قد تغيّر عملية "الأسد الصاعد"، أو "حرب الـ12 يوماً" كما أسماها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، موازين القوى العسكرية في الشرق الأوسط بشكل أكبر مما فعلته حرب الخليج عام 1991، حسب الصحافي بول إيدون، وهو صحافي مستقل يركّز على شؤون الشرق الأوسط. يتماهى معه العقيد تيموثي مالارد، وهو عقيد سابق حائز على ماجستير في القيادة الإستراتيجية وإستراتيجي معتمد في الجيش الأمريكي وأكاديمي ومؤلف، قوله: "إنّ ميزان القوى في جميع أنحاء الشرق الأوسط يتغير بشكل حاسم. وهي حقيقة إستراتيجية ضاعت بين العناوين الرئيسية للهجمات التي شنّتها كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة على القدرات العسكرية والنووية لإيران".
بدورها، تشير صحيفة "ديلي صباح" التركية، إلى "انهيار النظام الإقليمي الهشّ والمجزّأ أساساً، جرّاء هذا الصراع، بجانب إحداثه انقساماً إقليمياً متنامياً تطال تداعياته أمن تركيا القومي واستقرار الحدود وميزان القوى الإقليمية، حيث ترى أنقرة أنّ الموقف الإستراتيجي الإسرائيلي يتجاوز سياسة الردع إلى فرض هيمنة عسكرية إقليمية، عبر استخدام تحالفها مع الولايات المتحدة كمضاعف للقوة. وهو ما يقوّض آمالها في الدبلوماسية الإقليمية، بعد أن باتت الحرب طبيعيةً، وتكتيكاً متكرراً لاكتساب ميزة جيو-سياسية، لا ملاذاً أخيراً".
من جانبها، كررت "سكاي نيوز" (المحطة الرسمية لأبو ظبي التي سبق أن طبّعت علاقاتها مع إسرائيل)، حديثها عن تعجيل الحرب بين إيران وإسرائيل في ولادة "شرق أوسط جديد يتّسم بتحالفات أكثر علنيةً وتطبيع أكثر رسوخاً". لكنها رأت في الوقت نفسه أنه "سيظلّ شرقاً ناقصاً إذا لم يتأسس على رؤية عادلة وشاملة ترعى الأمن الإسرائيلي وتحفظ الحقوق المشروعة للفلسطينيين، نظراً إلى كون القضية الفلسطينية مفتاح الاستقرار الإقليمي".
يتكرّر الحديث عن أن حرب الـ12 يوماً بين إيران وإسرائيل تعجل بولادة "شرق أوسط جديد يتّسم بتحالفات أكثر علنيةً وتطبيع أكثر رسوخاً". فما مدى صحة ذلك؟
يؤيد ذلك الباحث والمحلل السياسي المختص بقضايا الشرق الأوسط، عباس عقيل، إذ يرى "صعوبةً في استقرار المنطقة دون حلّ القضية الفلسطينية، وفق مبدأ الدولتين أو وفق مبدأ دولة واحدة تضمّ الفلسطينيين والإسرائيليين وتساوي بينهم في الحقوق والواجبات، والذي أُهمل سابقاً لكن يتبنّاه البعض حالياً نتيجةً لسياسات إسرائيل الاستيطانية".
يضيف عباس لرصيف22: "من الواضح جداً تأثير الصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل على موازين القوى الإقليمية، ما يمكن معه التكهن بانهيار التمثل الإسلامي لفكرة المقاومة، التي تزعمتها إيران بخصوص قضية فلسطين، على غرار ما حدث سابقاً للنسخة القومية التي قادتها مصر وسوريا. النموذج الإسلامي للمقاومة المنقاد إيرانياً في طور الفشل، ونفوذ طهران الإقليمي تراجع كثيراً. لكن هل يمكن استعادة روح سنة 1991، التي شهدت انطلاق مؤتمر مدريد للسلام بعد حرب الخليج؟".
يتساءل ويجيب: "إسرائيل غير مستعدة لقبول فكرة حلّ الدولتين ومؤتمر على غرار مؤتمر مدريد، في ظل تفوقها العسكري وقدرتها على الإطاحة بمعظم أعدائها". ويضيف: "تشهد المنطقة أفول هذا الصراع لصالح إسرائيل والولايات المتحدة مع بروز غير مؤكد لنموذج إقليمي تنموي تقوده دول الخليج، لكنه غير مرتبط بالغرب أو بإسرائيل بالضرورة. وهذا النموذج، إن حصل، يشكل تطوراً مهماً ومفيداً جداً، لكونه يعزز التوجهات التنموية الإقليمية بعيداً عن الصراعات المسلحة، وتالياً قد يفضي إلى حلول سلمية تفاوضية بخصوص فلسطين".
إسرائيل قوة مهيمنة أو وكيل؟
"عبر ضرباتها الدقيقة القاصمة لإيران، برهنت تل أبيب علناً على امتلاكها القدرة العسكرية والإرادة الإستراتيجية لاستخدام قوتها في شتى أنحاء المنطقة لدعم أهداف أمنها القومي. ويمكن اعتبارها، ولأول مرة منذ تأسيسها عام 1948، قوةً قوميةً مهيمنةً داخل المنطقة وعبرها، وبقدرات إقليمية قد تفوق حليفتها الولايات المتحدة"، حسب تيموثي مالارد، الذي يرى أنّ "هذه القدرة والإرادة تُعززان تصوّر الدول المنافسة بأن إسرائيل ستستخدم قوتها العسكرية بالتناغم مع أدوات قوتها الأخرى، الدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية (...)، لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، ولا سيّما مع الواقع الإستراتيجي لتراجع نفوذ إيران".
انحسار أو انهيار حلقات "محور المقاومة" بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وانكشاف إيران الإستراتيجي أمام إسرائيل، والذي يمنح الأخيرة حرية العمل في سماء إيران متى تشاء دون التوقف عن استهدافها طالما شعرت بوجود مخاطر تتشكل في الجغرافيا الإيرانية، حوّلا إسرائيل تدريجياً إلى قوة إقليمية مهيمنة، حسب مدير وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات، الدكتور محمد الزغول.
ويشير الزغول إلى أنّ "هذه الهيمنة ستجابَه بممانعة أو رفض إقليمي وفق نسق تعاوني مشترك عربي-تركي، وربما إيراني أيضاً، يؤدي في النهاية إلى زعزعة استقرارها، لأنّ استقرارها في العقل السياسي الإسرائيلي سيخلق حالة صراع مزمن".
يردف الزغول لرصيف22: "عادةً ما تؤدي الهيمنة إلى حالة من الاستقرار، لكن في الحالة الإسرائيلية الهيمنة لن تؤدي إلى ذلك، نتيجةً للرفض الشعبي لإسرائيل، كونها قوة احتلال، بجانب الاختلاف الديني والثقافي والرفض الإنساني أيضاً. وعليه، تفتقر تل أبيب إلى القوة الناعمة، ولن يكون بمقدورها بسط هيمنتها إلا عبر القوة الخشنة، ما سيجعلها شبيهةً بدول القرون الوسطى؛ تقوم على الإكراه والاستخدام المتكرر للقوة العسكرية، وهو ما يدعو تالياً للتنبؤ بعدم استقرار إقليمي مزمن".
"تشهد المنطقة أفول هذا الصراع لصالح إسرائيل والولايات المتحدة مع بروز غير مؤكد لنموذج إقليمي تنموي تقوده دول الخليج، لكنه غير مرتبط بالغرب أو بإسرائيل بالضرورة"
في السياق نفسه، يقول الباحث في العلاقات الدولية والمختص بالشؤون الأوراسية، أحمد دهشان: "مع الإقرار بالتغيّر الكبير في موازين القوى الإقليمية، إلا أنّ هذه الموازين لم تستقرّ بعد، و"للتأكد من ذلك، عليك العودة إلى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما قبله". ويضيف دهشان لرصيف22: "حينها كانت إسرائيل تروّج لنفسها كقوة عسكرية وأمنية وتكنولوجية متفوقة، وعبر ذلك تسعى إلى استجرار تطبيع دول عربية معها. فجأةً انهار كل شيء، بعد تمكّن حركة المقاومة الفلسطينية حماس، المحاصرة منذ 15 عاماً، من اختراق التحصينات الأمنية والتكنولوجية الإسرائيلية في عملية طوفان الأقصى".
عبر تزويد إسرائيل بالأسلحة المطلوبة والمعلومات الاستخباراتية، مع مشاركتها لاحقاً في هجماتها على إيران، أكدت واشنطن فعلياً أنّ إسرائيل هي حليفها الإقليمي الوحيد، نظراً إلى غياب هذا السلوك حين تعرّضت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية لهجمات على منشآتهما النفطية وموانئهما عام 2019، ناهيك عن وقوفها حائلاً دون هزيمة الحوثيين، في الحديدة على الأقل، على أيدي قوات التحالف العربي بقيادة المملكة سابقاً، ما يوضح بجلاء لا لبس فيه أنّ إسرائيل هي حليف أمريكا الوحيد في الشرق الأوسط، حسب دهشان.
وبرأيه، "تعود هذه العلاقة التحالفية إلى حرب حزيران/ يونيو 1967، إلا أنها لم تكن بهذه الفجاجة والوضوح اللذين نشاهدهما اليوم، وهو ما ينذر بعصر من السيادة الإسرائيلية كوكيل حصري ووحيد أمنياً وعسرياً لواشنطن، وقد ينعكس ذلك على الترتيبات الأمنية والسياسية لدول المنطقة، وتالياً نحن أمام مستقبل يحكمه الصراع، مع غياب الاستقرار وقابلية التنبؤ".
في المقابل، يرى محلل الشؤون الشرق أوسطية المقيم في واشنطن، عبد الله الحايك، خلال حديثه إلى رصيف22، أنّ "واشنطن تراهن على دور لمحور الاعتدال العربي، السعودية-الأردن-مصر-الإمارات-قطر، كحاضنة للاستقرار الإقليمي، وضابط لإيقاع مرحلة ما بعد الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل، منبّهاً إلى زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج دون المرور بإسرائيل، وتوقيعه صفقات بتريليونات الدولارات مع هذه الدول، ثم إشادته العلنية بدور قطر في احتواء التصعيد ومنع الانفجار، وجميعها مؤشرات تؤكد أنّ البوصلة الأمريكية لم تعد موجهةً حصرياً نحو تل أبيب، كما كانت في العقود السابقة، بل نحو شراكة إستراتيجية أوسع مع الدول العربية التي أثبتت كفاءتها في إدارة الأزمات".
وفي هذا السياق، يشير موقع "جورست نيوز" إلى "تطور دور دول الخليج العربي، حيث أصبحوا لاعبين أمنيين إقليميين نشطين، ويعملون كشركاء عمليين ضمن الهيكل الأمني الإقليمي الآخذ في التوسع، فيما تتراجع واشنطن عن الهيمنة التشغيلية للخطوط الأمامية مع احتفاظها بالرقابة الإستراتيجية الشاملة، عبر الإدارة غير المباشرة".
السلام بالقوّة
في قراءته للواقع، يتناول الموقع نفسه "كيف تراجعت القدرات الهجومية الإقليمية لإيران نحو الدفاع الوطني، بعد عجزها عن الحفاظ على ردع خارجي موثوق عبر وكلائها الإقليميين. وفي المقابل، عززت تركيا نفوذها الإستراتيجي في سوريا والعراق والقوقاز وشرق المتوسط، بجانب نهج خاص من الدبلوماسية الأمنية الإقليمية، يقوم على استخدام التيارات الإسلامية كوسيلة ضغط، ما جعلها منافساً جيو-سياسياً وأيديولوجياً طويل الأمد لإسرائيل، وما قد يضاعف التحديات أمام نظام أمني إسرائيلي ناشئ. لذا، تعمل تل أبيب على ترسيخ نظام تحالف دائم يحدّ من قدرة أنقرة على تعطيل دورها القيادي في هذا النظام الناشئ".
ينوّه الحايك ببروز ما أسماه "الخيار العربي الثالث (أو دول الاعتدال العربي)، كقوة مستقلة تمسك بخيوط اللعبة دون الارتهان لإيران أو تركيا أو لإسرائيل". ماذا يقصد؟
وتتوافق التطورات الأخيرة مع رؤية الحكومة الإسرائيلية القائمة على قدرة تل أبيب على إعادة تشكيل ميزان القوى في الإقليم والظهور كلاعب وحيد ومهيمن، حسب مركز مالكوم كير-كارنيغي، حيث ترى تل أبيب في القوة العسكرية والأمنية القادرة على تحييد أعدائها وحدها أو بمساعدة واشنطن، سبيلاً وحيداً إلى تحقيق مفهومها للأمن. وعليه، تدفع نحو "شرق أوسط جديد" تفرض فيه رؤيتها لـ"السلام بالقوة"، من خلال استغلال هذه الهيمنة لإبادة الحقوق الفلسطينية كاملةً، عبر الاستيطان والتهجير، مع الدفع نحو تطبيع العلاقات مع الدول العربية دون الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، بجانب تجاهل مبدأ "الأرض مقابل السلام" ومبادئ الأمن الجماعي، وتفكيك القدرات النووية والعسكرية لإيران.
برأي الزغول، "قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت إسرائيل دولةً متفوقةً إقليمياً، لكنها غير قادرة على الهيمنة أو غير راغبة فيها. لكن بعد هذا التاريخ بدأت تظهر ملامح رغبة إسرائيلية في الهيمنة وفرض قواعد لنظام إقليمي، خاصةً بعد مؤشرات تراجع القوة الإقليمية الإيرانية المنافسة لإسرائيل". ويضيف: "كانت إيران القوة الإقليمية الوحيدة التي تمتلك مشروعاً واضحاً ومتكامل الأركان للهيمنة الإقليمية، فيما لم يعدُ الحديث عن العثمانية الجديدة الخاص بتركيا حدود خيال لدى بعض القوة السياسية التركية، دون معالم واقعية واضحة، بجانب انكفاء الدور المصري، وتركيز الاهتمام السعودي على الجانب التنموي والاقتصادي، بعيداً عن التجاذبات والتنافس السياسي".
وفي سياق متصل، يرى مالارد أنّ "عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تشكّل نوعاً من التحوّط ضد طموحاتها الإقليمية، عبر نفوذها العسكري والدبلوماسي المتنامي. لذا، سيقتصر نفوذها الإقليمي في هذه المرحلة على سوريا، وهو نفوذٌ تُضعفه فعلياً الحدود البرية المشتركة بين البلدين، نظراً إلى افتقادها القدرات العسكرية والاستخباراتية التي تمتلكها إسرائيل. كما أنّ النهج السعودي القائم على الاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي وتحسين الحوكمة وتطوير البنية التحتية، يفقدها الرغبة في منافسة إسرائيل على الهيمنة الإقليمية".
كذلك، ينوّه الحايك ببروز ما أسماه "الخيار العربي الثالث (أو دول الاعتدال العربي)، كقوة مستقلة تمسك بخيوط اللعبة دون الارتهان لإيران أو تركيا أو لإسرائيل"، معتقداً بتوجه ميزان القوى الإقليمي نحو التصلب لصالح هذا المعسكر مستقبلاً، ولا سيّما في حال نجاحه في البناء على إنجازاته السياسية والاقتصادية والأمنية خلال العقد الأخير، حيث تحرّكت دوله ضمن محور موحد، وفرضت نفسها كطرف مستقل لا يذوب في فلك واشنطن، ولا في لعبة المحاور الإقليمية. إلا أنّ هذا التصلب ليس نهائياً أو محصّناً من التصدّع؛ فالعامل الحاسم سيكون قدرة هذه الدول على إنتاج مشروع إقليمي واضح المعالم لا يقتصر على إدارة الأزمات، بل يضع أسس منظومة عربية جامعة قادرة على ردع التهديدات وبناء السلام في آن واحد.
لكن إن أخفقت هذه الدول في بلورة هذا المشروع، أو فشلت في مواجهة التحديات الداخلية، فإنّ خطر الانهيار والانقلاب يبقى قائماً، وقد يظهر فجأةً إذا ما اندلعت حرب إقليمية جديدة، أو تجددت الفوضى في العراق أو لبنان، أو بعودة إيران إلى سياسة التصعيد النووي بدعم روسي أو صيني"، حسب الحايك الذي يختم قائلاً: "لكن حتى إشعار آخر، اللحظة التاريخية تميل بوضوح لصالح العالم العربي المستقر، وليس لإيران المتراجعة، أو لإسرائيل المعزولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.