لبنان من

لبنان من "رستم" إلى "أبو عمر"

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 23 ديسمبر 20256 دقائق للقراءة


قبل أيام، بدأت مواقع ومحطات تلفزيونية بالحديث عن قضية "أبو عمر" والشيخ خلدون عريمط. بحسب الرواية، أقنع "أبو عمر" بالاتفاق وبالتنسيق مع عريمط، سياسيين لبنانيين بأنّه "أمير سعودي"، يتحدث باسم المملكة، ويوزّع المهام والأدوار على مجموعة لا يبدو أنها قليلة، من أشخاص يعملون في الحقل العام ولديهم طموحات سياسية، كبيرة أو صغيرة.

تفاصيل الرواية أو الفيلم الذي نفّذه الرجلان بإتقان، ليست مهمّة. رجل ادعى النفوذ، وسياسيون أنصتوا إليه لكي يُحققوا بعض طموحاتهم. "أبو عمر" الذي تبيّن أنه صاحب محل حدادة سيارات في شمال لبنان، أتقن الدور الذي أناطه به الشيخ. وليس في الإتقان حنكة أو دهاء، بقدر ما في الرواية كلها ما يكشف عن ضحالة سياسية يعيشها لبنان، منذ سنوات، وانعدام سياسي مقابل الارتزاق، وغياب الأفق مقابل طموح موضعي يتلخص في كرسي ووجاهة مزعومين.

لن يكون غريباً -ولبنان على مشارف انتخابات نيابية- أن يظهر "أبو عمر" آخر، يفتي ويُرشّح ويتلهّى بمرشحين يريدون الكرسي، ولا يهتمون بالخطاب ولا بانتمائهم ولا بوطنيّتهم. أما الإصلاح السياسي والمالي وخلافه، فأمور تأتي في المرتبة الدُنيا، أو لا تأتي أبداً

الحديث عمّا حصل وعمّا يعبّر عنه من واقع نعيشه، نحن اللبنانيين، يمتزج بمشاعر من الاشمئزاز. الكثير منها في الحقيقة، ليست مشاعر صدمة بقدر ما هي شعور بالخجل والحقد في آنٍ واحد. بلاد تعيش، على الأرجح، أسوأ مرحلة مرّت عليها منذ الاستقلال. حتى إنها قد تكون أسوأ من سنوات الاقتتال الأهلي. "أبو عمر" أتى ليضع الأمور في نصابها. لعلّه، بدهائه، أكثر من فَهِم التركيبة اللبنانية الحالية، التي أوصلتنا إلى القعر، بكُل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الذلّ والإهانة وحتى التفاهة التي نحيا في وسطها.

خلال عشر سنوات، على ما تقول الرواية، مارس "أبو عمر"، من خلال انتحاله صفة "أمير سعودي"، الابتزاز. مع من؟ مع مجموعة واسعة من الطامحين والسياسيين الذين لم يمارسوا يوماً، على ما يبدو جلياً وليس فقط من خلال تعاطيهم معه، السياسة بوصفها فعلاً يسعى إلى تنظيم المجتمع، بل بوابة لمكاسبهم ولأنفسهم، ولنيل السلطة بوصفها وسيلةً للحفاظ على النفوذ وليست مساحةً للتغيير وإقرار سياسات تفيد المجتمع وتعيد تشكيل النظام السياسي.

"أبو عمر" ومن خلفه، سواء كان الشيخ أو غيره، ومن صدَّقه ومشى معه، ليسوا استثناء. غالبية الطبقة السياسية التي تحكم لبنان تعمل كما هؤلاء؛ تنتظر الخارج وأمواله وسياساته. قلّة قليلة، وهي غير حزبية في الغالب، تحاول أن تُعطي للحياة السياسية معنى، وتعمل لإقرار قوانين اقتصادية واجتماعية وغيرها. قلّة قليلة تحاول، وهي الاستثناء. أما الباقون، فهم استجرار لنظام سياسي قائم على المحاصصة والزبائنية. نظام سياسي أوصل البلاد إلى حالة رثّة، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، وحتى أخلاقياً. نعم، مسؤوليتهم عن الانحطاط والإفلاس الأخلاقي الذي نعيشه، قد تكون قبل كُل ما سبق.

والحالة التي عبّر عنها "أبو عمر" بوصفه الآمر والناهي من جهة خارجية تملك المال والنفوذ، هي استجرار، في مكان ما، للحالة التي كان يُعبّر عنها كُلّ من غازي كنعان ورستم غزالة في تعاطيهما مع غالبية الطبقة السياسية اللبنانية، ممن كانوا يحجّون إلى عنجر (مركز المخابرات السورية زمن الوصاية)، ليسمعوا، ويطيعوا. وعلى الرغم من الفارق بين الحالتين، إلا أنهما يعبّران عن مدى انحطاط نافذين سياسيين كُثر في لبنان، وما استجلبوه من عار وخزي، لنا جميعاً.

في مقابلة شهيرة معه، قبل اغتياله عام 2005، يقول القائد الشيوعي جورج حاوي، ما حرفيته: "هذه الطبقة السياسية ذليلة لتقبل مثل هذه المعاملة. كانت ترضى بالإذلال للسكوت عن منافعها وسرقاتها ونهبها لخيرات هذا البلد. من بنك المدينة وملف الخليوي إلى كل الفضائح التي حصلت (...) خرجهم الوزراء والنواب ورؤساء الحكومات ومجلس النواب الذين يجلسون أمام ضابط أمني (في إشارة إلى كنعان وغزالة) يقول لهم: سكوت ولاك، كول هوا ولاك، وروح انقلع ولاك".

بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، جرت أربع عمليات انتخابية. كانت جميعها متشابهةً. قوانين انتخابية تُعيد الطبقة نفسها إلى الحكم. مشاريع انتخابية غائبة في الأغلب. معارك انتخابية تستدعي الخوف من الآخر وزمن الاقتتال، لكي تعود الأحزاب نفسها إلى الحكم. وقد نكتشف مع الوقت أنّ "أبو عمر" كان وراء وصول نوّاب إلى البرلمان، أو حتى وصول رؤساء حكومات إلى موقع الرئاسة. لا شيء غريباً في هذه البلاد المنحلّة.

في 10 سنوات، تراجع فيها كُل شيء، أو استمر في التراجع، حتى وصلنا إلى هذا الدرك من الانحطاط. بلاد "أبو عمر"، من "أمرك سيدي" إلى "طال عمرك"، في انتظار فصل جديد من هذه المسرحية التي ستُعيد إنتاج نفسها، بإخراج أردأ وتمثيل أحطّ…

ولن يكون غريباً -ونحن على مشارف انتخابات نيابية مُزمعة إقامتها في أيار/ مايو 2026، على الرغم من أن كُثراً يريدون تأجيلها- أن يظهر "أبو عمر" آخر، يفتي ويُرشّح ويتلهّى بمرشحين يريدون الكرسي، ولا يهتمون بالخطاب ولا بانتمائهم ولا بوطنيّتهم. مرشحون سيحملون شعارات رنّانةً، سياديةً أو مقاومةً، وهم أبعد ما يكونون عن الاثنتين. سيظهر رجل جديد، يعرف أنّ هؤلاء ينتظرون إشارةً ما، ليبنوا عليها أحلامهم بأن يصلوا إلى حيث يستطيعون أن يُكبّروا ثرواتهم ويوسعوا نفوذهم. أما الإصلاح السياسي والمالي وخلافه، فأمور تأتي في المرتبة الدُنيا… أو لا تأتي أبداً.

في 10 سنوات من عمر "أبو عمر" السياسي، مرّ على لبنان الكثير. عقم سياسي، انهيار مالي، ونهب ودائع اللبنانيين. نظام مصرفي متهالك وفاسد. نظام سياسي فاشل. سطوة سلاح وتواطؤ متشعّب. انفجار مرفأ أودى بحياة أكثر من 220 شخصاً من دون أن يحاسب أحد، إلى الآن. حرب إسرائيلية على لبنان دمرت قرى وبلدات وقتلت المئات، ولبنان ولبنانيون منقسمون حتى على أبسط تفصيل في سببها وفي ردعها وفي تحمّل تبعاتها والخروج منها بأقل الأضرار الممكنة.

في 10 سنوات، تراجع فيها كُل شيء، أو استمر في التراجع، حتى وصلنا إلى هذا الدرك من الانحطاط.

بلاد "أبو عمر"، من "أمرك سيدي" إلى "طال عمرك". في انتظار فصل جديد من هذه المسرحية التي ستُعيد إنتاج نفسها، بإخراج أردأ وتمثيل أحط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image