"أتيت إلى مجلس الشيوخ ملتزماً بأن أكون المدافع الأول عن إسرائيل، وأنا فخور بذلك"؛ هكذا صرّح عضو المجلس الجمهوري عن ولاية تكساس، السيناتور تيد كروز، في مقابلة أجراها مع الإعلامي المحسوب على المحافظين والذي يتمتّع بشعبية في أمريكا، تاكر كارلسون.
لم تمر هذه الجملة مرور الكرام على الأمريكيين، بل أثارت استهجاناً واسعاً حتى ضمن مؤيدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومحافظين آخرين، انتخب بعضهم السيناتور كروز نفسه. أتت هذه الجملة في سياق الحديث عن دعم كروز إطاحة النظام الإيراني الحالي، ثم قصف الجيش الأمريكي منشآت نوويةً إيرانيةً بعد ثلاثة أيام من إجراء المقابلة، فخرجت أصوات مؤثّرة في الحزب تشجب "توريط أمريكا" في حرب مباشرة مع إيران، وتنتقد دخول الجيش الأمريكي في حرب تخدم مصالح إسرائيل فقط حسب رأيهم. لم تكن هذه أصوات الناخبين في الشارع فقط، بل أصواتاً لم نعتد منها انتقاد الرئيس ترامب مثل ستيف بانون، الذي كان مستشار ترامب في فترته الرئاسية الأولى، ونائبة الكونغرس مارجوري تيلور التي عُرفت بشخصيتها الحادّة، وإيمانها بـ"نظريات المؤامرة".
وتهافتت وكالات الأنباء الأمريكية اليسارية أو المؤيدة لنهج الحزب الديمقراطي بإعلان هذا التغيّر: "حرب أهلية داخل حركة ماغا (اجعل أمريكا عظيمةً مرةً أخرى)"، فما هي حقيقة هذه "الحرب الأهلية" المزعومة داخل الحزب الجمهوري الأمريكي؟
دعم إسرائيل غير المشروط، ودور اللوبي الصهيوني في انتخاب نواب الكونغرس، والحرب الدائرة بين إيلون ماسك وترامب… هل تتغيّر المعادلة قريباً بتدفّق المال السياسي المضاد؟
نسمع منذ سنوات بأنّ جزءاً صغيراً من التيار الديمقراطي التقدّمي، مثل أوكازيو-كورتيز وإلهان عمر، يعترض على المبالغ الطائلة التي ينفقها اللوبي الصهيوني على السياسيين الأمريكيين، بالإضافة إلى انتقاد إسرائيل أو حكومتها بشكل مباشر. على الجانب الآخر، الحزب الجمهوري بطبيعته، كما هو الحال مع السيناتور كروز، يتبنّى معتقدات دينيةً مسيحيةً، ويرفض أعضاؤه التعددية والمهاجرين، حتى إن كان كروز أكثر تطرّفاً من غيره داخل الحزب، بل إنّ الأغلبية الساحقة من الحزب الجمهوري تدعم إسرائيل بلا سؤال.
لكن إحدى أبرز سمات أي حزب محافظ، تأتي من رغبة الحزب في التركيز على الأمور الداخلية أولاً. ولولا تأثير المال السياسي، لما تغاضى ممثلو الحزب في مجلسَي الشيوخ والنواب عن المبادئ الفكرية لحزبهم إرضاءً لمموّليهم من اللوبي الصهيوني. هذا الدعم المادي للحملات الانتخابية للمرشحين المستعدين للوقوف غير المشروط مع إسرائيل، بدأ بشكل نظامي منذ خمسينيات القرن العشرين، وبات واقع السياسة الأمريكية حتى اليوم.
وينخرط اللوبي الصهيوني في دعم مرشّحي حملات الانتخاب الأمريكية وكأنه لوبي محلي، مخالفاً بذلك القوانين الأمريكية المتعلّقة بالانتخابات. تضطر الجهات التي تمثّل حكومات أجنبيةً، في العادة، إلى الالتزام بقانون "فارا"، الذي يمنع اللوبي الذي يمثّل حكومات أجنبيةً من تمويل حملات انتخابية أمريكية. اللوبي الصهيوني يبقى الاستثناء لهذه القاعدة. لاحظ الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، هذه المشكلة قبل اغتياله عام 1963. وبرغم دعمه الكبير لإسرائيل، إلا أنه كان ضد تدخّل اللوبي الصهيوني في الانتخابات الأمريكية، وكان يسعى إلى إرغام هذا اللوبي على التسجيل كمؤسسة أجنبية قبل اغتياله.
دعم كينيدي إسرائيل من المسلّمات كمرشح الحزب الديمقراطي، فالحزبان الجمهوري والديمقراطي متفقان على هذا الدعم مهما اختلفا في شؤون السياسة والاقتصاد. صحيح أنّ الحزب الجمهوري يبدو في أغلبيته الساحقة اليوم متفقاً على الدعم غير المشروط لإسرائيل، إلا أنّ هذا غير دقيق. فبعد اغتيال كينيدي، وصعود قوة اللوبي الصهيوني كأحد اللوبيات الأكثر تأثيراً في الانتخابات المحلية للولايات الأمريكية، ظهرت أسماء في الحزب الجمهوري تعارض هذا التوجّه، لعلّ أبرزها الراحل بول فيندلي.
نجح فيندلي في الانتخابات، ووصل إلى الكونغرس كعضو فاعل عام 1961، وبقي في منصبه طوال 11 عاماً حتّى تمكّن اللوبي الصهيوني من دعم مرشح آخر بقدرٍ موازٍ من المال. أحسّ فيندلي بخطر هذا اللوبي على السياسة الداخلية الأمريكية. ولم يكن الوحيد الذي تخوّف من هذا الخطر. شعر بهذا أيضاً عضو الكونغرس الجمهوري بيتر مكلاوسكي، الذي شغل المقعد خلال الفترة نفسها، وخسر أيضاً نتيجة دعم اللوبي الصهيوني منافسيه، فقاما، أي فيندلي ومكلاوسكي، بإنشاء "مجلس المصلحة الوطنية" عام 1989. هدف المجلس المعلن هو الشفافية والمحاسبة في ما يتعلّق بالعلاقة الأمريكية الإسرائيلية تحديداً.
لا نسمع كثيراً عن المجلس اليوم، برغم أنه لا يزال موجوداً، واستمر في العمل بعد وفاة مؤسّسَيه. لكن حجمه وإمكانياته المتواضعة لا يشكّلان أي ثقل في التأثير على السياسات والانتخابات المحلية. ويركز المجلس اليوم على التوعية الإعلامية والدراسات واستطلاعات الرأي التي توضح مخاطر تأثير اللوبي الصهيوني على السياسات الأمريكية الداخلية.
مخاطر أخرى سيطرت على مستقبل الحزب الجمهوري وتوجهاته. مع مرور الوقت، تصدّرت الأصوات الأكثر تطرّفاً، في الحزب، اللوائح الانتخابية المحلية وبدأت تحقّق مكاسب أكبر. لم يأتِ هذا من فراغ، وإنما على الأرجح انظلاقاً من الخوف والـ"خطر" اللذين بدأ يحسّ بهما المحافظون، من مراقبتهم، خلال تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الثالثة، لأعداد المهاجرين، والإحصاءات الديموغرافية للمواطنين الأمريكيين.
بقصد أو بغير قصد، عمل الإعلام الأمريكي على إظهار الخلافات الداخلية في الحزب الجمهوري على أنها أكبر من حقيقتها. فادعاؤه أنّ هذه بوادر "حرب أهلية" يبدو مبالغاً فيه حيث إنّ وسائل الإعلام المناوئة لسياسات المحافظين ترى في هذا العنوان فرصةً لإثارة اللغط، واستقطاب الجمهور
أوضحت الأرقام منذ بداية القرن الحالي، أنّ الأقليات في أمريكا، خصوصاً بسبب أعداد المهاجرين القادمة من أمريكا اللاتينية، قد تتفوّق بقليل في التعداد السكاني الكلّي على العرق الأبيض بعد عام 2040.
ولولا حملات تقييد الهجرة التي بدأت بالتسارع، لاستدراك الموقف، لكان ذلك ممكناً قبل هذا التاريخ، أي خلال ثلاثينيات القرن الحالي.
ويبدو أنّ هذا العامل له دور أساسي وراء صعود شعار "أمريكا أولاً"، قبل أن يخضع التيار بالكامل لشخصية ترامب بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية للمرة الأولى. تفاجأ المنادون بـ"أمريكا أولاً" بالقصف المباشر لإيران، لأنه عملٌ يناقض مباشرةً وعود ترامب. انتقد ترامب خلال حملته الانتخابية الحرب الأمريكية على كلٍ من العراق وأفغانستان، وأكد أنّ أولويته ليست الزجّ بأمريكا في حروب جديدة.
اعتراض أصوات مثل ستيف بانون ومارجوري تيلور لم يدُم طويلاً. ستيف بانون -كما اعتدنا عليه- غيّر لهجة الخطاب بسرعة كي يُثني على "ذكاء" ترامب و"حكمته" في "ضربة محدودة" أنهت الحرب، بل رجّح أن تكون لدى ترامب "معلومات سرّية" دفعته إلى الإقدام على هذه الخطوة. تعلّم ستيف بانون ضرورة هذه اللهجة عند الحديث عن ترامب عندما التقاه للمرة الأولى عام 2010، أي قبل ترشّحه للرئاسة بست سنوات. ذكر ترامب حينها كلمة "popularism" والتي ليس لها معنى في قاموس اللغة الإنكليزية، فأراد بانون أن يصحّح لترامب فقال له: "تقصد الـpopulism - الشعبوية"، فخالفه ترامب مباشرةً وأعاد تكرار الكلمة الخطأ إملائياً.
صحّح له بانون للمرة الثانية، فلم يلِن ترامب. عرف بانون ساعتها أنّ ترامب ليس شخصاً يقبل أن يكون مخطئاً، أو يتقبل النقد نهائياً. ويبدو أنه قدّر أيضاً أنّ هذه النزعة النرجسية، التي تصل إلى حدّ ادعاء الكمال، هي سمة الشخصية الشعبوية التي قد يلتفّ الحزب الجمهوري حولها. هذه الحقيقة من البديهات في التعامل مع ترامب، وكل السياسيين في الحزب الجمهوري يعرفونها. إنّ مخالفة ترامب تعني نهاية مشوارهم السياسي، ويشكّل هذا خطراً أكبر من دعم اللوبي الصهيوني لأي مرشح منافس.
لذلك، فإنّ ادعاء وسائل الإعلام الأمريكية بأنّ هذه بوادر "حرب أهلية" يبدو مبالغاً فيه حيث إنّ وسائل الإعلام المناوئة لسياسات المحافظين ترى في هذا العنوان فرصةً لإثارة اللغط، واستقطاب الجمهور. بقصد أو بغير قصد، عمل الإعلام الأمريكي على إظهار الخلافات الداخلية في الحزب الجمهوري على أنها أكبر من حقيقتها.
وبعد أن صوّر لنا هذه "الحرب الأهلية"، استمرّ في إيهام الشعب الأمريكي، بطريقة دراماتيكية، بأنّ قانون الضرائب الذي وصفه ترامب بـ"الكبير والجميل"، على شفا الانهيار في أي لحظة. وتبيّنت حقيقة مدى انفصال وسائل الإعلام هذه عن الواقع السياسي والاجتماعي حالياً في أمريكا، عندما تم تشريع القانون، كما هو متوقّع، بأغلبية الأصوات.
لكن حالةً واحدةً اليوم داخل الحزب الجمهوري تثير الاهتمام، وتستحق الدراسة، وهي وجود عضو الكونغرس الجمهوري توماس ماسي، وهو أحد صوتَين جمهوريَين صوّتا ضد القانون "الكبير والجميل". الصوت الثاني لا يهمّنا، فهو سيعود إلى حظيرة ترامب في نهاية المطاف. أما ماسي، فهو عضو في الكونغرس منذ عام 2012، ومن المؤمنين بمبادئ المحافظين الأوائل، خصوصاً "الليبرتاريين" (أتباع التيار التحرّري)، الذين يريدون الحدّ من سلطة الدولة على المجتمع والاقتصاد.
وفي الوقت نفسه، هو معارض صلب لإسرائيل في الكونغرس. صوّت ماسي ضد قوانين تدعم الشركات الإسرائيلية خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما. كما كان الصوت الوحيد في الكونغرس الذي صوّت ضد تمديد العقوبات الاقتصادية على إيران، في وقت صوّت فيه جميع النواب من الحزبَين مع القرار.
عارض ماسي الكثير من التشريعات في عهد أوباما، وكذلك في فترة ترامب الأولى، ومن بعدها في عهد بايدن، واستمر في الفوز في الانتخابات المحلية عن دائرته في ولاية كنتاكي. أنفقت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك" (AIPAC)، المنظمة المختصّة بدعم إسرائيل، والتي تُعدّ من أكثر المنظمات تأثيراً على الانتخابات في أمريكا، مئات الآلاف من الدولارات لضمان هزيمة ماسي في الانتخابات الأخيرة عام 2024، لكنها لم تستطع العثور على منافس يملك شعبية ماسي في دائرته الانتخابية، فبثّت مواد دعائيةً تلفزيونيةً قالت فيها: "إسرائيل (الأرض المقدّسة)، تهاجمها الآن إيران، وحماس، وحزب الله، وتوماس ماسي". لكن ذلك لم يؤثّر على شعبيته، ففاز في انتخابات الحزب الجمهوري بنسبة 65% من الأصوات، وأعلن أنه "لا يريد أن تتدخّل أمريكا في أي حرب في الشرق الأوسط، أو أن ترسل دعماً أجنبياً لأيّ دولة".
لقّبه أعداؤه بـ"السيد لا"، لكثرة رفضه التشريعات التي يتم التصويت عليها في الكونغرس. لكن القشّة الأخيرة كانت عندما صوّت ضد قانون ترامب "الكبير والجميل"، فضاق ترامب ذرعاً به، وأعلن أنه سوف يسعى إلى ضمان عدم نجاح ماسي في انتخابات الكونغرس القادمة. الجمهوريون يعدّون معاداة ترامب انتحاراً سياسياً، وماسي يعرف ذلك. التحدّي هذه المرة سيكون مختلفاً، وأصعب كثيراً من تحدّي "إيباك". في مقابلة مصوّرة، اعترف ماسي بعد تصريح ترامب بأنه على الأغلب سيخسر الانتخابات القادمة لأنه لن يستطيع تحدّي الرئيس وشعبيته.
لكن المفاجأة الحقيقية جاءت عندما أعلن أغنى أثرياء العالم، إيلون ماسك، نيته دعم ماسي في الانتخابات القادمة. حتّى لو كان ماسك مناصراً لإسرائيل، فإنّ أولوياته تختلف عن أولويات السياسيين الجمهوريين الذين يتلقّون أموالاً من "إيباك". وإعلانه دعم ماسي يدلّ على أنه لا يكترث بعداوة ماسي للوبي الصهيوني وإسرائيل. بعد الهجوم المتبادل والقطيعة بين ترامب وماسك، نشر ماسك أنه يرغب أيضاً في إنشاء حزب جديد.
بعد مقابلة السيناتور كروز، ازداد الشعور لدى الناخبين من المحافظين بأنّ أمثال السيناتور كروز موالون لإسرائيل أكثر مما هم مخلصون لأمريكا، وأنّ المستقبل يتطلّب سياسيين لا يتباهون بولائهم لتل أبيب مثل تيد كروز، بل آخرين يوجِّهون البوصلة نحو المصلحة الوطنية في المقام الأول، مثل توماس ماسي المعارض الصلب لإسرائيل في الكونغرس
من الصعب إنشاء حزب جديد في نظام سياسي ثنائي القطب. إذا كان ماسك جادّاً، ولم يتراجع عن موقفه مثلما فعل عشرات المرات، فإننا قد نشهد بداية انشقاق فصيل من الحزب الجمهوري. هذا الانشقاق لا يحتاج إلى زوبعة إعلامية روّجت لها وسائل الإعلام اليسارية في أمريكا، لأنها لن تكون حرباً أهليةً يقودها أمثال بانون وتيلور، بل تياراً سياسياً يتمتّع باستقلال مالي عن "إيباك".
وقد يرى الحزب في إسرائيل دولةً تستهلك من أمريكا أكثر مما تقدّم، وتدفعها إلى حروب لا تعود عليها بالنفع. لكن الخيار الأسهل، والذي يُرجّح أن يميل إليه ماسك أكثر، هو دعم جمهوريين مثل ماسي، بدلاً من إنشاء حزب جديد. ماسك، بما يملك من مال ونفوذ، قادر على إنقاذ مستقبل ماسي السياسي، واستقطاب آخرين غيره ممن يختلفون مع ترامب. بعد مقابلة السيناتور كروز، ازداد الشعور لدى الناخبين من المحافظين بأنّ أمثال السيناتور كروز موالون لإسرائيل أكثر مما هم مخلصون لأمريكا، وأنّ المستقبل يتطلّب سياسيين لا يتباهون بولائهم لتل أبيب مثل تيد كروز، بل آخرين يوجِّهون البوصلة نحو المصلحة الوطنية في المقام الأول، مثل توماس ماسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.