر من (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان كوسيط بين الشرع و(رئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بنيامين) نتنياهو. لكن هذا المنطق قبلناه في بداية حكم الإدارة الحالية، عندما كانت أمريكا تنأى بنفسها عن حسم موقفها تجاه الحكم الجديد، ولكن تحوّل واشنطن من متفرج إلى فاعل يعني أنّ العلاقة بين دمشق وتل أبيب ليست بحاجة إلا إلى واشنطن، فلا صوت يعلو فوق صوت أمريكا".
"أما عن التسليح، فلن يحتلّ موضوع تسليح سوريا أهميةً اقتصاديةً لأيّ دولة طالما أنه لا نية في سوريا لخوض صراعات إقليمية، باستثناء دور محتمل يروَّج له إعلامياً تجاه حزب الله، كما لا توجد نية إسرائيلية لقبول سوريا وازنة عسكرياً، فلا إغراءات مالية بتأمين البندقيات والرشاشات وبعض عربات النقل العسكرية، ويمكن لأيّ دولة حليفة لإسرائيل أن تتولّى هذه المهمة دون حاجة إلى الروس، فالقرار الأمريكي ركّز الأنظار في سوريا على الاستثمارات والأبراج بعيداً عن ذكر السيادة أو الديمقراطية"، يستطرد شبلي.
ويستخلص الناشط السياسي مما سبق، أن "تشكّل شرعنة الوجود الروسي في الساحل من جديد أهميةً قصوى لروسيا لا تقابلها إغراءات بالقدر نفسه للسوريين، خصوصاً أنّ الحديث عن تسليم الأسد إلى دمشق لمحاكمته مستبعد، بل أظنّه مستحيلاً، لأنّ روسيا ستدفع ثمنه مضاعفاً من هيبتها التي لم يبقَ الكثير منها. في المقابل، لن يكون هذا الثمن كافياً للشرع لكي يشرعن الوجود الروسي، خصوصاً أنّ محاكمة الأسد لن تُقدّم إلا فاصلاً دعائياً يشتري به بعض الوقت ولن تحلّ أيّاً من المشكلات الحقيقية التي تعترض دمشق اليوم لترسيخ حكمها داخلياً".
ملف بشار الأسد ثانوي
يتفق حوكان مع شبلي، في أنّ ملف منح روسيا اللجوء الإنساني لبشار الأسد، مسألة ثانوية برغم أهميتها القصوى "شعبياً". ويتوقّع أن يخضع هذا الملف لجملة من الاستنزافات والمقايضات التي تحدّد مستقبلاً غير واضح المعالم إلى اليوم، وربما يذهب إلى حسم أقل من المتوقع بكثير في المدى المنظور. وتبقى مسألتان مرتبطتان ببعضهما عضوياً، التحدّي الأكبر والمطلب الأهم أمام الحكم الجديد، في رأي حوكان: إنهاء الفصائل الراديكالية لبناء منظومة حكم تعدّدية، والتطبيع مع إسرائيل، وهذا لا يمكن بناؤه إلا بتحييد الأطراف صاحبة المصلحة بعدم استقرار نظام الحكم السوري.
ليونة روسية واجبة
ويقرأ حوكان، العقل الروسي في التعامل مع سوريا على أنه "يدرك تماماً أنّ عهد المحاور والأحلاف انتهى بشكل كبير، خاصةً بشكله العسكري، فاليوم تتجه الأنظار أكثر من ذي قبل نحو التوافقات التي تعزّز المصالح الاقتصادية كبوابة للسيطرة على العالم سياسياً. وفي هذا، تدرك روسيا أنّ مصالحها في سوريا القادمة تحتاج إلى ليونة كبيرة للحفاظ على مكتسباتها في البلاد، وحجز موقع في عملية إعادة الإعمار وجملة الاستثمارات العملاقة التي يخطط لها الجميع في سوريا، وهذا يحتاج إلى المال لإثبات الوجود، وبهذا نعتقد أنّ الغربي، الأوروبي والأمريكي، واثق من قدرته على تحييد المال الروسي المتواضع (بالتقابل) في عملية إعادة الإعمار، خاصةً أنّ مال شريكه الخليجي، تحديداً السعودي، صاحب الحظوة الأكبر في المعادلة السورية القادمة".
الإدارة الجديدة تقرأ روسيا بعين أخرى
وتُدرك الدولة السورية الجديدة، بحسب شبلي، أنّ روسيا لم تأتِ لحماية الأسد بشخصه، فلا مقارنة بين دور الاتحاد السوفياتي مع الأسد الأب، ودور روسيا مع الأسد الابن، إذ لم تعد روسيا القطب الذي يدافع عن أي حليف له بمعزل عن الفائدة كما كان الحال أيام الحقبة الأيديولوجية للشيوعية.
ويشرح: "روسيا تبحث الموضوع وظيفياً، ولهذا تدخّلت في سوريا لمنع التغيير الذي كانت تنظر إليه بعين الريبة. فروسيا، عبر التاريخ، باستثناء الحقبة الشيوعية، لم تكن مصدراً للثورات والأفكار، بل كانت بشكل دائم تنظر إلى أيّ تغييرٍ في أي ساحة دولية بريبة على اعتباره جزءاً من المخططات الغربية. لذلك، كانت في كل حلف يقمع الثورات والتغيرات العالمية، من ائتلاف الروس مع أعداء الثورة الفرنسية، إلى دعمهم الملكيات ضد ثورات ربيع الشعوب عام 1848، إلى قمعهم ربيع براغ، ومعاداة ما عُرِفَ لاحقاً بالثورات الملوّنة".
ويلفت شبلي إلى أنه "لذلك، كان دعم الأسد من جنس الدور التاريخي لروسيا وهو لن يكون عائقاً بذاته ولا سيّما أنّ روسيا -التي كانت جزءاً من التنافس الدولي لفرض مصالحها فدعمت الأسد وأبقته في الحكم- لم تعُد كما كانت. فالنظام الدولي عزلها وأضعفها بعد الحرب الأوكرانية، حتى لم يعد لموسكو بوتين مكان يرضيها في النظام الحالي. لذا، لا يهمّ إن تناست دمشق إمبراطوريةً دعمت طاغيتها بالأمس وباتت تحتضر اليوم".
إلامَ تحتاج دمشق من روسيا؟
وعما تحتاج إليه دمشق اليوم من الانفتاح على موسكو، يقترح شبلي: "شراء الوقت وعدم استعداء الروس حالياً، كي لا تلعب موسكو بورقة الساحل السوري مستغلّةً صلاتها ببقايا الجيش السوري السابق في وقت تتعقّد فيه ساحات كانت تبدو أقلّ تمرّداً وأسهل مراساً، ولن تضطر الإدارة السورية إلى عملٍ عسكري كي تدمجها في المركز. أما الساحل، فمنذ البداية كان محط أنظار الجميع كبؤرةٍ متوقّعة للتمرّد على الحكم الجديد، والسلاح الذي قد تستخدمه موسكو وطهران للتفاوض مع دمشق تحت النار، وإذ بشرق الفرات والسويداء يسرقان الأضواء برغم اعتقاد حكّام دمشق الجدد بأنّ نيل رضا أمريكا كافٍ لبسط حكمها على كامل أراضي سوريا".
ويردف الناشط السياسي: "لكل ما سبق، يطمح الشرع اليوم إلى تفادي الصدام مع الروس قبل تبريد بقية الملفات. فالساحل أخصب البقع للتمرّد والخروج عن المركز مستهدياً بالإدارات الذاتية كنموذج للخروج على دمشق، ثم التفاوض على شكل الاندماج. لا أظنّ الشرع ينظر إلى العلاقة مع موسكو بأبعد من ذلك، خصوصاً أنّ العالم الذي فشلت فيه موسكو في حماية الأسد والإبقاء على حكمه لم يتغيّر بعد، بل إن روسيا تعرّضت بعد زعزعة نفوذها في سوريا لأكثر من ضربة في أوكرانيا".
لا يعتقد شبلي أنّ ملف بشار الأسد وتوفير موسكو الحماية له قد يؤثّران على علاقاتها مع "سوريا الجديدة"، حيث إن "الشعب الذي لم يأبه كثيراً لأنباء تفاوض حكومته مع تل أبيب وعدم شفافيتها معه بخصوص مصير الجولان السوري المحتل، لا أظنّهُ سيكون أكثر امتعاضاً تجاه المفاوضات مع موسكو"
البراغماتية شعار المرحلة
ويضيف أنّ الإدارة السورية، منذ البداية، تقدّم أيّ عملية تفاوض مع الخارج على أنها طريق لا غنى عنه لجعل حياة السوريين أفضل. وعليه، كل خطاب راديكالي تبنّته هيئة تحرير الشام سابقاً، يتم التنازل عنه اليوم من قبل إدارة الشرع تحت مسمّى الصالح العام، لتبدو الدولة في موقع "المضحِّي"، كما أنّ "الشعب الذي لم يأبه كثيراً لأنباء تفاوض حكومته مع تل أبيب وعدم شفافيتها معه بخصوص مصير الجولان السوري المحتل، لا أظنهُ سيكون أكثر امتعاضاً تجاه المفاوضات مع موسكو".
ويختم شبلي بأنّ "منطق الطرفين من الزيارة قائم على أنّ الحديث أفضل من الصمت، والسير نحو إصلاح العلاقات أفضل من الوقوف والانتظار. فدمشق تراهن على سياسة خارجية مرنة تُكسِبها في الداخل بعضاً من الثمن الذي تنفقه في الخارج، وروسيا تراهن على إبقاء العالم في حالةٍ من الصراع المضبوط طالما أنها في حالة استنزاف في أوكرانيا، فكل ما يهمّ الطرفين هو البقاء بغض النظر عن الكيفية… المهم أن يقدّم أقلَّ قدرٍ من التنازل في صراعه المركزي، وصراع روسيا المركزي هو أوكرانيا، بينما يبدو صراع دمشق المركزي مع بقية القوى السورية الطامحة إلى دور أكبر في مرحلة ما بعد الأسد".
في النهاية، يبدو أنّ غالبية الشعب السوري وصلت إلى مرحلة التدجين القصوى في قبولها السياسات الحكومية الخارجية، مقابل الحصول على "الأمان"، والعيش ربما بالحد الأدنى من الكرامة، وهناك ملفات يسعى السوريون لإغلاقها، وأهمها الوضع المعيشي والوضع الأمني، ما يعني ضرورة أن يتحرك حكّام سوريا الجدد لتنفيذ المطلوب منهم دولياً، وبناء نظام حكم مدني تشاركي، وإنهاء دور الفصائل الراديكالية الأكثر تطرفاً على الأرض، وإلا فإنّ كل اللقاءات والتوافقات ستنتهي إلى اللاأثر بفعل ما قد يعدّه الغرب مماطلةً في تحقيق المطلوب على غرار مماطلة بشار الأسد التي انتهت بإسقاطه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.