بعد حرب طهران وتل أبيب... هل تقترب كردستان الإيرانية من لحظتها الفاصلة؟

بعد حرب طهران وتل أبيب... هل تقترب كردستان الإيرانية من لحظتها الفاصلة؟

في ظل التصعيد العسكري الذي تصاعد منتصف حزيران/ يونيو الجاري بين إسرائيل وإيران، تبرز قضية القوميات غير الفارسية داخل إيران كإحدى الحلقات المضمرة في مشهد الصراع الإقليمي. 

ومن بين هذه القوميات، يبرز الأكراد بوصفهم الفئة الأكثر تنظيماً، والأكثر اشتباكاً مع سلطة المركز في النظام الإيراني، سواء من حيث الامتداد الجغرافي الحساس أو من حيث البنية التنظيمية التاريخية الممتدة عبر الحدود.

برغم أنّ وقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه مساء الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو الجاري من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بين إيران وإسرائيل، أعاد تثبيت معادلات الردع التقليدي، إلا أنّ ما فُتح خلال التصعيد من أسئلة حول مستقبل القوميات الإيرانية، ولا سيّما الأكراد، لم يُقفل بعد.

لكن، هل يُمكن لتداعيات هذا التصعيد أن تشكّل فرصةً إستراتيجيةً للأكراد في إيران لإعادة تموضعهم السياسي ضمن خريطة التوازنات الإقليمية، أو أنها مجرّد تحوّل عابر لن يُفضي إلى أي مكاسب حقيقية، نظراً إلى تعقيدات السياق الإيراني، وطبيعة التفاعلات الإقليمية التي غالباً ما تُقصي الفاعلين الهامشيين من حساباتها الفعلية؟

منذ الثالث عشر من شهر حزيران/ يونيو الجاري، ظهر تطوّر لافت في المشهد السياسي الداخلي الإيراني، عندما أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (PDKI)، دعوته الصريحة للإطاحة التامة بالجمهورية الإسلامية، معتبراً أنّ بقاءها هو المصدر الأول لكل أزمات إيران، سواء كانت داخليةً أو إقليميةً، بينما أعلن حزب الحياة الحرة لكردستان (PJAK)، رفضه توصيف ما يجري بأنه "حرب تحريرية"، أو حتى تصويرها كصراع بين الخير والشرّ، وذهب إلى اعتبارها "صراعاً على الهيمنة بين أنظمة سلطوية"، وأنّ الشعب الإيراني ليس طرفاً فيها، بل ضحية جديدة تُساق نحو الألم والخراب.

هذه البيانات وإن أبدت في ظاهرها موقفاً سياسياً معارضاً تقليدياً، إلا أنّها تشي بتحوّل نوعي في موقع الأكراد الإيرانيين ضمن خرائط الصراع الإقليمي، وتعيد طرح سؤال مركزي: هل باتت التحركات الكردية في إيران عاملاً فاعلاً في إعادة تشكيل معادلات الأمن الإقليمي؟

كما تدفع أيضاً إلى التساؤل حول ما إذا كان الأكراد الإيرانيون يتحولون من موقع "الهوية المعارضة" إلى موقع "الفاعل السياسي فوق الوطني"؟ 

وعوضاً عن أن يكونوا أدوات في صراع النفوذ الإقليمي، هل باتوا يسعون الآن إلى التموضع بوصفهم قوةً مستقلةً، تُفاوض وتُناور وتُعلن تحالفاتها ضمن منطق مصلحي بحت؟

تستعيد هذه التحركات، المقاربة التي طرحها ستيفن كراسنر، حول "السيادة كعُرف وليس كواقع"، إذ تبدو الحدود السياسية مرنةً، وتتقلص السيادة التقليدية أمام فاعلين من غير الدول يفرضون أنفسهم على طاولات الإقليم. ويبدو أنّ التحول الكردي في إيران، وإن لم يصل بعد إلى مرحلة الفعل الجيو-سياسي الكامل، إلا أنه بات يُقاس وفق منطق التهديد والتأثير، وليس وفق معايير الهوية والثقافة وحدها.

تتحرك بعض القوى الكردية في إيران اليوم ضمن منطق ما يمكن تسميته بـ"السيادة التفاوضية"، حيث تفرض نفسها كفاعل قابل للتفاوض برغم غياب الاعتراف الرسمي، عبر امتلاكها قاعدةً مجتمعيةً، وتمثيلاً سياسياً في الخارج، وخطاباً يستند إلى مظلومية قومية. وهو ما يُعدّ شكلاً من أشكال السيادة ما دون الدولة، التي تحضر حين تتآكل الدولة دون أن تنهار.

مشهد الأحزاب الكردية في إيران 

لكن الأحزاب الكردية الإيرانية على اختلاف توجهاتها، لا ترفع شعار الانفصال عن إيران بشكل مباشر، وإنما تتفاوت في طرحها بين الفيدرالية واللامركزية الديمقراطية.

يمكن تمييز ثلاثة اتجاهات رئيسية في الحركة الكردية الإيرانية، أولها التيار القومي الكلاسيكي، ويمثّله "الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني" (PDKI)، الذي يُعدّ من أقدم الأحزاب الكردية في المنطقة، ويحمل تاريخاً طويلاً من المواجهة المسلحة مع النظام الإيراني، منذ جمهورية مهاباد عام 1946. 

يشير التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران إلى إمكانية تحوّل المكوّن الكردي في إيران من موقع "الهامش المحتج" إلى "فاعل سياسي فوق وطني"، الذي يسعى لإعادة التموضع داخل منظومة الأمن الإقليمي، مستفيداً من حالة التآكل التي تشهدها سيادة الدولة الإيرانية على أطرافها القومية

هذا الحزب يطرح مشروع الفيدرالية القومية كحلّ نهائي، ضمن تصور لإيران اتحادية متعددة القوميات. ويتبنى صراحةً نموذج الفيدرالية القومية، ويعتبر أن الأكراد في إيران يشكّلون "أمّةً مضطهدةً" لها حق الحكم الذاتي داخل إطار اتحادي.

هناك أيضاً التيار الأوجلاني/ الكونفدرالي، ويمثله "حزب الحياة الحرة لكردستان" (PJAK)، وهو امتداد فكري وتنظيمي لحزب العمال الكردستاني (PKK). لا يؤمن بالدولة القومية، ويطرح بديلاً عنها نموذج "الكونفدرالية الديمقراطية"، حيث تُمارس المجتمعات حكمها الذاتي من خلال الكومونات المحلية، بعيداً عن مركزية الدولة أو حتى الفيدرالية التقليدية.

بينما يمثل حزب "كومله"، التيار اليساري التقدمي، والذي نشأ بصفته تنظيماً ماركسياً راديكالياً، ثم تحوّل إلى حزب سياسي قومي ذي طابع يساري اجتماعي. يدعو الحزب إلى إصلاح بنيوي للنظام السياسي الإيراني، ويركز على المسألة القومية من داخل أطر العدالة الاجتماعية والنضال الطبقي. 

سابقاً، كان الحزب يتبنّى طروحات اشتراكيةً أمميةً، لكنها لاحقاً تقاطعت مع PDKI في فكرة الفيدرالية، مع تركيز أكبر على العدالة الطبقية بجانب القومية.

الأمن الهامشي والعودة إلى الجغرافيا المؤجّلة

لطالما شكّلت كردستان الإيرانية - الممتدة على تماسٍ مع الحدود التركية والعراقية - مساحةً جغرافيةً حيويةً ضمن منظومة "الأمن الهامشي" الذي تتعامل معه طهران كقوس قابل للاشتعال عند كل أزمة داخلية أو توتر خارجي. ومع تكرار موجات القمع، والتمييز الممنهج، وغياب تمثيل حقيقي، ظلّت المنطقة عرضةً لتقلبات راديكالية في المزاج السياسي، ما أفرز مشهداً معارضاً يراوح بين النضال المدني والعمل المسلح، وفقاً لمعادلات الداخل والخارج.

وقد يكون ما يميّز المرحلة الحالية هو تزامن التصعيد الإسرائيلي مع بروز خطاب كردي عالي النبرة تجاه النظام الإيراني. وهو ما يعيد استحضار النظرية الكلاسيكية في الأمن الإقليمي التي ترى أن الهامش يصبح مركزاً حين يضعف المركز.

يُعاني المجتمع الكردي في إيران من تهميش ممنهج، عبر ارتفاع البطالة وانتشار ظاهرة "الكولبار" أي التهريب، ومنع التعليم باللغة الكردية، والاعتقال التعسفي للناشطين.

يُشكّل الأكراد في إيران كتلةً ديموغرافيةً مهمةً، تُقدَّر بنحو 10 ملايين نسمة، أي ما يقارب 10 إلى 12 في المئة من السكان. يتوزعون جغرافياً في المحافظات الغربية المحاذية للعراق: كردستان (سنندج)، كرمانشاه، إيلام، وأجزاء من أذربيجان الغربية (خاصةً مدينة مهاباد ذات الدلالة الرمزية الكبرى). 

وبرغم أن هذه المحافظات تحمل طابعاً كردياً لغوياً وثقافياً، إلا أنّها لا تتمتع بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي، فهي تعاني من التهميش الممنهج على مدى عقود، كما تُعدّ من أفقر المناطق في البلاد من حيث البنية التحتية، الاستثمار، الخدمات، ومستوى التنمية. وتشير البيانات الرسمية إلى أنّ معدلات البطالة في بعض المحافظات الكردية الإيرانية تفوق المعدل الوطني؛ فمحافظة كرمانشاه، على سبيل المثال، سجّلت نسبة بطالة بلغت 18.2% في شتاء عام 2025، مقابل معدل بطالة وطني يبلغ نحو 7.2%.

فيما يُعاني المجتمع الكردي في إيران من تنامي حالات استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان والكورد المتعاطفين - بما فيهم معتقلي الضمير - الذين يتعرضون للاعتقال التعسفي والعنف، والتهم غالباً تُفصّل تحت بند "التحريض القومي". كما تم توثيق ارتفاع في معدلات الانتحار والنزوح الأسري، كمرونة ضغط نفسي وجسدي، مرتبط بالفقر والبطالة المستشريَين في تلك المناطق.

لذا، فالمناطق الكردية تُعتبر من أكثر المناطق حرماناً في إيران، وتعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وغياب الاستثمارات، وفقر خدماتي، ما يدفع كثيرين من السكان هناك للاعتماد على اقتصاد التهريب الحدودي أو الـ"كولبار"، حيث يخاطر الشباب بحياتهم في نقل البضائع من العراق إلى إيران. 

وتُعرف الـ"كولبار" بـ"حاملي الأثقال الحدوديين"، وهي ظاهرة اقتصادية طارئة نتيجة غياب فرص العمل في المناطق الكردية. وفق تقديرات الجهات الرسمية ومصادر متعددة، يوجد بين 80 إلى 170 ألف كولبار يعملون في نقل البضائع عبر الحدود الإيرانية-العراقية، مقابل أجرة تقارب 10 إلى 25 دولاراً مقابل يوم عمل واحد، برغم المخاطر الجسيمة المتمثلة في استهدافات حرس الحدود الإيراني ومخاطر الطقس والجغرافيا. 

وقد وثّق تقرير لمركز "هينغاو" (منبر حقوقي كردي)، خلال عام 2024 فقط، مقتل أو إصابة 339 كولباراً، 84% منهم جراء إطلاق نار من قوات الأمن، وأشار إلى أنّ هذا العدد يمثل زيادةً مقارنةً بالعام السابق. 

سياسياً، حُرمت هذه المناطق من التمثيل الحقيقي، في البرلمان وفي الإدارة المركزية، بينما اقتصرت العلاقة بين الدولة والمجتمع الكردي على العلاقة الأمنية، والقمع الدوري للأحزاب، والإعدامات، ولا سيّما بعد كل انتفاضة محلية أو مظاهرات جماهيرية.

اجتماعياً وثقافياً، لا تزال اللغة الكردية ممنوعةً في التعليم الرسمي. ويُلاحَق المثقفون الأكراد بتهمة "التحريض القومي"، أو "العمل على تقويض الوحدة الوطنية"، وقد أدى هذا إلى خلق فجوة نفسية عميقة بين الدولة والمجتمع الكردي، تتغذى على شعور بالتمييز والتهميش المزدوج؛ القومي والطبقي.

برغم القمع، حافظ الأكراد على تراثهم الثقافي واللغوي عبر الأدب الشفهي، والمهرجانات الشعبية، والزي الكردي. لكنهم يُمنعون من بثّ قنوات إعلامية محلية، أو تأسيس جمعيات مدنية مستقلّة تُعنى بالثقافة الكردية. كما أنّ التديّن في المناطق الكردية يميل غالباً إلى الاعتدال أو التصوف، وهو ما يضعهم أحياناً في صدام مع السلطة الدينية الرسمية ذات الطابع الشيعي السياسي.

حدود الدولة والمأزق الإيراني

تعيش الدولة الإيرانية اليوم ما يمكن تسميته بحالة "تآكل حدود السيادة الفاعلة" (أي فقدان الدولة سيطرتها على الأطراف برغم استمرار مؤسساتها المركزية)، كما نظّر لها جيلبير الأشقر، حين تحدث عن الدول التي تفقد تدريجياً قدرتها على ضبط الأطراف دون أن تنهار مؤسساتها المركزية. وفي هذا السياق، فإنّ التحركات الكردية تُبرز اختلالاً متزايداً في قدرة الدولة على احتواء أطرافها الإثنية.

كذلك يُمكن استحضار ما طرحه المفكر السياسي جيمس سكوت، في دراسته للهويات المهمشة التي لا تتماهى مع النموذج الرسمي للدولة، بل تُمارس مقاومةً يوميةً تُعيد إنتاج هويات مضادة من الهامش. وبهذا المعنى، يمكن قراءة التحرك الكردي في إيران كـ"قومية مضادة"، لا تكتفي بالاحتجاج، وإنما تسعى إلى صياغة نموذج سياسي واجتماعي موازٍ، غير معترف به رسمياً، لكنه يتكئ على سردية تاريخية وحاضنة مجتمعية متماسكة.

هذا التحوّل يُقارب أيضاً ما يسمّيه المفكر السياسي باري بوزان، بـ"تحديات الوحدة الوطنية في ظل تعددية الهويات الإثنية"، والتي تصبح شديدة الحساسية حين تتقاطع مع تدخلات خارجية. فالدولة الإيرانية، إذ تواجه عدواناً خارجياً، تجد نفسها محاصرةً بتشظيات الداخل، وهو ما يكشف هشاشة التصوّر القومي الجامع الذي لطالما روّجت له الثورة الإسلامية في إيران.

في حال شهدت إيران انهياراً للنظام الحالي خلال الفترة المقبلة أو تحوّلاً جذرياً في بنيته السياسية، فإنّ الأكراد سيكونون أمام مفترق طرق حاسم. فهم يملكون اليوم كتلةً اجتماعيةً ناقمةً، وقواعد حزبيةً خارجيةً منظّمةً، وخطاباً سياسياً متمايزاً عن بقية القوميات.

رغم اختلاف التحركات الحزبية الكردية في إيران، (قومية، كونفدرالية، يسارية)، إلا أنها تتجه بشكل متزايد نحو تفعيل نموذج "السيادة التفاوضية"، أي فرض الذات كقوة غير معترف بها رسمياً لكنها تملك قاعدة اجتماعية، وخطاب سياسي منظم، وتمثيل خارجي، وذلك في ظل غياب الاعتراف بحكم ذاتي رسمي

لكن هناك ثلاثة تحديات مركزية تلوح في الأفق، أولها يتمثل في غياب التنسيق بين الأحزاب الكردية، بسبب التنافر الأيديولوجي والمنافسة التنظيمية، ما يهدد بتكرار مشهد الفوضى الداخلية كما حصل في كردستان العراق في تسعينيات القرن الماضي.

كذلك هناك الموقف القومي الفارسي التقليدي، الذي يرى في أيّ مشروع حكم ذاتي كردي تهديداً لوحدة إيران. وهذا الخطاب لا يقتصر على التيار المحافظ، وإنما يمتدّ حتى إلى طيف واسع من المعارضة الليبرالية والعلمانية في الخارج.

أما التحدي الثالث فيتمثل في التجاذبات الإقليمية والدولية خلال الفترة الراهنة، خاصةً في ظل ارتباط PJAK عضوياً بحزب العمال الكردستاني (PKK)، ما يجعل تركيا فاعلاً غير مباشر في مراقبة الطموح الكردي الإيراني، بل ربما مستعدّةً للتدخل المباشر إذا ما استشعرت نشوء كيان مسلّح على حدودها الشرقية. 

كما أنّ الحذر الأمريكي من تكرار النموذج الكردي العراقي، بما حمله لاحقاً من تعقيدات جيو-سياسية وتوترات إقليمية، يجعل من واشنطن شريكاً انتقائياً وحذراً في التعامل مع المطالب الكردية داخل إيران. فقد أدّت تجربة إقليم كردستان العراق إلى مشهد معقّد تراوحت فيه العلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد بين الدعم الإستراتيجي والتخلّي الضمني، ولا سيّما بعد استفتاء الاستقلال في عام 2017، وما تلاه من تصعيد تركي-إيراني مشترك ضد الطموح الكردي. بجانب ذلك، لا يبدو أنّ واشنطن ترى في القوى الكردية الإيرانية (ولا سيّما PJAK المصنّف إرهابياً في تركيا)، شريكاً موثوقاً أو مستقرّاً. وضمن هذا المنظور، فإنّ الولايات المتحدة قد تُفضّل ضبط التوازن في الداخل الإيراني من دون أن تنخرط في إعادة رسم خرائط القوميات أو فتح باب المطالب الفيدرالية، مخافة الانزلاق إلى مشهد تفكك مشابه لما جرى في العراق أو ليبيا.

ومن غير المتوقع، في ظلّ سياق التهدئة الراهنة، أن تُقبل الولايات المتحدة على دعم أي تحوّل راديكالي في الداخل الإيراني يُفضي إلى فتح باب إعادة رسم خرائط القوميات. فالإدارة الأمريكية، التي دفعت باتجاه وقف التصعيد، تُدرك أنّ زعزعة استقرار إيران قد تنقلب على مصالحها، وتُفضّل حالياً الحفاظ على التوازنات الهشة، وإن جاء ذلك على حساب تطلعات القوميات غير الفارسية.

وهنا لا يمكن إغفال المقارنة مع التجربة الأفغانية، حين انهار نظام كابول بسرعة خاطفة بعد الانسحاب الأمريكي (آب/ أغسطس 2021)، وترك فراغاً لم تستطع القوى المحلية ملأه بصورة مستقرة. وهو ما يُنذر بتكرار سيناريو مشابه في إيران، إن سقط النظام من دون وجود توافق مسبق بين القوميات، أو تحالفات داخلية تُؤسس لانتقال سياسي منضبط.

لكن ماذا لو أدى استعصاء ملف المفاوضات بعد التوصل إلى اتفاق وقف الاقتتال بين إيران وإسرائيل، إلى زيادة الضغوط على النظام الإيراني الحالي، ما قد يؤدي إلى سقوطه بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير والاستهدافات العميقة والمؤثرة؟ وفي حال سقوط النظام الإيراني الحالي، فإنّ هناك سيناريوهات عدة أمام الأكراد، يتمثل أولها في إعلان حكم ذاتي فعلي في مناطقهم إذا ما غابت سلطة الدولة.

وثانيها في المطالبة بفيدرالية دستورية في أي نظام جديد، خاصةً إن جاء بدعم غربي. وثالثها في تكرار نموذج كردستان العراق ولكن بصيغة إيرانية أكثر حذراً، خشية معارضة القوى القومية الفارسية أو الأذرية.

إن التحدّي الأكبر يبقى كما أشرنا آنفاً في مدى قدرة الأحزاب الكردية على التوحد، وفي طبيعة تعاطي القوى الدولية مع ملف القوميات في إيران بعد أي تحوّل كبير.

خلاصة القول، الواقع لا يشي بأنّ الحركة الكردية الإيرانية مستعدة كفاية لكسب أهدافها السياسية، فلا توجد حتى الآن وثيقة جامعة بين الأحزاب الكردية تضع تصوراً مشتركاً لمستقبل إيران ما بعد الثورة الإسلامية أو ما بعد الانهيار. ولا يوجد تحالف واضح بين القوى الكردية وبين بقية القوميات المهمّشة مثل البلوش أو العرب أو الأذريين.

بل إن الأخطر، هو احتمال أن يُستغلّ التصعيد الحالي من قبل القوى الدولية فقط لإضعاف إيران، دون تقديم أي ضمانات مستقبلية للكرد أو غيرهم، وهو ما حذّر منه "PJAK" في بيانه، حيث دعا إلى رفض منطق الحرب، والتركيز على بناء مجتمع مدني ديمقراطي قاعدي.


قد تُشكّل تبعات التصعيد العسكري الحالي أو الاقتصادي والسياسي اللاحق، أو حتى انهيار النظام الإيراني، لحظةً تاريخيةً نادرةً للأكراد في إيران لإعادة تموضعهم في بنية الدولة الجديدة. وبرغم أنّ توقف التصعيد قد يؤجل إمكانات التغيير التي ظهرت مع لحظة المواجهة، إلا أنّ هذا التأجيل لا يعني ضياعها بالضرورة. 

فالفرصة لا تزال قائمةً، شريطة أن تتحول اللحظة العابرة إلى لحظة إستراتيجية، عبر سيناريو توحيد الموقف الكردي، وتفعيل الحضور المدني والسياسي، وتقديم خطاب مشترك يُخاطب الداخل الإيراني كما المجتمع الدولي.

لكن هذه اللحظة يمكن أن تضيع إذا لم يتم التنسيق الداخلي الكردي، ووضع رؤية إستراتيجية متكاملة تنفتح على تحالفات مع قوى أخرى، وتستثمر في الشرعية الشعبية أكثر من الولاءات الإقليمية.

بمعنى آخر، إما أن يكون الأكراد في إيران شركاء في صياغة إيران المستقبل، أو أن يتحوّلوا مجدداً إلى ضحايا جدد لتوازنات القوى الكبرى. لكن ثمة احتمالاً ثالثاً أيضاً، هو أن تتحول المناطق الكردية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين أطراف خارجية متضادة، دون أن تملك الأحزاب الكردية أدوات السيطرة، فيُعاد إنتاج المعاناة القديمة بصيغة أكثر تجزئةً ودموية.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image