دخلت أزمة السويداء آخر فصولها الدموية، أو هكذا نأمل، مع بدء تنفيذ بنود اتفاق بين حكومة دمشق وإسرائيل برعاية أمريكية وقبول إقليمي. هو أول اتفاق رسمي/ شبه رسمي يُعقَد بين عدوَّين قديمَين راغبَين حالياً في التوصّل إلى اتفاقات قد تُفضي لاحقاً إلى تطبيع العلاقات بين الطرفين. لكن، مع الأسف، يقوم جذر الاتفاق المذكور على اعتراف رسمي ضمني بحق إسرائيل في صياغة مشهد الجنوب السوري، بدلاً من صياغته وفق توافقات أمنية أو اتفاقية فضّ اشتباك محدّثة بديلة عن اتفاقية عام 1974 التي أسقطتها تل أبيب مع إسقاط نظام الأسد.
هنا تكمن خطورة الاتفاق، برغم إشكالية بعض بنوده وضبابيتها، وبرغم الحجج الحكومية القائلة باستقواء تيار الشيخ حكمت الهجري، أحد شيوخ الطائفة الدرزية في السويداء، بإسرائيل، وهو ما لا ينكره الأخيران. كما أنه يأتي بعد تضييق الشيخ الهجري وتياره الخيارات أمام الحكومة السورية الحالية في ما يخصّ بسط سيادتها على محافظة السويداء، متعلّلاً بحجج واهية، وهواجس تطال السوريين عموماً، لا فئة دون أخرى، بما في ذلك الإعلان الدستوري السلطوي والحوار الوطني الصوري وحكومة الفصيل الواحد بواجهة تكنوقراط.
أحداث السويداء الأخيرة تدقّ جرس الإنذار مجدّداً في ما يخصّ وحدة سوريا واستقرارها، ولا سيّما أنّ تراكم الأخطاء، وعدم وجود نية أو مؤشر على معالجتها، مع تجييش محموم، واصطفاف ديني/ مذهبي/ عرقي، جميعها تجعل الاحتكام إلى السلاح الخيار الأول، وربما الوحيد، لدى جميع الفرقاء السوريين
كذلك يأتي الاتفاق نتيجة توجّه حكومي لتفكيك موازين القوى الداخلية عبر توافقات خارجية، عوضاً عن مرونة مطلوبة من جميع الأفرقاء الداخليين للتوافق. وهو ما بدا من تصريح وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عن سوء فهم بين دمشق وتل أبيب، وذلك غداة دخول القوات الحكومية إلى السويداء، لفضّ الاشتباك الحاصل بين فصائل محلية وعشائر البدو، والذي قابله قصف إسرائيلي لقوات حكومية ومقار سياديّة سورية، بحجة اقتصار موافقتها على بسط دمشق سيادتها على السويداء على الجوانب الخدمية والمؤسساتية والأمنية، دون الجيش والسلاح الثقيل، وبجانب تكرار ادّعائها حماية الطائفة الدرزية، بعد ورود أخبار عن ارتكاب القوات الحكومية انتهاكات مروعة في حق المدنيين، والاستثمار فيها لتحقيق مآربها الأمنية والإستراتيجية، من بوابة التعاطف المتبادل.
لاحقاً، وفي موقف يتسم بالبراغماتية والعقلانية معاً، أعلن الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، سحب القوات الحكومية من السويداء. تبعت ذلك مجازر في حق البدو من قبل فصائل محسوبة على الهجري، ما أثار نفرةً عشائريةً، أدّت إلى هجوم قرابة خمسين ألف مقاتل من أبناء العشائر السورية، وقتال دامٍ لأيام، انتهى بموجب الاتفاق المذكور. والسؤال الواجب هنا: هل تكون الدماء المُسالة مؤخراً في السويداء، ومن جميع الأطراف، عبرةً للوصول إلى سوريا واحدة موحّدة للجميع أو تكرّس النزعة الانعزالية/ الانفصالية لدى بعض المكوّنات السورية؟
ظلال السويداء داخلياً
للمرة الثانية، بعد أحداث "فتنة الساحل" في آذار/ مارس 2025، تشير مصادر حقوقية موثوقة إلى قيام عناصر محسوبة على القوات الحكومية بانتهاكات وأعمال قتل خارج إطار القانون، وهو ما يشير بدوره إلى أزمة بنيويّة قد تدفع ثمنها سوريا، والسوريون جميعاً، من خلال وجود قوى متطرّفة لا تقبل الآخر أو لا تلتزم بالقرار الحكومي، نتيجة اعتبارات فئوية أو فصائلية أو مصلحية. وتالياً، يمنح الطرف المقابل، أي الذي لم ينضوِ تحت مظلّة الدولة السورية الجديدة حتى الآن، أحقية عدم نزع سلاحه، طالما أنّ قرار الحكومة غير ملزم لجميع أفراد قواتها الأمنية والعسكرية.
تُلقي أحداث السويداء بظلالها على كامل الجغرافيا السورية، فيما تشير بدايةً إلى انتقال العنف الطائفي من مكان إلى آخر، مع تجييش طائفي "غير مجرّم" على نحوٍ جادّ إلى الآن.
إلى ذلك، تتشابه أحداث السويداء وأحداث الساحل في مسألة النفرة الشعبية/ المجتمعية، بما يفتح باب الشكوك حول دور الحكومة في هذا الأمر، أو في تسهيله على أقل تقدير. كما يفتح الباب لتساؤلات مشروعة حول قدرتها على حماية السلم الأهلي، وهي الوظيفة المفترضة لأي حكومة. ناهيك عمّا تشير إليه هذه المسألة من ضعف الحكومة، مع نشوء قوى عسكرية جديدة ومؤثّرة في المشهد السوري، بدلاً من إعادة هيكلة الموجود منها ضمن مؤسّسة الجيش السوري الوليد. فضلاً عن ذلك، قد يعزّز هذا الأمر سلوك نيل الحقوق المفترضة خارج منطق الدولة ومؤسساتها، سواء من قبل أفراد منفردين أو جماعات/ مجتمعات محلية، في حالة عجز الحكومة أو إهمالها هذه الحقوق المستحقة. تتضاعف هذه المخاطر، في ظلّ تباطؤ الحكومة في ملف العدالة الانتقالية، وهي مسألة حسّاسة وعالية الأهمية في الوجدان السوري.
وتلقي أحداث السويداء بظلالها على كامل الجغرافيا السورية، فيما تشير بدايةً إلى انتقال العنف الطائفي من مكان إلى آخر، مع تجييش طائفي "غير مجرّم" على نحوٍ جادّ إلى الآن. وهو ما يجعل التمسك بالسلاح، أو اقتناؤه، الضمان الوحيد للحماية، مع ضرورة وجود داعم خارجي، وفي المقدمة تقف إسرائيل، الراغبة بشدة في رؤية سوريا ضعيفة ومتشظّية. وهنا قد تلتقي مصالح الطرفين؛ مكوّن تنتابه الهواجس تجاه الدولة السورية الجديدة، وتل أبيب الساعية إلى تقسيم سوريا. وتالياً، مضاعفة التحديات أمام الجهود الحكومية لبسط السيادة واحتكار السلاح.
من إعلان دستوري جديد إلى حكومة تشاركية إلى إعادة بناء السلطتين التشريعية والقضائية، فضلاً عن احتكار السلاح بيد الدولة وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية الوليدة ضمن عقيدة وطنية. فقط حين يتحقّق كل ذلك، يمكننا القول: مبروك سوريا، لا خوف عليكِ بعد الآن
كذلك، قد تعيد الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا ترتيب أوراقها الداخلية وشراكاتها الخارجية، بعد انخراطها في اتفاق واسع التأويلات مع الحكومة السورية الجديدة، وتراجع أهميتها لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وحيث أنها وإسرائيل تلتقيان في مساحة أكبر من الحكم الذاتي، بمشاركتهما العداء -أو على أقل تقدير التنافس- مع تركيا. وبالنظر إلى تاريخ طويل من التعاون والدعم الإسرائيلي لأجنحة كردية انفصالية في دولها الوطنية، بجانب قدرة تل أبيب على التأثير على مسار السياسة الخارجية الأمريكية، وجرّها في بعض الأحيان إلى خيارات إسرائيلية، فقد تتجه الإدارة الذاتية إلى إعادة تعميق علاقاتها مع تل أبيب، وإلى حدود بعيدة جداً.
على ذلك، يمكن القول إنّ أحداث السويداء الأخيرة تدقّ جرس الإنذار مجدّداً في ما يخصّ وحدة سوريا واستقرارها، ولا سيّما أنّ تراكم الأخطاء، وعدم وجود نية أو مؤشر على معالجتها، مع تجييش محموم، واصطفاف ديني/ مذهبي/ عرقي، جميعها تجعل الاحتكام إلى السلاح الخيار الأول، وربما الوحيد، لدى جميع الأفرقاء السوريين.
وهذا أمر يجعل التعايش بين مكوِّنات الشعب السوري صعباً أو مستحيلاً. وهذا الأخير هو بوابة التقسيم. ولتلافي ذلك، يجب إطلاق مؤتمر حوار حقيقي، تشارك فيه جميع القوى والتيارات العسكرية والسياسية والاجتماعية، تقوم الحكومة لاحقاً بتنفيذ مخرجاته، ضمن جداول زمنية محدّدة، وبطريقة تقوم كل منها على الأخرى. فمن إعلان دستوري جديد إلى حكومة تشاركية إلى إعادة بناء السلطتين التشريعية والقضائية، فضلاً عن احتكار السلاح بيد الدولة وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية الوليدة ضمن عقيدة وطنية. فقط حين يتحقّق كل ذلك، يمكننا القول: مبروك سوريا، لا خوف عليكِ بعد الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.