حياد العراق الاضطراري… هل يصمد في وجه الضغوط الإيرانية والأمريكية المتعاكسة؟

حياد العراق الاضطراري… هل يصمد في وجه الضغوط الإيرانية والأمريكية المتعاكسة؟

سياسة نحن والتنوّع

الجمعة 18 يوليو 202510 دقائق للقراءة

بين نارَين، تعيش بغداد واحدةً من أكثر لحظاتها توتّراً منذ سنوات. فمع تصاعد المواجهة بين إيران وإسرائيل، وزيادة التهديدات الأمريكية لطهران، يجد العراق نفسه أمام اختبار بالغ الحساسية لسياسة الحياد التي تبنّتها حكومته منذ بداية التصعيد.

وتسير بغداد، الحريصة على تفادي الانزلاق داخل زوبعة المحاور، بخطى حذرة على حبل مشدود، وتحاول في وقت واحد، الحفاظ على توازن لا يُغضب الحليفة التاريخية طهران من جهة، ولا يُقلق القوى العظمى وواشنطن من جهة أخرى.

في هذا السياق، قال رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، في تموز/ يوليو الجاري، وخلال لقاء صحافي مع غسان شربل: "نرفض انتهاك أجوائنا واستخدامها في أي عدوان، سواء ضد إيران أو غيرها"، مشدداً على أنّ بغداد متمسّكة بتقرير مصيرها بشكل كامل، ورفضها أن "تُستغلّ أراضيها لتصفية الحسابات الإقليمية أو الدولية".

اللغة الحذرة التي اتّسم بها تصريح السوداني، تؤكد رغبة بغداد في تجنّب استفزاز أي من أطراف الصراع إذ لم يخصّ إيران في تصريحه ذاكراً عبارة "أو غيرها"، لتأكيد رغبته في بقاء بلاده على مسافة محسوبة من الجانبين في آن واحد.

النفوذ الإيراني والفصائل العراقية المسلّحة

وكان السوداني قد أكد، في تصريح سابق، أنّ "قرار السلم والحرب والعلاقات الخارجية هو من صلاحيات الدولة حصراً"، وأنّ "العراق لن يكون ساحةً للصراعات، وأنّ حكومته ماضية في حصر السلاح بيد الدولة كضمانة لحماية السيادة الوطنية".

في حين تمسّكت الحكومة العراقية بإظهار موقف محايد من أطراف الصراع خلال التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، فُهم موقف العديد من الفصائل المسلّحة على أنه تحوّل في أولوياتها من "مشروع المقاومة المسلّحة" إلى "مشروع البقاء ضمن اللعبة السياسية". لكن فصائل أخرى ظلّت متمسكةً بعقيدة ولاية الفقيه، واتّباع أوامر طهران بحذافيرها

إستراتيجية الحذر التي تعكسها هذه التصريحات، تؤكد مساعي بغداد لإثبات حيادها الرسمي، وفرض سيطرتها الكاملة على القرار الأمني والسيادي، بعيداً عن حسابات الفصائل المسلّحة.

وفي الأثناء، لا يغيب دور السفارة الإيرانية في العراق عن كواليس الموقف العراقي الرسمي، إذ تشير معلومات إلى أنّ طهران أبدت امتعاضها من بعض تصريحات السوداني، ومارست ضغوطاً عليه، لتفادي ما عدّته انحيازاً إلى المحور الأمريكي الداعم لإسرائيل.

إلى ذلك، لا تُقرأ ضغوط طهران على أنها انتقاد كامل، فهي تدرك أن تصريحات رئيس الوزراء العراقي تخدم مساعيها في تجنّب أيّ استهداف للفصائل المتحالفة معها في البلاد، والذي قد يعني خسارة نفوذها في البلاد أو إضعافه على أقل تقدير. وهي -أي طهران- على يقين بأنّ دخول أذرعها في العراق في مواجهة مفتوحة، أو تعرّضها لضربات أمريكية أو إسرائيلية، قد يؤدّي إلى استنزاف رصيد سياسي وأمني بُني بصعوبة على مدى العقدين الماضيين. كما قد تنتج عنه ردود فعل دولية تُطيح التفاهمات غير المعلنة بينها وبين حكومة السوداني.

حلّلت مجلة "ذا إيكونوميست" هذا الأمر في تقريرها المنشور يوم 13 تموز/ يوليو الجاري، وأوضحت أنّ العراق هو الشريان الاقتصادي الأول بالنسبة لإيران الخاضعة للعقوبات الاقتصادية الأمريكية، إذ تحتاج طهران إلى المنافذ العراقية لتهريب نفطها الذي يباع عبر موانئه على أنه نفط عراقي خالص.

المجلة نفسها كانت قد أشارت، في تقرير نُشر في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، إلى أنّ إيران تموّل حروبها عبر شبكة نفطية سرّية تعمل عبر العراق، وتدرّ مليارات الدولارات لصالحها برغم العقوبات الأمريكية.

وعليه، فإنّ إيران لا تريد الزجّ بالعراق في متن الحرب ولكنها ترغب في أن تُبرز الحكومة العراقية موقفاً داعماً لها. ووفقاً لمصدر سياسي مطّلع، التقى وفد أمني إيراني رفيع بمجموعة من قيادات من الفصائل المسلّحة، بالإضافة إلى مسؤولين حكوميين بارزين في بغداد، خلال الأسبوع الأول من تموز/ يوليو الجاري، ونقل الوفد خلال الزيارة رسالةً واضحةً مفادها: "نُريد أن نحافظ على مكتسباتنا في العراق، وليست لدينا مصلحة في التصعيد الآن".

سياق هذا التوجيه يأتي بعد لقاء سابق جمع قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني بعدد من قادة الفصائل بعد إعلان وقف الحرب بين طهران وتل أبيب، طالبهم فيه بالهدوء وانتظار ما قد تؤول إليه التطورات التالية.

ومع ذلك، فإنّ إيران لم تُخفِ رغبتها في أن تُظهر الفصائل موقفاً أكثر صرامةً على مستوى التصعيد الإعلامي أو التهديد الرمزي لإثبات أنها لا تزال مسيطرةً على أذرعها في البلاد. فطهران تعتمد بشكل كبير على فصائلها لا في تنفيذ أجندتها فحسب، ولكن أيضاً لاستخدامها كورقة ضغط في المفاوضات. لكنها فوجئت، كما تقول مصادر سياسية مطلعة، بـ"برود في تجاوب بعض قادة الفصائل الرئيسية معها"، خاصةً تلك الفصائل التي باتت تشكّل جزءاً من المشهد السياسي الرسمي أو تمتلك أجنحةً نيابية. والأخيرة -برغم تأييدها الإعلامي لطهران- تريد الحفاظ على مكتسباتها السياسية والاقتصادية، ولذلك فضّلت النأي بنفسها عبر الصمت المحسوب وعدم حضور أي اجتماع مع القادة الإيرانيين.

مساعي بغداد الجادّة إلى تهدئة الفصائل المسلّحة لا تنبعث من خوفها من تحوّل أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات أو استهدافها بعمليات عسكرية فحسب، ولكن ترجع أيضاً إلى مخاوف من شمول العراق بالعقوبات الاقتصادية، وهي الورقة الأكثر تأثيراً على السياسة العراقية راهناً

هذا الموقف يُفهم على أنه تحوّل في أولويات الفصائل من "مشروع المقاومة المسلّحة"، إلى "مشروع البقاء ضمن اللعبة السياسية"، ولكن فصائل أخرى لا تزال متمسكةً بعقيدة ولاية الفقيه، وضرورة اتّباع أوامر طهران بحذافيرها وإن قادها ذلك إلى نهايتها.

هل فرضت واشنطن حياد بغداد؟

مساعي بغداد الجادّة إلى تهدئة الفصائل المسلّحة لا تنبعث من خوفها من تحوّل أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات أو استهدافها بعمليات عسكرية فحسب، ولكن ترجع أيضاً إلى مخاوف من شمول العراق بالعقوبات الاقتصادية، وهي الورقة الأكثر تأثيراً على السياسة العراقية راهناً.

هذه المخاوف لم تعد نظريةً، بل تحوّلت إلى خط أحمر ترسمه وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الفيدرالي الأمريكي الذي يحتفظ بأموال العراق، وبسبب ذلك بات هذا الهاجس المحرّك الأبرز لسياساته الخارجية العراقية في الأشهر الأخيرة.

ووفقاً لمصدر حكومي مطلع، فإنّ رسائل مباشرةً وصلت من واشنطن إلى بغداد عبر القائم بأعمال السفارة الأمريكية، ستيفن فاجن، فُهم منها أنّ واشنطن بدأت تنظر إلى تحرّكات الفصائل المسلّحة الأخيرة بقلق، وأنّ استمرار نشاط هذه الفصائل يعني وضع العراق بأكمله تحت طائلة الاستهداف العسكري والمالي.

هذه التهديدات جعلت الملف المالي محوراً لكل اجتماع أمني أو سياسي رفيع. فبغداد تحاول جاهدةً تخطّي أيّ عوائق قد تفرضها خلافات الفصائل في ما بينها وبين مراكز قرارها. وبرغم تمكّن السوداني من جذب بعض الفصائل عبر تفاهمات ضمنية تمنحها ميزات اقتصاديةً إضافيةً، من أجل ضمان استمرار هدوئها، لكن موقفها يبقى مؤقّتاً وغير شامل، وذلك لأنّ الثقة بين حكومة بغداد والفصائل لا تزال هشّةً، ولا أحد يضمن ثبات موقف الآخر، فالفصائل تخشى أن تنقلب الحكومة عليها في أي لحظة كما تخشى محاولات سحب سلاحها الذي تعني بداية عزلها وربما محوها تالياً. كما أنّ الحكومة تُدرك أنّ بعض الفصائل لا تزال تؤمن بأنّ العراق لا يمكن أن يبقى محايداً إلى ما لا نهاية، وأنّ الانخراط في صراع إقليمي هو أمر حتمي عقائدياً وإستراتيجياً. 

في المقابل، تُدرك حكومة السوداني أنّ قرار الفصائل أصبح متشعّباً، ويفتقر إلى المركزية. فبعض الأجنحة داخل الفصائل نفسها تساير الحكومة في مواقفها بعيداً عن التحرّكات الإعلامية، وأخرى لا تزال في انتظار لحظة الانفجار الكبير من أجل العودة إلى المشهد.

مصدر من داخل رئاسة الوزراء العراقية، طلب عدم ذكر اسمه، يؤكد أنّ السوداني اجتمع مؤخراً بمجموعة من قادة الفصائل المسلّحة بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية، لمناقشة نقاط الخلاف بينهم ونقل الرسائل الأمريكية إليهم. وبحسب تصريح المصدر لرصيف22، فإن اللقاء لم يكن سهلاً، وبدأ بلهجة تصعيدية من بعض القيادات التي أبدت انزعاجها من ترجمة الضغوط الأمريكية إلى لغة "الخطوط الحمراء".

لكن السوداني أبلغهم أنّ الوضع المالي للبلد لا يحتمل أي مخاطرة، وأنّ الإدارة الأمريكية أرسلت إشارات مباشرةً عبر وزارة الخزانة والبنك الفيدرالي تفيد بأنّ أي تحرّك متهوّر قد يُفسّر على أنه خرق للتفاهمات بما يفتح الباب أمام إجراءات مالية قاسية ليس فقط عبر قطع تدفق الدولار، وإنما كذلك عبر تجميد الأصول العراقية الموجودة لدى الفيدرالي الأمريكي.

هذا الأمر يُهدد على وجه التحديد قدرة الحكومة على الوفاء برواتب موظفي الدولة، ويمسّ الأمن الاجتماعي، وقد يتسبب في انهيار ثقة المواطنين بالحكومة في وقت اقترب فيه انعقاد الانتخابات النيابية، وربما يعزّز تكرار سيناريو مشابه لما مرّ به العراق في عام 2019، وانهيار الحكومة بأكملها، بالإضافة إلى احتمالات الرد العسكري الأمريكي أو الإسرائيلي.

تُراهن الحكومة العراقية على مزيج من التنسيق الأمني والضغوط السياسية وتفكيك التناقضات داخل المعسكر الواحد عبر المغريات المالية والاقتصادية، ولكن بعض قيادات الفصائل ترفض هذه المغريات بدوافع عقائدية وولاء مطلق لطهران. فما هي أبرز التحديّات التي قد تعرقل حفاظ بغداد على "حيادها"؟

هل يصمد العراق وسط العاصفة؟

في خضمّ هذه التطورات كلها، يبرز السؤال: هل تستطيع بغداد الحفاظ على حيادها وردع الفصائل المسلّحة حال قرّرت تجاوز "الخطوط الحمراء"؟ حتى الآن، تُراهن الحكومة على مزيج من التنسيق الأمني والضغوط السياسية وتفكيك التناقضات داخل المعسكر الواحد عبر المغريات المالية والاقتصادية، ولكن بعض قيادات الفصائل ترفض هذه المغريات بدوافع عقائدية وولاء مطلق لطهران.

إلى ذلك، تُدرك بغداد أنّ قدرتها على الحسم محدودة ما لم تحصل على غطاء داخلي شامل، وتفويض دولي واضح لدعم سيادتها أمام سلاح خارج الدولة، ولكن هذين الجانبين يعنيان تقييد الفصائل، وهو ما قد يدفعها إلى الاعتراض والزجّ بالبلد في دوامة من الانفجارات الداخلية، واحتمال انتفاض القوى المسلّحة ضد الدولة.

على جانب آخر، لا ترغب بعض قوى الإطار التنسيقي في إضعاف الفصائل المسلّحة أو المنضوية تحت مظلّة الحشد الشعبي، إذ تعتقد أنّ إضعافها يعني خسارة قاعدتها الشعبية وتغييب داعم انتخابي وشعبي مهم، بالإضافة إلى فقدان ذراع قادرة على حمايتها ضد خصومها. وبالنسبة لبعض قوى الإطار التنسيقي، فإنّ الفصائل المقرّبة من زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، هي أبرز الخصوم.

أما إيران، فوفق مصدر دبلوماسي قريب من صناعة القرار في بغداد، لا تزال تتعامل مع حياد العراق كأمر واقع لا مفرّ منه، وتُدرك أنّ الضغط على بغداد الآن قد يكون مكلفاً أكثر من الصمت المؤقت. وبحسب المصادر ذاتها، أوصت طهران حلفاءها بضبط النفس، في انتظار تبدّل موازين القوى، أو الوصول إلى اللحظة المناسبة التي تتيح إعادة تنشيط أوراقها داخل العراق.

ختاماً، هل يصمد حياد العراق؟ الإجابة ليست سهلةً. الحياد اليوم ليس خياراً نابعاً من موقع قوّة بقدر ما هو تكتيك اضطراري، وإذا لم تُرفق هذه السياسة بمشروع سيادي فعلي يضبط السلاح ويعيد هندسة العلاقة مع الفصائل والمحيط الإقليمي، فقد يجد العراق نفسه عاجلاً أو آجلاً مدفوعاً داخل صراعات المحاور، حتى لو لم يُعلن ذلك صراحةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image