كيف ينظر العراقيون إلى الصراع الإيراني الإسرائيلي؟

كيف ينظر العراقيون إلى الصراع الإيراني الإسرائيلي؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 23 يونيو 202502:45 م

 لا شيء يمرّ مرور الكرام على العراقيين. موقع بلدهم الجغرافي يضعهم في مكان لا يُحسدون عليه. فبالرغم من أنهم ليسوا طرفاً مباشراً في الحرب، لكنهم لا يملكون ترف الحياد؛ من انتهاكات السيادة عبر الصواريخ المارّة فوق سمائهم وصولاً إلى التشابكات السياسية الحاصلة بين محاوره المتصارعة، ونفوذ فصائله المسلحة الحائمة في فلك طهران.

كل ذلك جعل من بغداد أقرب ما تكون إلى شرفة مُطلّة على نار الصراع، أو غرفة تدار فيها حسابات الآخرين، ووسط كل ذلك يراقب العراقيون الحدث الكبير بقلق يعكس تنوع هوياتهم وانتماءاتهم، فمنهم من يناصر إيران عن قناعة مذهبية أو سياسية، ومنهم من يشمت بها سرّاً، ومن يحاول أن يجد لنفسه موقعاً خارج اصطفافات النار.

تبايناتهم هذه ليست جديدةً، بل هي امتداد لذلك التناقض الذي وصفه عالم الاجتماع الراحل علي الوردي، بأنه صراع دائم بين الموروث والحداثة، وبين الهوية الفردية والجماعية، وبين الوطن والعقيدة.

بين وسائل التواصل وتشكيل الوعي

في ظلّ الحرب الإقليمية، لم تعُد القنوات الفضائية المصدر الحصري لتشكيل المواقف لدى العراقيين، إذ استُبدلت بشكل كبير بمنصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإكس وتيليغرام، التي أصبحت ساحات بديلةً لصناعة الرأي العام، خاصةً بين الشباب، فلم تعُد هذه الوسائل تُستخدم لمتابعة الأخبار فحسب، بل لتحليلها والتعليق عليها والسخرية منها في بعض الأحيان.

ومع اتساع هامش الحرية في هذه الفضاءات، تتباين مصادر الاستقاء بين المتابعين: فالبعض يعتمد على الصحافيين المستقلين أو المدوّنين المحليين، وآخرون على الحسابات الحزبية أو القنوات الخارجية ذات الأجندات.

يقول حسين عايد (22 عاماً)، من الناصرية: "أعرف أنّ بعض الصفحات مدفوعة، لكنها على الأقل تقدّم معلومات أسرع من الإعلام الرسمي".

زهراء الخالدي، (29 عاماً)، من بغداد، ترى أنّ "المدوّنين أقرب إلى الواقع من الإعلام التقليدي، حتى لو كانوا منحازين، لأنّ القنوات تكرر الخطاب نفسه ولا تقدّم شيئاً جديداً".

لكن هذه السرعة كثيراً ما تأتي على حساب الدقة، إذ تغزو الفضاء الرقمي موجات من الأخبار المفبركة، والمحتوى العاطفي الموجه، خاصةً في أوقات التوتر، ويجد العراقي نفسه أحياناً في دوامة من التضليل، يحاول فيها أن يميّز الحقيقة من الدعاية، والخبر من التحشيد.

مثلاً، يرى رائد العبيدي، وهو موظف من الموصل، أنّ كثرة التحليل على السوشال ميديا تسبب الضياع، فالناس تصدق كل شيء خاصةً مع كثرة القنوات المجهولة والتسريبات الملفقة.

صراع الهويات قبل الصراع الإيراني الإسرائيلي

في العراق، لا يمكن الحديث عن الموقف الشعبي من الصراع الإيراني الإسرائيلي بمعزل عن الهويات الطائفية والسياسية التي تُشكّل وعي الأفراد والجماعات.

مثلاً، يبرز الارتباط الوجداني مع إيران داخل الطائفة الشيعية، وهذه النظرة تدفع كثيرين إلى عدّ الصراع مع إسرائيل امتداداً لمواجهة الظلم والاستعمار. يقول أحمد الملا (37 عاماً)، من ديالى: "الحرب ليست ضد إيران، بل ضد الشيعة الذين يرفضون التطبيع ويقفون مع فلسطين، ونحن كبلد ذي أغلبية شيعية يجب أن ندعم طهران بكل الأشكال".

رغم أن العراق ليس طرفاً مباشراً في الحرب الإيرانية الإسرائيلية، إلا أن موقعه الجغرافي وتداخل قواه السياسية والمسلحة يجعله عرضة دائمة لتبعاتها، ما يضع العراقيين في موقع حساس بين الخوف من التورط وفقدان السيادة، والتباين الكبير في المواقف تبعاً للهويات والانتماءات

لا يقتصر هذا الرأي على المواطنين الشيعة، فبعض السُنّة يعتقدون أيضاً بضرورة الدفاع عن إيران كواجب إسلامي، إذ يقول عبد الله صاحب النعيمي، من صلاح الدين: "هذه الحرب أزالت الحواجز بين الشيعة والسُنّة، فالعدوان الحاصل تقوده أكثر الدول عداءً للإسلام، ضد جار مُسلم بغض النظر عن الخلافات المذهبية بيننا وبينه".

فيما يروي قاسم، وهو سائق تاكسي من محافظة الموصل، أنه "برغم كرهي لإسرائيل، إلا أنني أكره إيران أكثر"، ويوضح أنّ "تنظيم داعش دمّر محافظته، ولكن الدمار الذي خلّفته القوى المقرّبة من طهران، بحجة تحريرها، كان أعنف وأشد قسوةً، وبسبب ذلك لا يرجو الخير لطهران".

في الجهة المقابلة، هناك من يحاول تحليل الواقع بصورة منطقية، ويعتقد أنّ البلد يعيش في وضع هشّ وعاجز عن تحمّل حرب جديدة أو عقوبات اقتصادية ناتجة عنها.

يعتقد سعد الربيعي (34 عاماً)، من بغداد، أنّ "إيران لا تحتاج منّا دعماً، فهي تمتلك من القوة ما يكفي، أما نحن فعلينا أن نفكر في مصير بلدنا"، وكذلك بالنسبة لفاضل حميد، وهو ناشط من النجف، إذ يُقرّ بدعمه لإيران ولكنه يتساءل: "شلون نكدر ندافع عنها، إذا إحنا أصلاً محتاجين مساعدة الغير في القضايا العسكرية والأمنية؟".

في المقابل، هناك أصوات ترى أنّ الحرب الحالية هي صراع نفوذ لا مبادئ، وأنّ إيران كما إسرائيل، تسعيان إلى تعزيز وجودهما على حساب استقرار الدول الضعيفة.

يؤكد محمد غانم، وهو أكاديمي يبلغ من العمر 40 عاماً، أنّ "من يروّجون لدفاع إيران عن القضايا الإسلامية، يتجاهلون ارتباط تدخلاتها بحسابات النفوذ، وأن لا شيء مجانياً في هذا العالم، لا في فلسطين ولا في العراق"، وكذلك بالنسبة لغادة مُزهر الزوبعي، من محافظة بغداد، التي تشير إلى أن "البعض يقول بواجب دفاعنا عن إيران بسبب ‘فزعتها’ للقضية الفلسطينية، ولكن ذلك لم يأتِ من فراغ، بل جاء من دوافع داخلية، فأنا كعراقية أحبّ فلسطين وأرجو تحريرها، ولكنني لا أحب إيران وسياستها".

العامل المناطقي بدوره يعمّق الفجوة، فالمناطق القريبة من إيران، أو تلك التي تتأثر بنفوذها المباشر، تظهر انقساماً داخلياً، ويردد بعض سكانها خطاب البيئة المحيطة بهم، بينما يعارضه آخرون بصمتٍ خشيةً من التبعات.

بين هموم الداخل وصراعات الخارج

بينما تشتعل المواجهة بين طهران وتل أبيب، لا يبدو الصراع حاضراً بالزخم نفسه في وجدان كل العراقيين، فبينما يراه البعض تهديداً إقليمياً خطيراً، يضعه كثيرون في مرتبة متأخرة في سلّم اهتماماتهم، مقارنةً بما يواجهونه من أزمات داخلية.

مصطفى العبد الله (31 عاماً)، من محافظة بابل، يختصر هذا الشعور قائلاً: "الصراع بين إيران وإسرائيل ليس أولويةً لنا، نحن نغرق في مشكلات داخلية، من الفساد وسوء الخدمات إلى البطالة، وهذا يمسّ حياتنا فعلاً".

أصبح الفضاء الرقمي، المصدر الأبرز لتشكيل الرأي العام في العراق، حيث يلجأ الشباب للتفاعل مع الأحداث الإقليمية. لكن هذا الانفتاح يترافق مع تدفق واسع للمعلومات المضللة والتسريبات.

كُثر يشاركون رامي رأيه، وينظرون إلى الحرب كصراع آخرين أكثر مما يرونه تهديداً مباشراً، لكنهم في الوقت ذاته متخوّفون من ارتداداته، خاصةً على الصعيد الاقتصادي؛ فامتداد الحرب قد يُربك صادرات النفط، ويُعرقل خطوط التجارة، ويثير الذعر في الأسواق المحلية.

رياض حافظ (27 عاماً)، من محافظة ديالى، وبرغم سكنه في محافظة محاذية لإيران، يعترف بأنّ الحرب ليست شاغله اليومي، لكنه يُقرّ بالقلق قائلاً: "أخشى فقط أن تضطرب الأسواق ويتأثر مصدر رزقي، فمتجري الصغير هو كل ما أملك".

آخرون يرون أنّ زجّ البلد في هذه الحرب يضعه تحت طائلة العقوبات الأمريكية، وربما يعيد إحياء سيناريو الحصار الاقتصادي الذي عاشه العراق منذ عام 1991 وحتى 2003.

"جرّبنا الحصار وما نريد نكرر التجربة"، تقول هالة أمير (47 عاماً)، من محافظة البصرة، وتضيف: "في التسعينيات، دفعت العوائل ثمن الحصار، والآن نخاف من أن تجرّنا صراعات الآخرين إلى المصير نفسه، هذه حرب ما لنا شغل بيها".

نساء كثيرات ينظرن إلى الصراع من زاوية الخوف على الأبناء، ورفض عسكرة المجتمع، والرغبة في التفرغ لمعركة الحياة لا معارك الآخرين. هذا القلق، يدفع كثيرين، خاصةً من فئة الشباب والمثقفين، إلى الاعتراض على محاولات زجّ العراق في القضايا الإقليمية، ويُطالبون بتحييد البلد عن صراعات المحاور، فهم يدركون خطورة الانخراط فيها.

جيل مختلف... نظرة مختلفة

وفي الوقت الذي لا تزال فيه بعض الفئات الشابة تُظهر حماسةً للخطاب العقائدي، خاصةً في البيئات الدينية أو المناطق التي تتأثر بشكل مباشر بالنفوذ الإيراني، إلا أنّ المزاج العام بين الشباب، في المدن الكبرى والجامعات على وجه الخصوص، بات يميل إلى رفض الاصطفافات الإقليمية، والمطالبة بأن يكون العراق دولةً ذات سيادة مستقلّة عن صراعات المحاور، ولكن معظمهم يحاولون التحفظ على آرائهم، وتجنّب الانخراط في السياسة وأحاديثها مع زملائهم.

في الحقيقة، جيل الشباب العراقي لم يعد يتعامل مع القضايا الإقليمية، ومنها الصراع الإيراني الإسرائيلي، بالطريقة نفسها التي اعتادتها الأجيال الأكبر، فبينما نشأ الجيل السابق في ظل خطاب أيديولوجي تعبوي مشبع بشعارات المقاومة والتحرير والعدو المشترك، يبدو الجيل الجديد أكثر تشكيكاً في تلك السرديات، وأقرب الى مقاربة براغماتية تحكمها أسئلة من نوع: "ما الذي يعنيه هذا الصراع لنا؟" و"هل يخدم مصالحنا كعراقيين؟".

الشباب الذين نشأوا في ظلّ الإنترنت، وعاشوا فترة الاحتجاجات الشعبية في عام 2019، لديهم مسافة نقدية متزايدة من الإعلام المؤدلج والخطابات الجاهزة، سواء تلك القادمة من إيران أو من خصومها، ويرون أنّ "الحديث عن الخطر الصهيوني لا يجب أن يكون مبرراً لتجاهل الفساد والبطالة وسوء الخدمات في الداخل". يقول محمد الجبوري (28 عاماً)، من بغداد، إنّ "البلد بحاجة حالياً إلى حرب داخلية ضد الفساد لا إلى حرب ضد إسرائيل التي ستأكل الأخضر واليابس إذا هاجمتنا، فإيران التي تمتلك منظومة صواريخ وقوة ردع، طالتها الهجمات، فكيف إذا هوجم العراق الذي لا يملك هذه ولا تلك".

خوف ولا مبالاة أو غضب؟

ليس من السهل قياس الموقف الشعبي العراقي من الصراع الإيراني الإسرائيلي دون التطرق إلى أبعاده النفسية والاجتماعية، فخلف التصريحات والانتماءات والمواقف السياسية، تكمن مشاعر متشابكة من الخوف، الحذر، اللامبالاة، وأحياناً الغضب، تعكس تجربة شعب أنهكته الحروب والتدخلات، ويرى في كل صراع خارجي تهديداً محتملاً لأمنه الهش.

الموقف الشعبي العراقي من الصراع الإيراني الإسرائيلي يتأرجح بين الحماسة العقائدية والدعم النقدي، والرفض الكامل لأي انخراط. بعض الشيعة والسنة يرون في دعم إيران دفاعاً عن القضية الإسلامية، بينما يعتبر آخرون تدخلاتها امتداداً لمصالح النفوذ، وليس لنصرة المظلومين أو المبادئ الدينية

تشير الباحثة النفسية، مها صالح، إلى أنّ "كثيرين من العراقيين يشعرون بالقلق من أن يتحول بلدهم مجدداً إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية، وهذا الخوف ليس مجرد افتراض، بل هو مبنيّ على تجربة قريبة".

وتضيف في حديثها إلى رصيف22، أنّ "شريحةً أخرى تعبت من التحليل والتفاعل والخوف، وباتت تتعامل مع هذا النوع من الصراعات بقدر كبير من اللامبالاة، أو ما يمكن تسميته باللاشعور السياسي، لأنهم لا يرون أي تأثير فعلي لرأيهم، ويشعرون بأنّ القرار السياسي في العراق لا يعكس إرادتهم، بل يُدار من خارج الحدود، وسواء انخرط العراق في الحرب أو لم ينخرط فسيّان بالنسبة لهم".

وتؤكد صالح، أنّ الفئة الأكثر وعياً وتفاعلاً، تعبّر عن غضب كامن أو معلن تجاه استمرار خطاب التعبئة والتحشيد الذي يُستخدم لتبرير الإهمال الداخلي أو القمع السياسي، سواء من قبل السلطات أو من قبل الفصائل المسلحة.

الخوف يلعب دوره أيضاً، فكثرٌ يركّزون على مسألة استهداف المنشآت النووية، ومنهم عبير النعيمي (24 عاماً)، التي تفصح عن خوفها من هذه المسألة، وتقول: "كل ما يهمني من هذه الحرب هو إبعاد العراق عن أي تأثير نووي، أما الباقي فلا يهمّني".

في المحصلة، فهم موقف العراقيين من الصراع الإيراني الإسرائيلي لا يمكن اختزاله في ثنائية التأييد أو الرفض، بل هو موقف مركّب تعكسه هويات متشابكة، مصالح محلية، ومخاوف إقليمية، تتداخل فيه الجغرافيا مع التاريخ، والدين مع السياسة والإعلام، ما يجعله مرآةً لصورة العراق نفسه: بلد موزّع بين مراكز القوى، لكنه لم يفقد صوته الخاص.

 




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image