مع استعداد العراق لانتخابات برلمانية جديدة لتشكيل مجلس النواب العراقي في دورته السادسة المزمع إطلاقها في شهر أيلول/ سبتمبر 2025، يتجلّى الفساد السياسي في أقوى صوره، مهدداً نزاهة العملية الديمقراطية، الأمر الذي يؤدّي إلى انعدام تكافؤ الفرص بين المستقلّين من المرشّحين الجدد ومرشّحي الأحزاب المستحوذة على مقاعد مجلس النواب في كل دورة انتخابية، وينتهي غالباً بانسحاب مرشّحين مستقلين وجهات سياسية مدنية وعزوف الكثير من الناخبين والتحاقهم بركب "المقاطعين".
في هذا التقرير، نُسلّط الضوء على أبرز أشكال الفساد التي تهدّد نزاهة الانتخابات البرلمانية العراقية الوشيكة، مع الإضاءة على نحو خاص على كيفية توظيف المال السياسي واستغلال المناصب الحكومية، لتعزيز مرشّحين دون غيرهم، بغضّ النظر عن معايير الكفاءة وإرادة الناخب العراقي.
فساد سياسي
واحدة من المرشحات المستقلّات -فضّلت عدم ذكر اسمها خشية التعرّض لعنفٍ انتخابي- تتحدث إلى رصيف22، عمّا تصفه بأنه "استغلال للنفوذ وشراء للأصوات".
تشرح المرشّحة المستقلة، أنّ "جهات حزبيةً وسياسيةً تستغلّ المال العام والمناصب الحكومية في الدعاية الانتخابية على نطاق واسع، الأمر الذي يحوّل الانتخابات من منافسة نزيهة إلى ساحة لاستغلال النفوذ والمال السياسي لشراء الولاءات والأصوات، ولا سيّما أنه لا يوجد ما يمنع السياسيين والمسؤولين التنفيذيين من الترشّح، كونهم الحكام وأصحاب النفوذ، ما يؤدّي إلى توجيه المشاريع الخدميّة ورواتب الرعاية الاجتماعية وتوزيع قطع الأراضي والتعيينات، لصالح مناطقهم الانتخابية تزامناً مع الحملات الدعائية".
كيف تستغلّ جهات سياسية وحزبية المال العام والمناصب الحكومية في العراق لإعادة إنتاج نفسها وطمس إرادة الناخب العراقي؟ وهل من ضمانات لـ"نزاهة العملية الانتخابية"؟
وبحسب المتحدثة، فقد "خصّصت الأحزاب المتنفذة ما يصل إلى مليار دينار عراقي (أزيد من 760 ألف دولار)، لكل مرشح، معظمها أموال غير معروفة المصدر يُرجّح أنها أموال عامة تُصرف على شكل مشاريع وهمية أو مساعدات انتخابية، وتشمل توزيع مواد غذائية ومبالغ نقدية وإكساء الشوارع (تبليطها)، حتى لو كانت بجودة رديئة، كما يقوم مسؤولون حكوميون ورؤساء دوائر خدمية، ممن ينوون الترشّح أو يدعمون مرشّحين، بإصدار أوامر بتبليط شوارع أو فتح قنوات ريّ أو افتتاح مدارس، مروّجين لأنفسهم على أنهم أصحاب فضل برغم أنّ الموارد المستخدمة هي مواد حكومية مخصصة لخدمة الشعب دون منّة أو فضل لأحد: "استغلال الموارد الحكومية وأدواتها لخدمة مشروع انتخابي شخصي أو حزبي، هو فساد واضح"، تضيف.
معالجة قانونية لم تُمرّر
التمكين الحكومي المنحاز واستغلال السلطة والنفوذ، عاملان يسمحان بالترشيح المضاعف وجمع الأصوات، كما أنّ نصّ التعديل المقترح لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والأقضية رقم (12) لسنة 2018، الذي لم يُمرّر خلال الفصل التشريعي الأول من الدورة الحالية لمجلس النواب (الدورة الخامسة الحالية)، كان يتضمن أحكاماً تكافح استغلال السلطة والنفوذ في الانتخابات وتوفّر فرصاً عادلةً للقوى الناشئة للتمثيل النيابي، بحسب تصريحات النائب المستقل رائد المالكي، عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي.
وبحسب المقترح الذي قدّمه المالكي، تُعدّ المحافظة دائرةً انتخابيةً واحدةً، باستثناء محافظات بغداد والبصرة والموصل، التي ستُقسَّم كل منها إلى دائرتين انتخابيتين، ويعدّ القانون الحالي المحافظة دائرةً واحدةً، بعد أن أقرَّ القانون الانتخابي للدورة الحالية نظام الدوائر الانتخابية المتعددة في كل محافظة.
ويتضمن التعديل مقترحاً بتخصيص 30% من مقاعد كل دائرة للمرشّحين الذين يتحصّلون على أكبر عدد من الأصوات ممن تجاوزوا نسبة 1.5%، وتخصيص 70% من المقاعد لمرشّحي القوائم.
كما يشمل المقترح أيضاً فرض استقالة تلقائية "حكمية" لأيّ نائب في البرلمان يترشّح للانتخابات المحلية، أو لأيّ محافظ أو عضو في مجلس المحافظة يترشّح للانتخابات البرلمانية، لمنع ازدواجية المناصب واستغلال المواقع الحالية لأغراض انتخابية.

تحايل واستغلال
في العراق، غالباً ما تكون أدلّة الفساد السياسي والانتخابي غير موثّقة لكنها واضحة، يقول الباحث والمراقب الإعلامي في الانتخابات، أحمد الشيباني، منبّهاً إلى أنّ هذه "الانتخابات هي انتخابات المال والنفوذ"، حيث تذهب الأصوات الأعلى إلى مرشّحي الأحزاب وأصحاب المال والنفوذ، و"برغم أنّ جميع الأحزاب الحاكمة فشلت في تقديم الخدمات للمواطن مع ارتفاع مستويات الفساد، لكنها تعيد الترشيح في كل مرة وتنجح في ذلك، الأمر الذي يؤكد تحايلها على المواطنين واستغلال موارد الدولة وحاجات المواطنين لحصد الأصوات".
ووفق الشيباني أيضاً، "نجحت الأحزاب في تأسيس إمبراطورية جماهيرية تُسمّى بـ'القواعد الثابتة' أو 'قواعد الطاعة'، وهي قواعد جماهيرية تأتمر بأوامر القيادات الحزبية وتخضع لتوجيهاتها في اختيار المرشّحين حتى لو كانوا الأسوأ بين المرشّحين والمرشّحات.
وبالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات، تعالت بعض التصريحات الإعلامية من قبل مسؤولين مثل رئيس هيئة النزاهة الاتحادية القاضي محمد علي اللامي، الذي قال إنّ الهيئة لن تتهاون في التصدّي لمحاولات استغلال المال العام في الدعاية الانتخابية، محذّراً من استغلال المناصب لأغراض انتخابية، وداعياً مفوضية الانتخابات إلى إشعار رؤساء الأحزاب بضرورة تقديم إقرارات الذمة المالية ومتابعة مصادر تمويل الأحزاب.
في آذار/ مارس 2025، أعلن زعيم التيار الوطني الشيعي مقتدى الصدر، اعتزامه مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، واصفاً العملية الانتخابية بأنها "عرجاء، فاسدة، وطائفية"، بسبب استشراء الفساد.

كما صرّح النائب باسم خشان، بأنّ القوى المتنفذة تستغل موارد الدولة وأموالها في الحملات الدعائية، مستنكراً وجود "إنفاق مالي كبير دون رقابة"، وأنّ المال السياسي الذي تعمل على صرفه بعض الكتل والأحزاب في حملاتها الانتخابية، جاء نتيجة الصفقات والسرقات.
وفي الأول من أيار/ مايو 2025، أعلنت الهيئة القيادية في تيار الخط الوطني، انسحاب التيار من العملية الانتخابية حيث ورد في بيان رسمي أنه "لم يلمس وجود رؤية إصلاحية حقيقية أو برامج انتخابية شجاعة مع استمرار عدد كبير من الأحزاب في الاحتفاظ بأذرعها المسلّحة"، ما يحوّل الانتخابات إلى استعراض للقوة لا لصراع البرامج، فضلاً عن أنّ فرض قانون انتخابي غير عادل لا يحقّق تكافؤ الفرص، ويُقصي القوى الجديدة والمستقلة من التأثير الفعلي.
يقول أثير: "من أهم أوجه الفساد الانتخابي المتشعّبة في العراق، شراء الأصوات بالمال أو الخدمات واستغلال مؤسّسات الدولة وتسخير إمكانياتها، ناهيك عن التلاعب في النتائج في أماكن متفرّقة باستخدام الابتزاز والتخويف، خصوصاً في المناطق ذات البعد العشائري أو المناطق التي تنشط فيها قوى مسلحة"
كذلك، أشار التيار في بيانه، إلى أنّ استغلال موارد الدولة من قبل مسؤولين حاليين في الترويج الانتخابي، يُفقد الانتخابات شرط العدالة، بجانب غياب الضمانات الكافية لنزاهة العملية الانتخابية، في ظلّ ضعف المفوضية العليا للانتخابات وشبهات انعدام الاستقلالية في بعض دوائرها، وغياب الرقابة الدولية الملزِمة إلى جانب استمرار استخدام المال السياسي الفاسد لشراء الذمم والولاءات، وسط صمت رسمي يمنح الفساد شرعيةً ضمنية.
ويتجلّى ذلك كله من خلال المكاتب الفارهة التي استأجرتها الأحزاب كمقارّ في أحياء مترفة في بعض المحافظات، والرواتب العالية لتوظيف عدد من المواطنين، بالإضافة إلى تسخير الجهود الخدميّة الحكومية لخدمة مناطق جمهور بعض المرشّحين، ويتحدد ذلك حسب قوة الحزب الداعم والجهة المتنفذة سياسياً التي تدعم المرشّح حيث أغلب الأحزاب المنافسة في الانتخابات استأجرت مكاتب انتخابيةً ووظّفت فرقاً بشريةً لخدمة مرشّحيها.
سلطة ومال ونفوذ
من جهته، يقول الباحث السياسي عبد الرزاق أثير، لرصيف22، إنّ الحديث عن سلطة المال ومال السلطة في تشكيل النفوذ الانتخابي، ليس أمراً جديداً كونه التوصيف الذي اعتدنا استخدامه خلال التجارب المتكرّرة التي لم يفتأ يستخدمها المال السياسي في العملية الانتخابية.
ويضيف: "من المؤسف أن يُستبدَل الصوت الحر بمقابل مادي أو خدمي بل حتى أن هناك باباً جديداً في استثمار المال يُسمّى الاستثمار السياسي ويختلف عن مفهومه المعتاد كونه يُمثّل تشويهاً لجوهر الديمقراطية، ومن أهم أوجه الفساد الانتخابي المتشعّبة في العراق، شراء الأصوات بالمال أو الخدمات واستغلال مؤسّسات الدولة وتسخير إمكانياتها، ناهيك عن التلاعب في النتائج في أماكن متفرّقة باستخدام الابتزاز والتخويف، خصوصاً في المناطق ذات البعد العشائري أو المناطق التي تنشط فيها قوى مسلّحة".
ويعتقد الباحث، أنّ مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهة والمنظمات غير الحكومية التي تشارك في مراقبة العملية الانتخابية، ليست رادعاً كافياً للفساد، كون دورها يقتصر على "رقابة شكلية" دون أدوات حقيقية للتنفيذ حيث لا توجد قوة ردع قانونية ولا ضمانات حماية للشهود والمبلِّغِين، مشيراً إلى أنّ الحدّ من الفساد الانتخابي لا يمكن أن يكون إلا بتشريع قانون واضح في عملية التمويل الانتخابي يُلزم المرشّح بكشف الذمة المالية وبيان مصادر تمويله وإنفاقه، وكذلك حظر استخدام موارد الدولة في هذا الشأن.
أيضاً، لا بدّ أن تكون للإعلام الحرّ والمستقل ومنظمات المجتمع المدني، يد عليا في الرقابة، وأن تلعب دورها كوسيلة لبيان الحقيقة والشفافية بشكل أوسع، كما أن ترشّح أحزاب السلطة من دون قيود على إمكانياتها في استخدام السلطة والنفوذ يمنحها الفرصة حتماً لإعادة إنتاج نفسها، وفق أثير.
جدير بالذكر أنّ المتحدّثة باسم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، جمانة الغلاي، أكدت في تصريح صحافي، أنّ المفوضية جهة فنية تحوِّل القانون إلى أنظمة وإجراءات ولا علاقة لها بمراقبة استخدام المال العام، لأنّ هذه المهمة مسؤولية مجلس النواب العراقي.
كما شددت الغلاي، على أنّ فرق المفوضية تبدأ بمتابعة المرشّحين الذين يستخدمون المال العام في العملية الانتخابية ومحاسبتهم، بعد المصادقة على قوائم المرشّحين عندما تنطلق حملاتهم الدعائية وتُتخذ بحق المخالفين الإجراءات القانونية، خاصّةً أنّ استخدام المال العام في الدعاية الانتخابية محظور بموجب القانون.
انعكاسات خطيرة
إلى ذلك، يشير الشيباني، إلى أنّ أغلب المرشّحين الذين يحصلون على مقاعدهم باستغلال المال السياسي يفتقرون إلى الكفاءة والخبرة وهؤلاء يتعاملون مع المناصب كـ"غنائم سياسية لا كمسؤولية وطنية، ما يُسفر عن إدارة فاشلة للوزارات والدوائر الخدمية، وتراجع في مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين".
"من يشتري الأصوات من أجل الفوز يسعَ إلى استرجاع أمواله من ميزانيات الدولة عبر صفقات فساد أو تضخيم عقود، وحينها ستصبح المشاريع الحكومية وسيلةً للنهب والمنافع الشخصية والحزبية، وهذا ما نجده اليوم شاخصاً متجسّداً في مشاريع وهمية أو متعثرة، وخدمات ضعيفة برغم الأموال الضخمة المخصّصة"، يحذّر الشيباني
وينبّه في الوقت نفسه، إلى أن تلك الانعكاسات ستؤثّر سلباً على اختيار المشاريع الخدميّة وفقاً للمكاسب السياسية بعيداً عن الأولويات والحاجة الفعلية، ما يتسبّب في فجوة كبيرة في توزيع الخدمات، وحرمان مناطق كاملة من أبسط حقوقها، وهذا كله قد يُسفر عن استمرار نهب المال العام، فـ"من يشتري الأصوات من أجل الفوز يسعَ إلى استرجاع أمواله من ميزانيات الدولة عبر صفقات فساد أو تضخيم عقود، وحينها ستصبح المشاريع الحكومية وسيلةً للنهب والمنافع الشخصية والحزبية، وهذا ما نجده اليوم شاخصاً متجسّداً في مشاريع وهمية أو متعثرة، وخدمات ضعيفة برغم الأموال الضخمة المخصّصة، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان الثقة بالانتخابات والعملية السياسية والمؤسسات الخدمية لأنّ المواطن محروم من الحصول على استحقاقاته من الخدمات ما دام غير منتمٍ إلى حزب قوي، ولهذا نشهد في كل انتخابات نسبةً عاليةً من المقاطعين للانتخابات لاعتقاد هؤلاء أنّ أصواتهم لن تغيّر شيئاً فيما الفاسدون باقون ويتمدّدون في مناصبهم".
ويعوّل الباحث السياسي أثير، على زيادة وعي الجمهور والقوى الشبابية الجديدة، في تغيير المعادلة بالضد من أحزاب السلطة، برغم صعوبة المهمة لأن الديمقراطية الشكلية والمحاصصة المغلفة بصناديق الاقتراع وهو ما يحصل الآن، لا يمكن أن تنتجا سلطةً سويةً وحكماً رشيداً، بالإضافة إلى ضرورة وجود إرادة سياسية حقيقية ودور حاسم للإعلام والمجتمع المدني في فضح التجاوزات ودعم نزاهة العملية الانتخابية.
من جانبه، يدعو الشيباني، إلى ضرورة تعديل قانون الانتخابات بما يمنع ترشيح مسؤولين في الحكومة أو نواب حاليين وكذلك وضع حدّ للنواب المخضرمين في مجلس النواب الذين شغلوا مقاعد نيابيةً لأربع أو خمس دورات نيابية متتالية، برغم فشلهم في تمثيل المواطنين وتلبية حاجاتهم، مشدّداً على ضرورة تفعيل جهاز رقابي مستقلّ لمراقبة الإنفاق الانتخابي ونشر بيانات مالية دقيقة لكل حملة انتخابية وحظر استخدام صور المسؤولين في أثناء تنفيذ المشاريع الحكومية خلال فترة الانتخابات وتفعيل العقوبات وتطبيقها على من يثبت استغلاله المال العام، والإفصاح عن ذلك عبر وسائل الإعلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tayma shreet -
منذ 50 دقيقةGreat !
Mohammed Alamir -
منذ يوم❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد