في التاسع من حزيران/ يونيو 1967، ظهر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، على شاشة التلفاز، وأعلن استقالته من الحكم، في محاولة لتحمّل مسؤولية الهزيمة المروعة التي تعرّض لها الجيش المصري خلال حرب الأيام الستة مع الاحتلال الإسرائيلي.
جاء في خطاب ناصر آنذاك: "ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسةً خطيرةً خلال الأيام الأخيرة. لكنّني واثق أننا جميعاً نستطيع -وفي مدة قصيرة- أن نجتاز موقفنا الصعب". لم يعترف ناصر، في خطابه، بالهزيمة، بل اختار كلمة "نكسة"، وكأنّه يؤسّس لسردية تُنكرها، وكأنّ كلمة "نكسة"، كما أورد إلياس خوري في كتابه "النكبة المستمرة"، باتت غطاءً لغوياً يحجب الحقيقة، ويُخفّف من وطأة الهزيمة، ويعرضها كمجرّد كبوة وانحناءة في مسار وطني منتصر.
منذ خطاب الاستقالة الذي ألقاه عبد الناصر، في ذلك اليوم، صار استخدام "النكسة" تعبيراً شائعاً في الخطاب الرسمي العربي، كما شاع استخدامها عند العديد من المثقفين العرب، وقد تحوّلت اللغة -في إطار هذا الاستخدام- من أداة لكشف حقيقة الواقع ومساءلته، إلى أداة تهدف إلى تجميله وحجب حقيقته، عبر الاعتماد على أساليب المخاتلة والمراوغة والتحايل على الحقائق.
منذ خطاب الاستقالة الذي ألقاه عبد الناصر، في ذلك اليوم، صار استخدام "النكسة" تعبيراً شائعاً في الخطاب الرسمي العربي، كما شاع استخدامها عند العديد من المثقفين العرب، وقد تحوّلت اللغة -في إطار هذا الاستخدام- من أداة لكشف حقيقة الواقع ومساءلته، إلى أداة تهدف إلى تجميله وحجب حقيقته
السردية القومية ونفي الهزيمة
أقامت الأنظمة القومية سرديّتها حول "النكسة"، بالاعتماد على أسلوب التبرير السياسي، فقد تحوّلت هزيمة الجيوش العربية التي حصلت إبّانها، إلى قصة عن "انسحاب تكتيكي" و"مؤامرة دولية" و"خيانة داخلية"، وغيرها من القصص التبريرية، التي جاءت بغرض تبرئة الأنظمة السياسية الحاكمة، وتجريدها من مسؤوليتها الفعلية عن الهزيمة.
أصبحت هذه السردية التي أقامتها الأنظمة القومية العربية، إستراتيجية إنكار ممتدةً، ترفض الاعتراف بالهزيمة، وتمنع الأنظمة نفسها من النقد الذاتي.
هدفت هذه الإستراتيجية إلى إنتاج خطاب يحافظ على الرمزية الكاريزمية للزعيم، بحيث يُغلق الباب أمام أيّ فرصة للمساءلة أو المحاسبة، وبحيث لا تضطر الزعامات القومية العربية إلى مراجعة أساليبها في الاستبداد العسكري، وصيغ الحكم الأحادي. فقد عملت "النكسة" على تكريس حالة التفاف جديد حول الزعيم، كما حصل عندما تراجع عبد الناصر عن استقالته، وسط هتاف جماهيري يُصفّق للخراب، ويُعفي الزعيم من مسؤولياته التاريخية.
أقامت الأنظمة القومية سرديّتها حول "النكسة"، بالاعتماد على أسلوب التبرير السياسي، فقد تحوّلت هزيمة الجيوش العربية التي حصلت إبّانها، إلى قصة عن "انسحاب تكتيكي" و"مؤامرة دولية" و"خيانة داخلية"، وغيرها من القصص التبريرية
المثقفون العرب وتجميل الهزيمة
تماهى العديد من المثقفين العرب مع السردية التي اعتمدتها الأنظمة العربية في قراءة هزيمة حرب 1967، واعتمدوا في قراءتها على لفظة "النكسة". لم يقرؤوها كصدمة بنيوية، بل كفرصة جديدة للانبعاث، كأنّها خيبة مؤقتة لا تتطلب سوى دفعة جديدة من الشعارات.
أدّت قراءة هؤلاء المثقفين للهزيمة إلى تكريس حالتها عند الأنظمة التي خافت من الاعتراف، فعاشت في فقّاعة كاذبة، تحمي نفسها بالشعارات، وتزداد اغتراباً عن الناس، دون سلوك طرق الإصلاح السياسي والتجديد الثقافي. وحين جاءت حرب 1973، تمّت قراءتها كخاتمة ملحمية لهزيمة مؤقتة لم يُعترف بها أصلاً.
أدّت قراءة هؤلاء المثقفين العرب للهزيمة إلى تكريس حالتها عند الأنظمة التي خافت من الاعتراف، فعاشت في فقّاعة كاذبة، تحمي نفسها بالشعارات، وتزداد اغتراباً عن الناس
فيلم "برّا المنهج"... الهزيمة كوجع نفسي لا كمسؤولية سياسية
يستعرض فيلم "برّا المنهج"، علاقةً تتأسّس بين طفل يُدعى نور، والمذيع أحمد وحيد، وشخصية أحمد وحيد مستوحاة بتصرّف من مذيع إذاعة "صوت العرب" الشهير أحمد سعيد، الذي ارتبط اسمه ببثّ أخبار كاذبة وبيانات غير دقيقة خلال هزيمة 1967. يظهر أحمد في الفيلم وهو يعيش في عزلة بسبب شعوره بالذنب نتيجة قيامه بنقل أخبار كاذبة في أثناء الحرب.
وبرغم الطرح الإنساني العميق الذي يُقدّمه الفيلم، والذي يتضمّن تساؤلات حول الحقيقة والكذب وتأثيرهما في الفرد والمجتمع، إلا أنّه يُمكن إدراجه ضمن الأعمال التي تعمل على تجميل هزيمة 1967، من خلال مقاربتها من زاوية فردية، تجعل السرد لا يلتفت إلى المساءلة السياسية للنظام المسؤول عن الهزيمة.
فشخصية المذيع أحمد، تظهر في الفيلم بوصفها ضحية تأنيب الضمير، لا بوصفها جزءاً من آلة دعائية ساهمت في تضليل وعي الجماهير.
التركيز على العزلة والشعور بالذنب، في الفيلم، يُحوّل الخطأ من فعل ناتج عن منظومة إعلامية موجّهة ومقصودة، إلى فعل فردي قابل للتفهّم، وربما للتعاطف. وهكذا، يُجمّل الفيلم سردية هزيمة 1967، ويجعلها مأساةً نفسيةً لا سياسية، ويُجنّب نفسه الدخول في نقد مباشر لبنية السلطة أو خطابها، مُتيحاً بذلك قراءةً أكثر أماناً للهزيمة، لكنّها أقلّ صراحةً وجرأةً في مواجهة أسبابها.
فكما غطّى النظام العربي هزيمته بالشعارات، تُغطّي "حماس" الإبادة الجارية في غزة بشعارات "الصمود" و"الانتصار"، وكأنّ التضحية بلا أفق سياسي بطولةٌ في ذاتها
تاريخ الهزيمة يُعاد بلغة مختلفة
كانت هزيمة 1967 لحظةً كرّست لوجود نموذج نظام سياسي هشّ في العالم العربي، وهو نموذج سلطوي يُقاوم النقد، ويرفض الاعتراف بأخطائه وهزائمه.
بدأ هذا النموذج في زمن عبد الناصر، واستمرّ حتى حكم "حماس" في غزة حالياً. فكما غطّى النظام العربي هزيمته بالشعارات، تُغطّي "حماس" الإبادة الجارية في غزة بشعارات "الصمود" و"الانتصار"، وكأنّ التضحية بلا أفق سياسي بطولةٌ في ذاتها. الإبادة التي تشهدها غزة ليست جريمة احتلال فحسب، بل أيضاً نتيجة مباشرة لسلطة لم تتعلّم من تاريخ الهزائم، ولا تريد الاعتراف بأنّ الناس يُذبحون بينما لا تزال هي تعتمد على مخاتلة اللغة. وبهذا هي تُشبه كلّ سلطة، قديمة أو جديدة، لا تزال تخشى الحقيقة، وتُفضّل أن تُبقي شعبها داخل أسطورة لا تُسمن ولا تحمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Michel abi rached -
منذ 3 أياممقال مميز
Ali Ali -
منذ 6 أيامجميل و عميق كالبحر
Magdy Khalil -
منذ أسبوعمقال رائع، يبدو انني ساوافق صاحب التعليق الذي اشار اليه المقال.. حيث استبعد ان يكون حواس من سلاله...
Thabet Kakhy -
منذ أسبوعسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا