مأساة التشرذم في قضايا الشعوب… السوريون والفلسطينيون والكرد نماذج 

مأساة التشرذم في قضايا الشعوب… السوريون والفلسطينيون والكرد نماذج 

رأي

الثلاثاء 22 يوليو 202510 دقائق للقراءة

كلّ قضيّة عادلة، يُفترض أن يحملها أصحابها مثل راية مقدسة، وأن تتّحد الصفوف وتتوحد الأصوات ويُطوَّق الخلاف بالحكمة، لا أن يُستدعى الخلاف ليصبح هو الصوت الأعلى، والراية الأوضح، والقدر الذي لا مهرب منه.

هكذا ابتُليت شعوبنا، ليس فقط بمحتلّ أو مستبدّ، بل بانقسامات داخلية بلغت حدّ التخوين، وصراعات داخلية مزّقت الحلم وأعادت رسمه مراراً، لكنه دائماً ما يُرسَم ناقصاً، مدمّى الحواف، ومجهول المصير.

في الشرق المأزوم، كثيراً ما يتحوّل الحلم إلى شتيمة، والمقاومة إلى خلاف لغوي، والثورة إلى سوق نخاسة تُباع فيه الولاءات لمن يدفع أكثر. 

وفي هذه الفوضى العاطفية والسياسية، تكاد ثلاث قضايا تختزل هذه المأساة: سوريا، وفلسطين، والكرد.

في الشرق المأزوم، كثيراً ما يتحوّل الحلم إلى شتيمة، والمقاومة إلى خلاف لغوي، والثورة إلى سوق نخاسة تُباع فيه الولاءات لمن يدفع أكثر. وفي هذه الفوضى العاطفية والسياسية، تكاد ثلاث قضايا تختزل هذه المأساة: سوريا، وفلسطين، والكرد.

سوريا… من "واحد واحد واحد" إلى ألف فصيل وراية

عندما صدحت حناجر السوريين عام 2011، بشعار "واحد، واحد، واحد... الشعب السوري واحد"، لم يتخيّلوا أن ذلك الهتاف سيغدو لاحقاً مادةً للسخرية السوداء. 

فمع انطلاق الانتفاضة الشعبية، تسللت رياح الخارج سريعاً، حاملةً معها رايات شتى وولاءات متناقضة.

أكثر من ثلاثمئة فصيل مسلّح ظهرت خلال سنوات قليلة، بلا قيادة موحدة، ولا إستراتيجية مشتركة، سوى صراع مزمن على النفوذ.

الجيش السوري الحرّ، الذي شُكّل ليكون نواة التغيير، ما لبث أن تفتت إلى مجموعات مناطقية، تتنازع الدعم بين أنقرة والدوحة والرياض.

هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، فرضت سيطرتها باسم الدين، وأقصت الفصائل الأخرى بتهمة "الردّة" أو "العمالة".

أما قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي ضمّت مكونات كرديةً وعربيةً، فقد انشغلت بتكريس مشروع الإدارة الذاتية بدعم أمريكي، ما أدخلها في صراع مفتوح مع الفصائل المدعومة تركيّاً، خصوصاً في الشمال الشرقي.

وفي فراغ هذا التشرذم، نبت تنظيم داعش ككابوس لا ينتهي، ليمنح كل القوى الدولية مبرراً إضافياً للتدخل.

وهكذا، عوضاً عن أن تتجه البنادق نحو نظام الأسد، توجّهت نحو الأكتاف المتجاورة. 

لم تنشأ جبهة واحدة ضد الاستبداد، بل جبهات تتناحر في ما بينها، وكل فصيل يزعم تمثيل "الشعب السوري" وفق قاموسه الخاص، وبتمويل من عاصمة تختلف عن الأخرى.

وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، كانت الصدمة الكبرى: استولت هيئة تحرير الشام على دمشق، بدعم وتفاهمات إقليمية ودولية مريبة، فيما كانت المعارضة السياسية قد أُفرغت من مضمونها، مُنهكة من المؤتمرات والولاءات المتقلبة، وغير مؤهلة لأي دور انتقالي.

استفردت الهيئة بالحكم، وأقصت كل من يخالف رؤيتها السلفية الجهادية، فارضةً خطاباً تكفيرياً على مؤسسات الدولة الجديدة. 

أما القوى الديمقراطية، وعلى الرغم من إخلاصها لقضية التغيير، فقد أخفقت في الاتحاد، فتركت الساحة فريسةً لتيار ظلامي يلبس قناع "الانتصار".

وبذلك، تحوّل الحلم السوري إلى مستقبل غامض، يلفّه الضباب، وتتنازعه أسئلة مؤجلة: هل سقط الاستبداد فعلاً؟ أو تغيّر القناع فقط؟

لم تنشأ جبهة واحدة ضد الاستبداد، بل جبهات تتناحر في ما بينها، وكل فصيل يزعم تمثيل "الشعب السوري" وفق قاموسه الخاص، وبتمويل من عاصمة تختلف عن الأخرى.

فلسطين… الانقسام فوق جرح لا يندمل

في الحالة الفلسطينية، لا يحتاج الخذلان إلى شرحٍ طويل، فهو جاثم على صدر القضية منذ سنوات. فمنذ الانقسام الكبير عام 2007، حين سيطرت حركة حماس على غزة وطُردت فتح منها، تهاوت عشرات المبادرات العربية بين اللجان والمصالحة والوساطات، ولم يفلح شيء في رأب الصدع.

السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بقيادة محمود عباس، اختارت طريق التفاوض والتنسيق الأمني، وظلت تراهن على "حل الدولتين"، بينما تمسكت حماس في غزة، بخيار المقاومة المسلحة، لكنها واجهت انتقادات داخليةً متزايدةً بتهمة تسييس المعاناة، ومراكمة السلطة على حساب الشفافية والحريات.

وفيما يرزح أهل الضفة تحت سطوة الاحتلال وتوحّش الاستيطان، يعاني أهل غزة حصاراً خانقاً وانهياراً اقتصادياً كارثياً. 

وبين الشاشات والبيانات، تتقاذف الحركتان الاتهامات، ويتراشق أنصارهما لغة التخوين، وكأنهم لا ينتمون إلى جرح واحد.

حتى الدعم العربي انقسم كعادته:

قطر وتركيا دعمتا حماس سياسياً ومالياً.

مصر والإمارات والسعودية اصطفّت خلف السلطة.

أما إسرائيل، فوجدت في هذا الانقسام هديةً مجانيةً، تتذرّع بها لعرقلة أي مفاوضات، بحجة غياب "الشريك الفلسطيني الموحد".

ثم جاء 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فخلط الأوراق كلها. عملية "طوفان الأقصى" لم تكن مجرد هجوم مسلّح، بل كانت زلزالاً إستراتيجياً أعاد تشكيل ملامح الصراع في المنطقة، لكنها أيضاً عمّقت الأسئلة القديمة بصيغة أشدّ إيلاماً: من يمثّل الفلسطينيين؟ من يقرّر مصيرهم؟

هل كانت العملية ضرورةً وجوديةً في وجه الاحتلال؟ أو مغامرة منفردة دفعت غزّة وحدها ثمنها؟

وهل أدارتها حماس بصفتها فصيلاً مقاوماً؟ أو بصفتها سلطة أمر واقع تسعى لتثبيت مشروعها الخاص؟

أما الأنظمة العربية، فتوزعت بين:

متفرج يائس يخشى امتداد المواجهة إلى ساحاته.

ومتورط صامت ينسّق مع المحتل سرّاً وأحياناً علانيةً.

ومطبّع لا يخجل من المجاهرة بعلاقاته مع تل أبيب حتى في ذروة المجازر.

وبقي الدم الفلسطيني وحده، في غزة والضفة والشتات، على الأرض بلا غطاء سياسي حقيقي، ولا قيادة موحدة، ولا أفق جامع، وكأنّ الجرح خُلق ليُترك مفتوحاً... إلى ما لا نهاية.

ثم جاء 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فخلط الأوراق كلها. عملية "طوفان الأقصى" لم تكن مجرد هجوم مسلّح، بل كانت زلزالاً إستراتيجياً أعاد تشكيل ملامح الصراع في المنطقة، لكنها أيضاً عمّقت الأسئلة القديمة بصيغة أشدّ إيلاماً: من يمثّل الفلسطينيين؟ من يقرّر مصيرهم؟

القضية الكردية… الكرد وكردستانات متعددة

قليلون هم من ذاقوا مرارة التهميش كما ذاقها الكُرد، المنتشرون كالأطياف بين حدودٍ رسمها الغير، في سوريا والعراق وتركيا وإيران. شعبٌ بلا كيان يجمعه، ولا مشروع يوحّده، برغم أنّ المظلومية وحدها تكفي لأن تكون الراية. لكن المفارقة المؤلمة أنّ هذا الشعب، وبرغم جراحه العتيقة، لم يسلم هو الآخر من لعنة الانقسام... فَتَشَظّى فوق الخرائط، كما لو أنّ الألم لا يكفيه، فزاد عليه التناحر.

في العراق، يتنازع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة عائلة الطالباني، السيطرة على إقليم كردستان. 

الخلاف بينهما لم يقتصر على السياسات الداخلية، بل امتد إلى التحالفات الخارجية:

الأول أقرب إلى تركيا ويتبنّى خطاباً اقتصادياً واقعياً.

الثاني أكثر قرباً من إيران، وينظر بعين الشك إلى التقارب مع أنقرة.

بل إن رؤيتيهما للعلاقة مع بغداد متضاربتان تماماً: أحدهما يساوم، والآخر يصعّد.

أما في سوريا، فالمشهد ليس أقلّ انقساماً:

المجلس الوطني الكردي المقرّب من أربيل يتهم خصمه بالهيمنة والاستئثار.

وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، المدعوم من قنديل، يُتهم من خصومه بتكميم الأفواه والسير في ركاب مشروع غير سوري.

كلا الطرفين يرفع راية "الحقوق الكردية"، لكن كلاً منهما يتّهم الآخر بالعمالة… تماماً كما تفعل الأنظمة التي لطالما أنكرت وجودهما.

أما في تركيا، فالصراع المزمن مع الدولة، والانقسام بين العمل السياسي والمسلح، أدّيا إلى مزيد من التعقيد. 

والنتيجة: شعب يعيش فوق أغنى أرضٍ، لكنه لا يملك وطناً واحداً موحداً.

وفي خضم هذا التمزق، جاء نداء عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، في 27 شباط/ فبراير 2025، قائلاً من سجنه في إمرالي: "أدعو إلى حلّ الحزب، وإلقاء السلاح، والتخلي عن وهم الدولة القومية. لا مستقبل للكرد في حرب دائمة، ولا بقاء لهم إن لم يصوغوا علاقتهم مع شعوب المنطقة على أساس التعايش والديمقراطية، لا على أساس الحدود والانفصال".

كان النداء زلزالاً سياسياً وفكرياً داخل الوسط الكردي، ليس لأنه مفاجئ فحسب، بل لأنه طرح تساؤلات عميقةً لم تجد إجابةً حتى اليوم: ما المقابل؟ ما الثمن الذي يمكن أن يحصل عليه الكرد لقاء هذا التنازل الكبير؟ كيف نثق بحكومة تركية لم تقدّم أيّ بادرة حسن نية حتى الآن؟ وهل ستتخلى الدولة عن وصم الكرد بالإرهاب، إذا ما تخلّوا عن المقاومة المسلّحة؟

تباينت الردود بشدّة:

الشارع الكردي انقسم بين من رأى في النداء فرصةً تاريخيةً لإنهاء الحرب، ومن عدّه استسلاماً مجانياً لا يقابله أي مكسب سياسي أو ثقافي أو إداري.

قادة الحزب في قنديل أبدوا تحفظاً، وعدّه بعضهم خضوعاً لشروط تركية غير مكتوبة.

في سوريا والعراق، حاولت بعض الأطراف توظيف النداء لصالحها، بينما تجاهله آخرون خشية أن يفكك ما تبقّى من خطاب المقاومة.

وهكذا، بدلاً من أن يُمهّد نداء أوجلان لتحوّل تاريخي في المسار الكردي، فتح بوابةً جديدةً للخلاف، ليس فقط بين التيارات المختلفة، بل داخل التيار الواحد نفسه.

وبينما تتزاحم الفصائل والخرائط واللغات والرايات، يبقى الكرد شعباً يعيش فوق أغنى أرض، بلا وطن موحد، وبلا بوصلة سياسية جامعة.

بينما تتزاحم الفصائل والخرائط واللغات والرايات، يبقى الكرد شعباً يعيش فوق أغنى أرض، بلا وطن موحد، وبلا بوصلة سياسية جامعة.

نيران الخارج وبنزين الداخل

الانقسامات لم تكن يوماً شأناً داخلياً خالصاً. وراء كل خلاف محلي، هناك رعاة في الخارج يسكبون الوقود على الجمر.

لا عاصمة إقليمية أو دولية إلا وامتلكت مفتاحاً في المشهد: فصائل برعاية، أحزاب بتمويل، خطابات سياسية تُترجم في غرف العمليات لا على الأرض.

تركيا، وإيران، وإسرائيل، وأمريكا، وروسيا، والخليج... لم يغادر أحدٌ المسرح.

كلهم حضروا حين كان المطلوب تأجيج الخلاف، أو تحويل المسار، أو صناعة "ممثل شرعي" على قياس مصالحهم، لا على قياس أحلام الشعوب.

ما لم تعِ هذه الشعوب وقواها السياسية أنّ الوحدة ليست ترفاً بل شرط وجود، وضرورة إستراتيجية، فإنّ التشرذم سيظلّ أقوى من أي حلم.

لا أحلام تُجنى من شقوق الخلاف

ما لم تعِ هذه الشعوب وقواها السياسية أنّ الوحدة ليست ترفاً بل شرط وجود، وضرورة إستراتيجية، فإنّ التشرذم سيظلّ أقوى من أي حلم.

لن نصل إلى سوريا الحلم المنشود ما لم تتفق القوى الوطنية على برنامج الحد الأدنى لمواجهة سلطة الاستبداد الجديدة. 

لن تُحرَّر فلسطين باتهام نصفها بالخيانة.

ولن تُبنى كردستان إذا استمرت الولاءات موزعةً بين قنديل وأربيل وواشنطن وطهران.

ولن تتحقق الحقوق ما دامت البنادق موجّهةً إلى صدر الحليف قبل العدو، وما دامت الطموحات تتناحر على سلطة وهمية في ظل الاحتلال أو الاستبداد. 

القضية لا تُكسب بالشتائم المتبادلة، ولا بالتخوين الممنهج، ولا بتكريس الانقسام كحقيقة نهائية، بل بالتوحد على الحد الأدنى من المطالب، وبالعمل المشترك، حتى لو اختلفت الرؤى والمناهج.

وما لم تدرك قوى الثورة والتحرر أنّ الانقسام عدوّ لا يقلّ خطورةً عن الاستبداد والاحتلال، فإنّ الحلم سيظل مؤجلاً، بل ربما يتآكل... وتبقى الشعوب معلّقةً بين يأس لا ينتهي، وأمل يُستهلكه التناحر قبل أن يُزهر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image