في إشارة لإمكانية تجاوز عقدة الدعم القاتل من قبل موسكو لنظام الأسد البائد، وصف نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، خلال زيارة أجراها إلى دمشق مؤخراً، برفقة مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، وصف المحادثات مع قادة سوريا الجديدة بأنها كانت "بناءة".
قبلها، أشارت موسكو لنقل الرئيس السوري المخلوع لصلاحياته واستقالته من منصبه قبل مغادرته سوريا، في خطوة استباقية تفسح لها المجال للتواصل مع السلطات الجديدة، والتي يُشاع أنها أبرمت اتفاقات مسبقة مع موسكو، قبل أو أثناء مسيرها إلى دمشق، بجانب الحديث عن اتفاق يعتريه الغموض بين ممثلي روسيا وتركيا وإيران خلال اجتماع الدوحة في 6 كانون الأول/ديسمبر، يقضي بضرورة امتناع المعارضة السورية عن استهداف القوات العسكرية الروسية وقواعدها.
أياً يكن، تصرّفت السفارة الروسية في دمشق بهدوء خلال العملية العسكرية التي أطاحت بنظام الأسد الحليف، وتحاول الآن الاعتماد على السلطة الناشئة، والتي تتكون من معارضة حاربتها سابقاً، لضمان أمن جنودها وأصولها العسكرية المتبقية، مع أمل السماح لها بالاحتفاظ ببعض الوجود على الأقل في سوريا، حيث تمثل خسارة هذه القواعد ضربة قاسية لطموحات روسيا الجيوسياسية، والتي حاولت من خلالها إبراز قوتها في المنطقة مع رفع مكانتها الدولية، بجانب كونها مراكز لوجستية استراتيجية لعملياتها في دول القارة الإفريقية، والتي عزّزت موسكو نفوذها فيها مع تقويض المصالح الغربية.
كما أن توثيق علاقاتها مع حكومة دمشق الناشئة، سيجدّد اعتماد الأخيرة على أنظمة الأسلحة الروسية، مع إمكانية إعادة الوزن للدور الروسي في ضبط إيقاع التنافس الإقليمي المكتوم أو المعلن، بين أفرقاء المعادلة الشرق أوسطية.
تصرّفت السفارة الروسية في دمشق بهدوء خلال العملية العسكرية التي أطاحت بنظام الأسد الحليف، وتحاول الآن الاعتماد على السلطة الناشئة، والتي تتكون من معارضة سورية حاربتها سابقاً، لضمان أمن جنودها وأصولها العسكرية المتبقية
ورغم الضربة التي تعرّضت لها روسيا بإسقاط النظام السوري، إلا أن لدى موسكو أوراق مساومة في تعاملاتها مع النظام الجديد، ومنها القمح والنفط، حيث تشكّل روسيا المورّد الرئيسي للقمح إلى سوريا، وهو ما يمكن استخدامه كورقة مهمة في مفاوضات مستقبل قواعدها العسكرية في سوريا، بجانب إمكانية تثقيلها بمادة النفط، عبر استغلال موسكو للنقص الحاد بالنفط في سوريا، من خلال تقديم المساعدة في هذا الحيز مقابل مكاسب سياسية. بجانب خدمات سياسية ودبلوماسية قد تقدمها موسكو، أو تعرض تقديمها، كالاعتراف بالحكومة الناشئة مع حشد الاعتراف بشرعيتها، أو دعم مواقفها في مجلس الأمن الدولي، وسواهما من خدمات، أقلها إمكانية تحقيق التوازن ضد التأثير المفرط للقوى الفاعلة في سوريا ما بعد الأسد.
من جانبها، لدى الحكومة السورية الجديدة أسبابها المنطقية لإعادة النظر في العلاقة مع روسيا، رغم صعوبة تبرير ذلك أمام الشعب السوري، حيث أبدى الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، استعداداً للحفاظ على العلاقات الاستراتيجية، واصفاً إياها بأنها "دولة مهمة" و"ثاني أقوى دولة في العالم"، منوّهاً إلى أن دمشق لا ترغب بمغادرة موسكو "بالطريقة التي يتمناها البعض"، حيث أشار الشرع إلى أن استمرار التعاون معها يخدم المصالح الاستراتيجية لسوريا، مع التأكيد على أولوية المصالح السورية دون إثارة صراعات مع الدول الخارجية.
ففي الوقت الذي تسعى فيه حكومة دمشق الناشئة لبناء شرعيتها الدولية، وهي حاجة ضرورية لبناء الدولة وإعادة تنشيط الاقتصاد، فإنها بحاجة لعلاقات إيجابية مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، لا سيما الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، بما يمكّن من استخدام هذه العلاقة كورقة مساومة في مواجهة الولايات المتحدة والقوى الغربية، بحال رفضت إضفاء الشرعية على هذه الحكومة. ومع مسألة الشرعية، تسعى هذه الحكومة لموازنة علاقاتها الإقليمية والدولية لضمان عدم عودة سوريا كساحة للتنافس والصراع الإقليمي والدولي.
رغم الضربة التي تعرّضت لها روسيا بإسقاط النظام السوري، إلا أن لدى موسكو أوراق مساومة في تعاملاتها مع النظام الجديد، ومنها القمح والنفط، حيث تشكّل روسيا المورّد الرئيسي للقمح إلى سوريا
هذا إلى جانب قدرة روسيا المحتملة/المأمولة بإعادة الأموال السورية المنهوبة من قبل رجالات النظام البائد، والأهم، إحضار الرئيس السوري المخلوع إلى منصة العدالة التي يأملها السوريون، والتي ستمنح الشعبية لأي حكومة تستطيع القيام بذلك. وقد تكون موسكو أعدّت لهذا الأمر، من خلال منح بشار الأسد وعائلته حق اللجوء الإنساني، وهو ما يمكّن من مقاضاته على أراضيها. على عكس اللجوء السياسي الذي يمنع تسليم حائزه، وهو ما تم التطرّق إليه عموماً خلال مفاوضات الجانبين، من خلال نقاشهما لقضية العدالة الانتقالية، وإبداء موسكو النية للمساعدة في هذا المجال، بجانب استعدادها للقيام بدور بارز في إعادة الإعمار، مع ترحيب/دعوة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، لزيارة موسكو، بما يوحي بوجود رغبة مشتركة لتعزيز العلاقات على أسس من التعاون والتفاهم والمصلحة المشتركة، تتخطى إشكالية الماضي القريب.
مع ذلك، وبالنظر لحرص الإدارة السورية الجديدة على كسب ثقة ودعم الغرب، فإنها ستحرص على تنظيم أي علاقة أو تعاون مع روسيا ضمن حدود لا تؤدي إلى نتائج عكسية على هدفها المذكور، وعلى ذلك، قد تتفاوض مع موسكو على اتفاق يمنح الأخيرة وجوداً محدوداً على الساحل السوري، وضمن شروط مختلفة تماماً عما جرى سابقاً، بجانب تقليص الوجود العسكري الروسي ضمن حدود الدفاع عن النفس، مع بقاء قواعدها في سوريا كمرافق لوجستية بدون أي مكونات عسكرية نشطة، بحيث يمكن استخدام هذا الوجود المحدود كضمان لتحقيق التوازن السياسي خلال المرحلة الانتقالية المقبلة. وعلى المدى المنظور، ستعمد موسكو لممارسة سياسة "الترقب والانتظار" لإعادة تثقيل دورها في الساحة السورية، وخلاله، ستبقى سوريا مهمة، لكنها لن تكون عنصراً ذا أولوية في استراتيجية روسيا الشرق أوسطية في الوقت الحالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 8 ساعاتاكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 8 ساعاتكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ يومينالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ يوميناحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 3 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل