أنا الفلسطيني السنّي… أعتذر من إخوتي الدروز

أنا الفلسطيني السنّي… أعتذر من إخوتي الدروز

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 21 يوليو 20258 دقائق للقراءة

على نافذة الغرفة رقم 18 في الطابق الأول من المبنى رقم 40 في المدينة الطلابية في العاصمة البلغارية صوفيا، كنت أقف كل صباح لأطعم الحمام في الساحة الملاصقة للمبنى. أُفتفت الخبز وأنثره على حافة النافذة وعلى العشب القريب، فيأتي الحمام من أسطح المباني المجاورة ويحطّ تحت نافذتي. يوماً بعد آخر على هذه العادة، صارت لدي المئات من طيور الحمام، التي تتجمّع في المكان حتى قبل أن أفتح النافذة.

صباح يوم أحد وافق عطلةً رسميةً للجامعة كما لبقية المؤسسات، سمعت طرقاً على باب الغرفة، ففتحت. كان الطارق شابّاً من جيلي أو أكبر قليلاً. بادرني بعد صباح الخير وعرّف بنفسه: "أنا بهاء بو كرّوم من لبنان، أسكن في الغرفة المجاورة. هل تسمح لي أن أشاركك هذه الهواية للحظات؟". عرضت عليه سيجارةً، فقال إنه لا يدخِّن، ثم عرضت فنجاناً من القهوة، فقال إنه لا يشربها، فسألته: ماذا تشرب إذاً؟ أجاب: أشرب المتّة، وسأدعوك لتشربها معي.

تعرّفت إلى بهاء عام 1985. يومها فقط، عرفت أنّ ثمّة طائفةً يُطلَق عليها "بنو معروف" وثمّة مشروب يُطلق عليه "المتّة"، وثمّة "قاف" تُنطق بكامل أُبّهتها، وثمّة طعام يُدعى "الكِشك"، وثمّة عامر سيُنادى في ما بعد من قِبل أصدقائه الفلسطينيين بـ"الدرزي"، لعلاقاته الوطيدة مع شباب هذه الطائفة

حدث ذلك في العام 1985. ويومها فقط، وبعد ساعة من الحديث، عرفت أنّ ثمّة طائفةً يُطلق عليها "بنو معروف"، وثمّة مشروب يُطلق عليه "المتّة"، وثمّة "قاف" تُنطق بكامل أُبّهتها، وثمّة طعام يُدعى "الكِشك"، وثمّة عامر سيُنادى في ما بعد من قِبل أصدقائه الفلسطينيين بـ"الدرزي"، لعلاقاته الوطيدة مع شباب هذه الطائفة في لبنان وسوريا.

لقد عرّفني بهاء إلى أصدقائه الدروز من جبل لبنان؛ أجود عبد الخالق ووسام القاضي وشوقي عمّار والكثير غيرهم، فصرت زائراً متردّداً وضيفاً افتراضياً دائماً في عين عنوب والمختارة وبعقلين وكفر متى ومزرعة الشوف؛ أعرفها كما أعرف قريتي في فلسطين. 

كذلك، صرت أتمشّى في محمية أرز الشوف، وألتزم بالقانون -كما يلتزم الحارس هناك- بألّا أرمي قمع سيجارة على الأرض، وبألّا أزعج السناجب على جذوع الأشجار، وبأن أتحدث بالقاف المفخّمة مع أي سائح يصادفني، وكأنني ابن المكان الذي لا يريد خدش صورته.

كان شوقي عمّار شاعراً ينظم الزجل، وهو ابن عين عنوب، بلدة الشاعر الكبير طليع حمدان، وجاره وأحد محبّيه الكثر. ولأجل طليع حمدان، وبسببه، كان من الصعب أن تجد درزياً لا يحبّ الشعر أو لا يحاول كتابته. أما ما يميّز شوقي، فهو أنه كان شاعراً لا يقلّ أهميةً عن طليع، وما التقدير العالي الذي يكنّه لابن بلده إلا بحكم احترامه للتجربة الأطول والعمر الأكبر.

انتهت سنوات الدراسة والزجل وعدت إلى فلسطين، وكان هدفي الأول هو أن أحوّل هذا المخزون من المعرفة "الزجلية"، إن جازت التسمية، إلى شعر باللهجة الفلسطينية المحكية، وأظنني نجحت.

صار شوقي يهديني كل ما تقع عليه يده من كتب، أو كاسيتات تحتوي على الزجل اللبناني، ثم صار يهديني كتبه هو، ثم انتقل إلى مرحلة راح يتحدّاني فيها بأن يهجوني ببيتين أو قصيدة كاملة ثم يعطيني الوقت الكافي للردّ. "خذ وقتك"، هكذا كان يقول، "لكنني أريد ردّاً ذكياً وجميلاً". وصرتُ أحاول وأحاول، أنجح مرةً وأفشل مرات، إلى أن صرت أجيد الزجل اللبناني دون مشقّة كبيرة، وأقوله ارتجالاً دون تحضير مسبق.

انتهت سنوات الدراسة والزجل وعدت إلى فلسطين، وكان هدفي الأول هو أن أحوّل هذا المخزون من المعرفة "الزجلية"، إن جازت التسمية، إلى شعر باللهجة الفلسطينية المحكية، وأظنني نجحت، فقد نال ديواني الأول بعض الجوائز المهمة ورضا الكثير من النقّاد. ولأنّ همّي كان أن أنال رضا معلّمي، شوقي، فقد أرسلت له مخطوطة الكتاب قبل الطباعة، ولكم كانت مفاجأتي كبيرةً حين طلب مني أن يكتب هو المقدمة، وقد أورد فيها:

"الشاعر إجا من عند الله فرضْ

تَ يكون كِلمِة هالدني كِلّا

صلّوا ما يبكي شاعر على الأرضْ

بيتخربش البيكار مع الله".

في فلسطين، وبعد سنوات قليلة من تخرّجي، صرت عضواً في اللجنة الاجتماعية لنقابة أطباء الأسنان، فقمت مع زملاء لي بترتيب زيارة إلى الجولان السوري المحتلّ، للقاء زملائنا هناك. كان ذلك في موسم التفاح الذي تشتهر به هضبة الجولان، فقررت أن آخذ ابنتي داليا، ذات الأربع سنوات آنذاك، معي. بعد أن قمنا بجولة في قرية مجدل شمس، أخذنا زملاؤنا إلى مزارع التفاح الخاصة بهم، وصاروا يعطون كل طبيب صندوقاً ويطلبون منه أن يقطف ما يريد.

لم آخذ الصندوق المخصص لي، ولم أكن جزءاً من كرم أهل الجولان وطمع أهل رام الله، بل بدأت بالتمشي بين أشجار التفاح أنا وابنتي، التي كانت تحتفل برؤية تفاحة خضراء، وترقص لرؤية تفاحة حمراء، وتغنّي وهي تبتسم في غاية السعادة: "بابا… كتيير تفاح".

فجأةً، تقدّم باتجاهنا أحد الزملاء وسألني وهو يعرّف بنفسه: أنا الدكتور مجيد صفدي، وهذه المزرعة لي، فلماذا لا تقطف مثل البقية؟ قلت: أنا أحب النظر أكثر من الأكل، فضحك وقال: لكننا نحبّ من يأخذ، وعليك أن تأخذ. أجبت: إن كان لا بد من الأخذ، فلا أمانع بكيلو من الكِشك أو قنينة من العرق البلدي، أما التفاح فأفضّل أن أتركه على أمّه الشجرة، إلى أن ينضج وتفرح بقطفه أنت.

هذا الحوار المصحوب بالضحكات الصادقة، وبتقافز داليا بين أرجلنا، جعلنا صديقين استمرّت صداقتهما سنوات طويلةً بعد ذلك. صارت الجولان وجهتي الدورية حين أملّ من رام الله، وصارت رام الله وجهة مجيد وزملائه أيضاً. كنا نجلس في مزرعة أحد الزملاء ليلاً، نشرب العرق ونقرأ الشعر، بينما تتساقط قذائف حزب الله وتنفجر تحتنا في سهل الحولة. وكانوا يأتون إلى رام الله منهكين من كثرة الحواجز والطرق الالتفافية، وأسئلة الجنود الكثيرة عن وجهتهم وهدفهم من دخول "المناطق"، وهو الاسم الذي يطلقه الجيش على الضفة الغربية المحتلة.

في سنوات لاحقة، اشتغلتْ معي في العيادة طبيبة من مجدل شمس تُدعى تمارا، كانت تقيم في رام الله مع زوجها الذي يعمل مصوِّراً لإحدى المحطات الفضائية، فقررت العمل قريباً من محل سكنها. كانت تمارا تسافر إلى الجولان مساء الخميس وتعود صباح الأحد إلى رام الله. في يوم من الأيام، سردت لها قصّتي مع أصدقائي دروز الجولان، وكيف بدأت بسبب صندوق تفاح، فما كان منها إلا أن أحضرت لي صندوقاً مع بداية الأسبوع التالي، ثم الذي يليه، وهكذا… صار يصلني صباح كل أحد صندوق من التفاح، وحتى بعد أن تركت تمارا العمل في عيادتي ظلّت هي وزوجها على هذه العادة، وصرت أعرف أنّ صندوقاً من التفاح ينتظرني على باب العيادة صباح كل أحد.

بعد سنة تقريباً، قررت أن أفاجئ تمارا وزوجها، وأن أزورهما في بيتهما في مجدل شمس. ركبت سيارتي واتجهت إلى الجولان. هناك سألت عن عنوانهما، فدلّني عليه صاحب دكان، لكنني لم أجد أحداً في البيت، وحين سألت الجيران دلّوني على مكان مزرعتهما التي يتواجدان فيها أيام العطل الأسبوعية. وصلت وإذا بتمارا تجلس على تلة في المكان وأمامها مجموعة من البقرات، وحين سألتها: هل ترعين البقر؟ أجابت: لا، أنا أرعى مع البقرات.

مشهد حلق الشوارب من قِبل فئة لا تقيم وزناً لأي أخلاق ولا لأي قيم ولا لأي كرامة، يجب أن يكون مداناً بأشدّ العبارات وأوضحها. فيا إخوتي الموحدين، العرب، الدروز، بني معروف، الأصدقاء، يا من علّمتموني الشعر، أنا أعتذر منكم

كانت هذه الإجابة استكمالاً للشعر الذي علّمني إياه شوقي، بل كانت شعراً من نوع جديد سيلازمني وسيشكّل لديّ فهماً جديداً لمعنى الأرض والالتصاق بها، بتفاحها وكرزها وأعشابها وزهورها وبقراتها.

لم أتعرّف إلى بهاء ووسام وتمارا ومجيد فحسب، بل تعرّفت إلى عائلاتهم/ نّ أيضاً، على المناديل البيضاء لأمهاتهم/ نّ، وعلى اللحى البيضاء لآبائهم/ نّ وأجدادهم/ نّ، على طريقتهم في شرب المتّة بالماء أو الحليب، وعلى طريقة طبخ الكِشك مع القاورما، وعلى اللبن البقري الحامض على طاولة الإفطار في بيوتهم/ نّ، وعلى خلواتهم/ نّ وشيوخهم/ نّ.

لكل ذلك، وبعيداً عن أي اعتبارات سياسية، أو انحيازات طائفية، في بلاد لم يعد فيها أي شيء يمكن الإمساك به مطوّلاً، وبعيداً حتى عن التاريخ بأفضليته والمستقبل بقتامته، فإنّ مشهد حلق الشوارب من قِبل فئة لا تقيم وزناً لأي أخلاق ولا لأيّ قيم ولا لأيّ كرامة، يجب أن يكون مداناً بأشدّ العبارات وأوضحها. فيا إخوتي الموحدين، العرب، الدروز، بني معروف، الأصدقاء، يا من علّمتموني الشعر، أنا أعتذر منكم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image