تشهد مصر استدعاء نماذج تراثية من الماضي، مثل التكايا والكتاتيب وشهادة البكالوريا، في سياق مبادرات وتوجهات رسمية تستهدف -على ما يبدو- معالجة أزمات معاصرة على غرار الفقر والأمّية والتشدد الديني وخلل نظام الثانوية العامة.
مبادرات استدعاء النماذج التراثية القديمة، تتمثل في إعلان وزيرة التضامن مايا مرسي، عن دراسة إعادة إحياء التكايا، وتبنّي الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف بدعم حكومي ورئاسي، لإحياء الكتاتيب، بجانب تبنّي وزارة التعليم نظام "البكالوريا"، وهو نظام تعليم فرنسي يعود إلى عقود ما قبل الخمسينيات؛ كبديل لنظام الثانوية العامة المعمول به حالياً.
إحياء التكايا
تعود التكايا المصرية إلى العصرَين المملوكي (1250-1517)، والعثماني (1517-1867)، وتعدّ تطوراً عن "الخانقاوات" (جمع خانقاه، وهي مكان عبادة يعود للعصر الأيوبي في مصر)، وحسب ما جاء في موسوعة علي باشا مبارك، "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر… القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة"، الصادر عام 1886، فـ"التكايا (جمع تكيّة) كان يسكنها دراويش من الأغراب غالباً ليس لهم كسب وإنما لهم رواتب شهرية وسنوية من ديوان الأوقاف العمومية أو من أوقاف خصوصية، لذا أُسمي محل مقامهم تكيّة".
وبعد أن ولّى زمن العثمانيين، قررت الجمهورية التركية إغلاق التكايا عام 1925، وتبعتها مصر بقرار من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، عام 1957، أي بعد خمس سنوات من الإطاحة بالحكم الملكي وأسرة محمد علي باشا. ومن أشهر التكايا الموجودة في القاهرة: "التكية المولوية"، وتكية محمد بك أبو الدهب، والأخيرة ألحق بها قبل سنوات متحف أديب نوبل نجيب محفوظ.
المفاجأة ليست في التاريخ السابق، بل في الحاضر، ففي مؤتمر صحافي يوم 7 تموز/ يوليو الجاري، صرّحت وزيرة التضامن الاجتماعي، مايا مرسي، بأنّ الوزارة بصدد تقديم دراسة لإعادة إحياء فكرة التكيّة كـ"مظهر من مظاهر التكافل المجتمعي"، وأشارت إلى أنّ الأمر سيكون "تعاونياً" بين عدد من الوزارات المعنية والمؤسسات الأهلية الكبرى.
تدرس الدولة المصرية اليوم إمكانية تجديد مفاهيم الكتاتيب والتكايا والبكالوريا من عصور سابقة، في محاولة لمعالجة أزمات مثل الفقر والأمية، لكنها بذلك تغفل عن السياق الزمني الحالي الذي تحكمه التكنولوجيا. هذا الاستدعاء التراثي أثار اعتراضات واسعة حول قدرة الحكومة على تقديم حلول حديثة بدل محاكاة الماضي
هذه المبادرة، بحسب الوزيرة، تستهدف توفير وجبات للفئات الأولى بالرعاية، وكبار السنّ، والأشخاص الذين بلا مأوى، في إطار منظومة إنسانية تحفظ كرامة المستفيدين، وتضمن استدامة الخدمة، مشيرةً إلى أنّ آلية عمل المبادرة تقوم على إعداد نموذج تشغيلي تتكامل فيه الجهود الحكومية والأهلية.
وحول هذه المبادرة، أوضح المتحدث باسم وزارة التضامن محمد العقبي، في تصريحات تلفزيونية، أنها تختلف عن الشكل التاريخي التقليدي للتكايا، وبذلك فإنّ التسمية النهائية لم تُحدّد بعد، مستبعداً أن تكون تحت مسمى "تكيّة".
عودة البكالوريا
الكتاتيب ليست وحدها، فمؤخراً، وافق مجلس النواب المصري على تعديلات قانون التعليم المقدمة من الحكومة، الذي تضمن استحداث "نظام البكالوريا"، كنظام اختياري ومجاني موازٍ للثانوية العامة، تكون فيه مدة الدراسة ثلاث سنوات، ويُمنح الطالب بعد إتمامه إياها شهادةً تعادل شهادة إتمام دراسة الثانوية العامة، ومن المقرر أن يدخل القانون حيز التنفيذ بعد تصديق رئيس الجمهورية عليه ونشره في الجريدة الرسمية.
وحول أبرز الفوارق بين النظامين، يمكن الإشارة إلى أنّ نظام الثانوية العامة يمنح الطالب فرصةً امتحانيةً واحدةً فقط مع دور ثانٍ بنصف الدرجة، فيما يسمح نظام البكالوريا بمحاولات متعددة مع احتساب أعلى نتيجة، كما لا يسمح النظام التقليدي بتغيير المسار التعليمي، بينما يتيح نظام البكالوريا الانتقال بين المسارات شرط دراسة مواد إضافية. ويُقسم نظام الثانوية العامة إلى ثلاث شعب (علمي علوم، علمي رياضيات، وأدبي)، فيما يوفر نظام البكالوريا أربعة مسارات هي الطب وعلوم الحياة، والأعمال، والهندسة وعلوم الحاسب، والآداب والفنون.
نظام "البكالوريا" يُطرح كبديل للثانوية العامة، لكنه يحمل شبهة تمييز طبقي، إذ يُمكّن القادرين من تكرار المحاولات واختيار المسارات، بينما يحاصر الأقل دخلًا في نظام واحد. ما يُهدد مبدأ تكافؤ الفرص.
إلا أنّ وزير التربية والتعليم الأسبق أحمد جمال الدين موسى، عبّر عن امتعاضه من القرار، وفي منشور سابق له عبر حسابه على فيسبوك، تحدّث عن "ضرورة تطوير نظام التعليم في البلاد"، معتقداً أنّ مسمّى البكالوريا المصرية ليس إلا "ردّةً إلى الخلف، وانحناءةً تجاه لغة أجنبية أخرى".
كتاتيب الأوقاف وأروقة الأزهر
بعد سنوات من سيطرة وزارة الأوقاف على المساجد والزوايا، عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين صيف 2013، شهدت الوزارة منذ عام 2022 تنافساً مع مشيخة الأزهر الشريف على استقطاب الكتاتيب. آنذاك، أعلن شيخ الأزهر أحمد الطيب، عن مبادرة "رواق الطفل الأزهري" التي لا تزال مستمرةً في مختلف محافظات مصر. وبالتزامن أعلنت وزارة الأوقاف آنذاك، عن عودة عمل مكاتب تحفيظ القرآن في المساجد.
وبرغم العودة الفعلية لـ"الكتاتيب" التي تعود إلى عقود إسلامية مبكرة، أعاد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أواخر أيار/ مايو الماضي، الجدل حول دورها، مشيراً إلى توجيهات رئاسية بدراسة عودتها؛ لـ"المساهمة في تكوين الشخصية المصرية السويّة، والحرص على ثوابت الدول القائمة على الوسطية والتسامح وحب الوطن واحترام الآخر والأديان الأخرى".
كما سبق أن أوضح المتحدث باسم وزارة الأوقاف، أسامة رسلان، وجهة نظر وزارته، واصفاً المبادرة بأنها لا تُعدّ استدعاءً للماضي، وليست بديلاً للمدارس النظامية، بل هي مشروع وطني له مسارات آمنة تربوياً وفكرياً، بإشراف من وزارة الأوقاف.
وأشار رسلان في مقال له، إلى أنّ الهدف من إعادة إحياء منظومة الكتاتيب يتمثل في دعم الشخصية المصرية من خلال تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم بشكل صحيح ومنضبط، ومواجهة صور التطرف الفكري والديني من جهة، وكذلك التطرف اللاديني والانفلات القيمي من جهة أخرى.
تأسيس لمرحلة جديدة
في سياق غير بعيد، يقول الباحث في الفكر الديني الجماعاتي والمتخصص في الحركات الإسلامية والطرق الصوفية، مصطفى زهران، إنّ وزير الأوقاف أسامة الأزهري ينطلق في مشروع الكتاتيب من حاضنة صوفية أزهرية مصرية عميقة، ويؤسس لمرحلة جديدة تُعنى بقضية تحديث الكتاتيب.
وفي حديثه إلى رصيف22، يوضح أنّ الهدف ليس إعادة إنتاج النمط التقليدي للتعليم الديني، بل تأصيله تاريخياً، مع تطويره وفق معايير تربوية حديثة، مشيراً إلى أنّ هذا الاتجاه ليس جديداً، بل سبقه إليه كثير من المصلحين في العالم الإسلامي، سواء في آسيا أو في المنطقة العربية، حيث سعوا إلى تحديث التعليم الديني وتطوير أدواته.
الاقتراحات السابقة ووجهت بموجة من الاعتراضات من قبل أكاديميين ومفكرين مصريين، ممن اعتبروا أن استدعاء الكتاتيب والتكايا والبكالوريا في زمن الذكاء الاصطناعي يعكس إفلاساً فكرياً وهروباً من المستقبل، وأن هذه المبادرات تُعيد تكريس الطبقية وتحوّل التعليم إلى امتياز للطبقات القادرة، بينما تُترك الفئات الأفقر لنماذج تعليم ديني تقليدي لا تضمن العدالة الاجتماعية
وأكد زهران أنّ مصر تسعى إلى تحديث نمط التعليم الديني من خلال ضبطه بمنهجية علمية معاصرة، مع مراعاة الأبعاد التربوية والنفسية للأطفال، وهي ضوابط أصيلة في نظام التعليم الأزهري، وليست وافدةً عليه، وذلك في مواجهة التيارات المتطرفة أو المتشددة، موضحاً أنّ بعض الدوائر المنغلقة، سواء كانت علمانيةً أو دينيةً، لا تدرك هذا التوجه التحديثي، ما يؤدي إلى سوء فهم للمشروع.
هروب إلى التاريخ وليس استلهامه
وفي تعقيبه على مبادرات إحياء التكايا والكتاتيب والبكالوريا، يرى الباحث المتخصص في علم الاجتماع السياسي، عمار علي حسن، أنّ هذا النوع من المبادرات يمثّل "هروباً إلى التاريخ وليس استلهاماً له".
ويقول في حديثه إلى رصيف22: "الهروب إلى التاريخ يحدث لدى الأمم عندما تواجه أزمات شديدةً في واقعها الحاضر، وتجد صعوبةً في التوجه إلى المستقبل، وليس ذلك على مستوى الأمة بأكملها، بل على مستوى السلطة التي تدير الدولة في لحظة بعينها".
ويعزو حسن هذا التوجه إلى وجود احتمالات بأن يكون أحد المستشارين المحيطين بالرئيس المصري يمتلك عقليةً قديمةً، ويفكر بهذه الطريقة، ويستقي مصطلحاته من الحوليات التاريخية، ويضع أمامه تصورات مستوحاةً منها، باعتبارها جزءاً من الموروث الاجتماعي والتاريخي لمصر.
ويعتقد أنّ هذه الأفكار قد يتبنّاها الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه، نظراً إلى نشأته في حي الحسين التاريخي (وسط القاهرة)، حيث رأى ظلالاً للكتاتيب والتكايا، كما أنّ الرئيس ينتمي إلى جيل ربما سمع عن نظام البكالوريا قبل أن يُلغى بعد عام 1952، وتالياً فهذه المفردات ليست غريبةً على السلطة.
ويتابع الباحث المصري، أنه إذا أخذنا كل مصطلح على حدة، سنجد سبباً لطرحه بغض النظر عن مبتكره أو من استدعاه من التاريخ؛ فالكتاتيب طُرحت لأنّ الدولة تريد سحب يدها من التعليم تماماً، وجعله حكراً على القلة القادرة، وفي ظل ضرورة التصدي للأمّية، كان البديل المطروح هو إحياء الكتاتيب لتعليم شريحة واسعة من الشعب القراءة والكتابة، عبر بوابة مرغوبة دينياً وهي حفظ القرآن، وفي ذلك، مخاطبة للمشاعر الدينية.
ويضيف أنه لو طُرحت الكتاتيب كوسيلة لحفظ اللغة العربية أو لاستقامة اللسان، لكان بالإمكان تفهّم الفكرة، لكن ما لا يقال هو أنّ الكتاتيب تُطرح كبديل تعليمي للفئات الدنيا، وللفئات المتوسطة المتعثرة، التي تستهلك أغلب دخلها على الطعام والشراب بسبب التضخم.
أما "البكالوريا"، فطُرحت –برأيه– في إطار محاولة لدغدغة المشاعر، لتمرير قانون تعليمي يخدم القلّة، ويحول التعليم إلى سلعة، ويرفع شعار الدفع قبل التعلم، ويعكس ذلك خطاب وزير التعليم نفسه، الذي يملك سلسلة مدارس خاصة.
رغم الطابع الإصلاحي الذي تحاول مبادرة "رواق الطفل الأزهري" الترويج له، إلا أنها تثير تساؤلات جدّية حول قدرتها على مواجهة أزمات معاصرة كالتطرف والانفلات القيمي.
ويرى أنّ اختيار مصطلح "بكالوريا" يستحضر الاسم القديم الذي يعزف على وتر الحنين إلى ما قبل العام 1952، حين كانت النخبة تحنّ إلى زمن الملكية، أو حتى إلى بدايات عهد عبد الناصر، وهو حنين يوظَّف اليوم للهروب من مسؤولية الدولة تجاه تمويل التعليم.
ويختم الباحث بأنّ فكرة التكية، بدورها، تعكس توقع السلطة أنّ السياسات الاقتصادية الجائرة ستؤدي إلى مجاعة أو عجز بعض الأسر عن توفير الغذاء، ومن ثم تطرح التكايا كمكان دائم لتقديم الإعانات للفقراء.
أم إفلاس وعودة إلى الطبقية؟
يتفق أستاذ علم الاجتماع السياسي، سعيد صادق، مع الرأي السابق، موضحاً لرصيف22 أنّ إعادة إحياء مفاهيم التكايا والبكالوريا والكتاتيب رسمياً، دفعةً واحدةً وفي سياقات مختلفة، يُعدّ إفلاساً.
ويقول: "إحياء هذه المصطلحات يُعدّ إفلاساً حقيقياً، مع نظرة الدولة إلى الجوامع المنتشرة باعتبارها كتاتيب وتكايا للفقراء والمحتاجين، الذين لا تستطيع تلبية احتياجاتهم. الدولة كمن يردّ على من تُطلب منه سيارة: لا أملك لكم سيارةً، ما رأيكم أن تركبوا جملاً؟".
ويرى أنّ هذا التوجه يعكس نوعاً من الإرضاء السياسي لتيارات تقليدية، سواء التيار السلفي أو أصحاب الثقافة الريفية المحافظة، ممن نشأوا في بيئة الكتاتيب في الأرياف، كما يُعبّر التفتيش في الدفاتر القديمة عن عجز عن تطوير أدوات جديدة، بما يتعارض مع منطق الدولة الحديثة، إذ إننا نحفر في الماضي ونحاكيه، بدلاً من بناء المستقبل.
ويتساءل الأكاديمي المصري: "كيف لمصر أن تشاهد السعودية وقد دمجت الذكاء الاصطناعي في التعليم بجميع مراحله، بينما تعود مصر إلى زمن التكايا والكتاتيب؟ هل سنسمع قريباً عن العودة إلى لبس الطرابيش؟".
ويشير إلى أنّ هذه الأفكار، في اعتقاده، دعائية أكثر منها واقعية، وإن طُبّقت، فلن تشمل الجميع، بل ستطبّق على طبقات معيّنة، ما يمثل عودةً إلى عصور الطبقية، حيث يتعلم الأغنياء في الجامعات، والطبقة المتوسطة في المدارس الحكومية، بينما يُرسل الفقراء إلى الكتاتيب.
ويختم حديثه قائلاً إنّ هذه الصورة، إن تحققت، ستؤدي إلى مأساة مجتمعية حقيقية، شبيهة بما صوّره الأديب أحمد خالد توفيق، في روايته "يوتوبيا"، حيث ينقسم المجتمع إلى فقراء مهمشين يعيشون في "مصر الفقيرة"، وأغنياء منعزلين في "إيجبت المتقدمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.