حديث مع البيرة الألمانية

حديث مع البيرة الألمانية

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 22 ديسمبر 20258 دقائق للقراءة

هنا، أقصى شمال شرقي برلين، اليهود صامتون، الألمان صامتون وكذلك اللاجئون. لكل أسبابه. الهرب من الكلام والمكاشفة عامل مشترك، عامل ضمني غير مصرح به. ما يحصل هو التجنب وتحاشي الاختلاط. التعدد الثقافي والعرقي غشاء إعلامي، ثناء على حياة غير حقيقية، غير فعلية. التجربة والممارسة تقولان غير ذلك. الرفض ربما هو الحقيقة غير المعلن بها، لكنها العيش الفعلي.

أما أنا فقد نسيت أسباب صمتي. احترت حيرة شديدة لم يعد بإمكاني تجاوزها ولا القفز فوقها. لا يعود الأمر لحكمة أفتقدها ولا لغاية أبلغها عبر حكمة صمتٍ ما. اللغة ربما كانت السبب الخفي، هذا الحاجز الذاتي الرهيب والمُلغز. وددتُ فقط أن أتكلم مثلما تتكلم الأشياء من حولي، أتكلم مثل كرسي أو حقيبة أو حديقة خالية من الخشية والخوف، أتكلم مثل كلب وحسب.

كأس البيرة الألمانية

ذهبتُ سعيداً متحمساً، معتمداً على أحاسيس قلبية صافية، متفائلاً هرعتُ إلى كأس البيرة الألمانية الكبيرة. هي بالعادة كبيرة ولذلك ربما لديها الكثير من الكلام لتقوله لي، تشعُّ تتألق تبرق وتسدي لي النصح المرّ السائل اللذيذ فيغمر بالرشاد عقلي ولساني وجوف حلقي حتى أمعائي. توجهني وتهدئ من مخاوفي وتخمد شكواي التي ربما نتجت عن محض أوهام!

في البداية لجأت إلى مدح لونها الأَشقر الذهبي، لم أبدأ بالوقوف على الطاولة، على الأطلال، باشرت الغزل على الفور: "من أين جئتِ بهذا اللونِ الطاغي يا شقيقة التعب والضجر، يا فؤاد اللهو السكران، يا استراحة المُحبّ المنعزل، يا خليلتي المختلة، أنتِ يا خمول الأبدية الرقيق!".

لم أتلق ردّاً. ولا حتى كلمة ودّ واحدة. كانت البيرة لا تزال تفقع فقاعات صغيرة لطيفة، تتسابُح ملتصقة منفصلة ثم تستريح تتلاشى. كانت الفقاعات هي الرد، الرد الضبابي الزَّبَدي، ردّ الرذاذ.

متفائلاً هرعتُ إلى كأس البيرة الألمانية الكبيرة، هي بالعادة كبيرة ولذلك ربما لديها الكثير من الكلام لتقوله لي، تشعُّ تتألق تبرق وتسدي لي النصح المرّ السائل اللذيذ فيغمر بالرشاد عقلي ولساني وجوف حلقي حتى أمعائي

بعد قليل وجدتُ أنها خسرت شيئاً ثميناً من امتلائها الجواني الناعم وبدانتها السائلة الطافحة. لا بأس، لتكنْ أنحفَ، هذا أفضل لها ولي ولمُدمني سوق المتعة، المرتدين تيشيرتات تشبه البيجامات، لمُجيدي التنعّم في سروال الترف النحيف. الآن سأمضي أبعد في التغزل بهذه الرشاقة المستجدة المِطواع، حتى إذا بدا مضيّاً فيه القهقرى والتراجع إلى الوراء، لأهتبل فرصة النحافة المغرية، ليكنِ الإغواء الفوري، حتى إن كان طائشاً عبيطاً، هيّا، تقدّم يا جندي اللجوء، أيها العنصر الغرّ الصغير، تشجّعْ، لا تبالِ:

"قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ/ بِرَهْز القضيب بين الدَّخول فَمِهْبَلِ"!

لا ردّ، لا رجفة ارتعاشٍ، لا اغتلام ولا احتلام ولا حتى نأمة واحدة، مع أنني اغتملتُ حتى قبل نطقي عَجُزَ البيت الشعريّ المحرَّف عن أصل امرئ القيس "بِسَقْط اللوى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ" .

لاجئ قديم نعم... لكنك لست مخضرماً بعد

لقد فشلت المحاولة الثانية. ما كان ينبغي لي النزول إلى ما تحت السرّة. هذا صعب، صعب وكثير على التحمل. ستغضب ألمانيا بلا شك. ستغضب لأسباب غير أخلاقية. لكنني حسبت أنني لو تحدثت شعراً بفصحى قديمة، بلغة ما قبل قرآنية، سأَحظى بالقبول وأنالَ رضى البيرة الحيادي وحُسنها العلماني. كان ذلك وهماً علمانياً، فقاعة ما بعد حداثية.

مع الألمان صعب جداً أن تخاطبهم على هذا النحو، فاللّغة العميقة، لغة ما تحت السرة، ملكهم وحدهم، وأنت لست منهم حتى لو حدث وتفوقت عليهم بشرب كميات أكبر من البيرة التي يشربونها عادة صباحُ ومَسَا!

على العكس، فإن النزول إلى ما تحت السرة خطير، سيغرقكَ بشفطة بيرة، ثم لا تدري بعدها ماذا تفعل وماذا تقول إن ردت عليك البيرة بالشتم والصفع وكيل اللعنات على اللاجئين. صحيح أنك لاجئ قديم نسبياً، لكنك لم تصل بعد إلى فئة من يُعدّون في عداد المخضرمين، أولئك الذين يحسنون التهرب من الضرائب وشتم الألمان في سرّهم معاً، يحصلون بحكم الإقامة القانونية على بدل العطالة عن العمل وعلى تأمين صحي وراتب تقاعدي، لكنهم بينهم وبين أنفسهم يقولون عن ألمانيا إنها "بلد خنازير". بالمقابل لا يبخل الألمان بالرد سراً وعلناً: "فراو ميركل جلبت الى بلادنا عالم زبالة". رد مقتضب كاف.

مع الألمان صعب جداً أن تخاطبهم على هذا النحو، فاللّغة العميقة، لغة ما تحت السرة، ملكهم وحدهم، وأنت لست منهم حتى لو حدث وتفوقت عليهم بشرب كميات أكبر من البيرة التي يشربونها عادة صباحُ ومَسَا.

طيب، فهمت عليك. الآن سأتقدم إليهم باللغة العامية، ربما تنفع، محاولة أخيرة، لعل وعسى. لا العامية لن تنفع. من الأفضل التوسل إلى البيرة المغناج المتمنعة باللغة الأم، بالأصل القح، بالكردية المقاومة الشجاعة، بكلمات جگرخوين الخالدة: " Kîne em? " (من نحن).

قد تسعفني الكردية... الأمّ الطيبة

وجدت أخيراً بعد الإلقاء الحماسي للقصيدة الكردية أن البيرة لم يبق منها سوى رشفة في قعر الكأس الكبيرة، سوى الثُّمالة. كانت كلمات القصيدة من القوة والنفاذ إلى الحد الذي استطاعت به كرع الكأس دفعة واحدة، شربتها شُرْبَ البعير الذي نهى عنه الرسول محمد قائلاً: "لا تشربوا شربة البعير، ولكن اشربوا مَثْنى وثلاث، وسَمّوا الله إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم".

يا لسوء الحظ، لا الشعر الجاهلي نفع ولا النثر الحديث ولا حتى الكردية الأمّ الطيبة الملهمة. حسناً ربما من الأفضل لي أن أرضى بالقليل الذي في حوزتي، هذه القطرات الباقية من شباب البيرة الشقراء. نحن أنا وأنت متساويان الآن أيتها البيرة العزيزة، الصديقة الصامتة الوفية.

بعد فشل محاولاتي الشجاعة والجريئة جرَّ البيرة إلى الكلام والتفكير، أسديت نصيحة لنفسي أن أعود وأقيّم حالتي منعزلاً وأترك الأفكار الغنائية والأوهام الشعرية لنفسي فقط. لقد جرَّت عليّ رغبتي مشاركة البيرة همومي الفشلَ والعزلة والإحباط. آن لي استخلاص العبرة من صدود البيرة وكفى.

غالباً ما تكلمتُ بلسان غيري ووضعت نفسي محلّه. من المستحيل أن أصير غير ما أنا عليه. لم أُفلح، على الرغم من طول تفكيري، في إيجاد علة معقولة للتيه الذي أقمت فيه إقامة لاجئ في المنفى. لم أستسغ يوماً هذه المفردة المعلوكة "المنفى". فضلت عليها تعبير "جندي اللجوء" الذي ساعدتني البيرة في اكتشافه واعتماده لقباً لي.

السوريون، مثلهم مثل الأيام، يَمحون بعضهم البعض من دون هوادة، سواء أكانوا لاجئين أم مقيمين أم في عداد حملة الجنسية الألمانية العزيزة على قلوبنا جميعاً، سواء كانوا داخل حرم الحزام الأمني الوطني وخارجه، من دون حسبان أن الزمن الوطني هو قارب الجميع المثقوب

أعتقد أنني بلا لسان بلا لغة، لا مدنية ولا عسكرية. مع أنني أتكلم والآخرون يفهمون عليّ، إن لم يكن دائماً على الوجه الصحيح، على الوتيرة التي أتمناها، على الوقْع الذي يرنّ في خاطري. الطابع الموسيقي لكلامي الملحون لا يسري في نفوس من أتكلم إليهم وأُحادثهم السريان الذي أشتهيه وأرجوه رجاء دامعاً.

قلة تقل يوماً إثر آخر، أولئك الذين أُبادلهم الكلام. في المبادلة الكلامية نوع خفي من الإبادة. الواحد يمحو كلام الآخر من دون أن يتعمد ذلك. ربما للأمر صلة بمرور الزمن، باليوم التالي الذي يمحو اليوم السابق.

السوريون، مثلهم مثل الأيام، يَمحون بعضهم البعض من دون هوادة، سواء أكانوا لاجئين أم مقيمين أم في عداد حملة الجنسية الألمانية العزيزة على قلوبنا جميعاً، سواء كانوا داخل حرم الحزام الأمني الوطني وخارجه، من دون حسبان أن الزمن الوطني هو قارب الجميع المثقوب. كان عليهم أولاً رتق القارب مثلما كانت تُرتق فروج الزوجات والجواري إذا غاب عنهن السيد الفحل أيام ما قبل الإسلام، وربما ما بعده.

كان عليهم اختراع زمن غير وطني، زمن محلي لا بل ما دون المحلي، زمن ريفي تقليدي زمن عشائري، زمن سهوب برية، لكنهم لم ينتبهوا جيداً إلى القوى اللا وطنية التي تشد تلابيب الوطنية، خارج مزاعم التاريخ المشترك، حتى تصل بها إلى تل أبيب وسنغافورة.

كانوا قد تبادلوا المحو في حلب ودمشق وقامشلو ودرعا والسويداء واللاذقية وحمص، والآن يستأنفون المحو المشترك في برلين وباريس وجنيف وفيينا، في بيروت واسطنبول. المحو شراهة وطنية، لغم مرغوب، آفة مختارة بوعي أو من دونه، لا فرق! السوريون بلا لسان جامع، حتى البيرة لن تقدر يوماً على لمّ شملهم على رأي واحد.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image