هل يعيد الناخب العراقي إنتاج الفساد من خلال صناديق الاقتراع؟

هل يعيد الناخب العراقي إنتاج الفساد من خلال صناديق الاقتراع؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 23 مايو 202511:58 ص

مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، تبدأ الحملات الانتخابية بالتسلل إلى الشوارع وأزقة المناطق العشائرية، ومراكز الأحزاب والتحالفات السياسية. مشهد مألوف يعيد نفسه مع كل دورة انتخابية، ترافقه وجوه قديمة، ووعود متكررة، وشعارات برّاقة، لا تلبث أن تنقلب إلى خيبات أمل وملفات فساد جديدة.

تقول نسرين التميمي (41 عاماً)، من بغداد: "جهزت نفسي للصدمة كما في كل مرة. أعرف ما سيحدث، لا شيء يتغير، سواء شاركنا في التصويت أو لم نشارك".

يعكس هذا الكلام شعور شريحة واسعة من العراقيين الذين باتوا يتساءلون بمرارة؛ من المسؤول عن تكرار الإخفاق؟ هل هو النظام السياسي فحسب؟ أو أن الناخب نفسه شريك في إعادة إنتاج الوجوه التي يشتكي من فسادها؟

فبالرغم من تراجع نسب المشاركة في الانتخابات السابقة، إلا أنّ كثيراً من الناخبين ما زالوا يعيدون التصويت للأحزاب والشخصيات ذاتها، مدفوعين بضغوط اجتماعية أو ولاءات عشائرية ومناطقية، وكأنهم بذلك يساهمون في دائرة الفساد التي يلعنونها كل يوم.

شعارات برّاقة

مع اقتراب كل استحقاق انتخابي، تتدفق الوعود من كل حدب وصوب، بلا سقف ولا ضوابط. شعارات مألوفة تملأ الفضاء العام، مثل محاربة الفساد وبناء الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن ما إن تُغلَق صناديق الاقتراع، حتى تتبخر هذه الوعود، ليبقى الواقع على حاله؛ برلمان منقسم، تمثيل شعبي هزيل، وحكومات تخضع للمحاصصة لا للمحاسبة.

تكرار الخطاب السياسي ذاته لم يعد يُقنع الشارع العراقي، فبحسب تجارب الانتخابات الماضية، أصبحت الشعارات مجرد أدوات لتسويق الوجوه نفسها، دون أي التزام فعلي بتحقيق التغيير.

المعادلة الانتخابية في العراق لا تقف عند حدود شراء الأصوات، بل تتجاوزها إلى ما هو أكثر تعقيداً، حيث تتحول الانتخابات إلى ساحة مفتوحة لتبادل الولاءات والمصالح لا سيما الدينية والعشائرية والحزبية. فهل يعيد الناخب العراقي إنتاج الفساد عبر صناديق الاقتراع؟

يقول مصطفى عبد جبار (46 عاماً)، من محافظة ديالى: "الناس لم تتعلّم الدرس، وما زالوا ينتخبون الشخصيات نفسها، متأملين تحقيق هذه الشعارات، وكأنّ الذاكرة السياسية للناخبين تعاد برمجتها في كل موسم انتخابي جديد، أما أنا فلن يخدعوني مرةً ثانيةً، فكم من مرشح وعد بإعمار المدينة ثم نسيها، وكم من نائب تحدّث باسم صوتي ثم تركني؟".

أصوات للبيع

هل الناخب العراقي مجرد ضحية تُستغلّ عند لحظة الاقتراع؟ أو يُعدّ طرفاً فاعلاً "بوعيه أو من دونه"، في إعادة إنتاج منظومة يشتكي من فسادها؟ ففي مشهد انتخابي يتكرر كل دورة، لا يعود الصوت مجرد حق ديمقراطي، بل سلعة تُشترى وتُباع. 

شراء الأصوات بات أحد أبرز معالم العملية الانتخابية، خاصةً في المناطق ذات الدخل المحدود. يقول سليم مرزا (61 عاماً)، من محافظة النجف: "بعض الناس يوافقون على بيع أصواتهم ظنّاً منهم بأن بيع الصوت هو نوع من الانتقام من الدولة، لكنه في الحقيقة دعم مباشر للفاسدين". ويؤكد أنّ الظاهرة أصبحت جزءاً من الثقافة الانتخابية المكرسة بسبب غياب الوعي والمحاسبة.

وغالباً ما يتراوح ثمن الصوت الانتخابي بين 25 إلى 50 ألف دينار عراقي، أي نحو 19 إلى 40 دولاراً، تُدفع مباشرةً بعد خروج الناخب من مركز الاقتراع، وتلجأ بعض الأحزاب إلى توزيع المال والهدايا العينية وحتى مواد غذائية، عبر شبكة من السماسرة المحليين، الذين هم غالباً من وجهاء الأحياء والعشائر المتعاونين مع الأحزاب من أجل توجيه الناخبين مقابل وعود بالتعيين أو خدمات خاصة.

بين الهوية والانتماء والعشيرة

المعادلة الانتخابية في العراق لا تقف عند حدود شراء الأصوات، بل تتجاوزها إلى ما هو أكثر تعقيداً، حيث تتحول الانتخابات إلى ساحة مفتوحة لتبادل الولاءات والمصالح، تتداخل فيها مفاهيم ذاتية عدة.

مثالاً على ذلك، تلعب الانتماءات الدينية والقومية دوراً محورياً في تشكيل المزاج الانتخابي، إذ يتعمّد بعض المرشحين إثارة التصريحات الطائفية قبل فترة الترشح وفي أثنائها بحجة دفاعهم عن هذه الانتماءات، وباعتبارها ورقةً رابحةً لكسب الأصوات.

هذا النمط ليس جديداً، بل استُخدم منذ انتخابات عام 2005. وقتها، وظّف الائتلاف العراقي الموّحد، الرموز الدينية بشكل مباشر، عبر وضع صور الأئمة والمرجع الأعلى علي السيستاني، في حملته المعروفة بـ"قائمة الشمعة 555".

بموازاة ذلك، تتكرس سطوة العشيرة باعتبارها لاعباً أساسياً في توجيه الأصوات، خاصةً في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة، وهنا تُحشد الجموع تحت عباءة الولاء العشائري لصالح المرشح "ابن العم"، أو "الرجل المؤمن"، بغض النظر عن كفاءته أو برنامجه الانتخابي. 

يقول أمير الأمير، وهو اسم مستعار لمواطن ستيني من محافظة كربلاء، إنّ "شيخ العشيرة يحدد من ننتخب، مقابل وعود بتعيينات لأبنائنا في الأجهزة الأمنية أو الدوائر الحكومية، بغضّ النظر عن هوية هذا المُرشح أو نزاهته، فالمهم أنه من جماعتنا".

استغلال المرشحين للعشائر، عادة انتخابية مُتكررة، إذ يكثف هؤلاء زياراتهم إلى شيوخ العشائر والأفخاذ، والتفاوض من أجل الحصول على دعمهم، وهذا التحالف التصويتي لا يأتي مجاناً، فالاتفاق بين المرشحين وشيوخ العشيرة، يتضمن منح الأخيرين مبالغ ماليةً تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات، أو وعوداً بتوفير وظائف أو منح أراضٍ أو تسهيلات تجارية مقابل الحصول على دعمهم وتوجيه المُقترعين لانتخابهم. 

وبرغم أن القانون العراقي يُجرّم هذه الممارسات، إلا أنها تنتشر على نطاق واسع، إذ تنص المادة 28 من قانون الإنتخابات على أنه "يُحظر ممارسة أي شكل من أشكال الضغط أو الإكراه أو منح مكاسب مادية أو معنوية بقصد التأثير على نتائج الانتخابات"، فيما تنص المادة 32 على أنه "يعاقَب بالحبس لمدة لا تقلّ عن سنة كل من استعمل القوة أو التهديد لمنع ناخب من استعمال حقه أو عرض أو وعد بمنح فائدة له أو لغيره ليحمله على التصويت على وجه معيّن، أو أعطى أو عرض أو وعد بأن يعطي ناخباً فائدةً لنفسه أو لغيره ليحمله على التصويت على وجه معيّن أو على الامتناع عن التصويت".

الباحث الحقوقي، علي الموسوي، يؤكد هذا الجانب، ولكنه يقول إنّ كثيراً من هذه الممارسات، برغم شيوعها، تجري خلف كواليس العملية الانتخابية، وهذا يمنع القضاء من مساءلة المتورطين فيها، استناداً إلى مبدأ "لا جريمة بلا إثبات".

ويوضح الموسوي في حديثه إلى رصيف22، أنّ هذا الأمر ينطبق أيضاً على استخدام بعض الكتل السياسية أو الشخصيات العامة لوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كأدوات غير مباشرة للتأثير على الناخبين، عبر التركيز على النيل من خصومهم، ولكن القضاء أيضاً لا يستطيع محاسبة المرشحين، بسبب أنّ هذه الأساليب غالباً ما تُدار من خلف الستار، دون تصريح مباشر من المرشح، ما يجعل من الصعب قانوناً تحميله المسؤولية عن محتوى يُنشر باسم داعميه أو جمهوره.

كما تستخدم الكتل الحزبية وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام، وتلميع صورة بعض المُرشحين، واستعراض الخدمات والمساعدات التي تُقدّم خلال حملاتهم الانتخابية.

الإشكاليات الانتخابية معقدة في العراق، تتداخل فيها المعادلات الاجتماعية مع السياسية، إذ يوضح الباحث اللامي، أنّ المواطن غالباً ما يجد نفسه محاصراً بين ضغوط الانتماء القبلي والمذهبي والعائلي، وبين الرغبة في تحقيق منفعة شخصية آنية، عبر اختيار مرشح يقدّم له خدمةً مباشرةً، بغضّ النظر عن نزاهته أو كفاءته

هل تتغير معادلة التصويت؟ 

مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق، والمقرر إجراؤها في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، تتجدد الأسئلة حول جدوى المشاركة ومدى فاعلية العملية الانتخابية، فوسائل جذب الناخبين، التي كانت في السابق تؤثر بشكل ملموس على نسب المشاركة، لم تعد كما كانت، في ظلّ تصاعد مشاعر الإحباط وفقدان الثقة، فوفقاً للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لم يُحدّث نحو 8 ملايين مواطن بياناتهم الانتخابية حتى الآن.

علي الربيعي (37 عاماً)، من بغداد، يؤكد أنه لم يقُم بتحديث بياناته الانتخابية بسبب فقدان ثقته بالعملية السياسية والبرلمان في آن واحد، ويقول: "بعد سنوات من التجارب المتكررة، لم تُحدث الانتخابات أي تغيير ملموس، كل ما حصلنا عليه هو إعادة تدوير الوجوه نفسها، والبرامج ذاتها المبنية على المحاصصة والطائفية، أما هموم المواطن، فلم يكن لها وجود بين دفاتر الأجندات السياسية للمرشحين الفائزين بفضل تصويتنا".

مواطنون كُثر يشاركون علي الربيعي، نظرته، إذ تُظهر نظرة سريعة إلى نسب المشاركة في الانتخابات العراقية خلال السنوات الماضية، انحداراً واضحاً، ففي انتخابات 2005، بلغت نسبة المشاركة نحو 79 أو 80%، ثم تراجعت إلى 62% في 2010، واستمرت في التراجع إلى 60% في 2014، و44.5% في انتخابات 2018.

هذا التراجع يعكس بوضوح اتساع الهوّة بين المواطن والمؤسسة السياسية، خاصةً بين فئة الشباب، الذين قادوا احتجاجات واسعةً عام 2019، انتهت باستقالة حكومة عادل عبد المهدي، دون أن تؤدي إلى تغيير جذري. وحكومة مصطفى الكاظمي التي خلفت حكومته، بدت عاجزةً عن تلبية تطلعاتهم، ما زاد من حالة الإحباط العام، وهو ما استمر مع الحكومة الحالية، إذ تراجعت نسب المشاركين من 44% في عام 2018، إلى 41% في الانتخابات المبكرة عام 2021، أما انتخابات مجالس المحافظات في 2023، فلم تتجاوز نسبة المشاركة 41%.

تحاول المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كسر هذا الجمود عبر حملات التوعية والإعلانات المدفوعة، بجانب إرسال فرق جوالة إلى الوزارات والجامعات لتسهيل عملية تحديث البيانات. رئيس الفريق الإعلامي للمفوضية، عماد جميل، أكد في تصريح صحافي، أنّ الاستجابة بين الموظفين والطلبة "عالية جداً"، مشيراً إلى أنّ الفِرق الجوالة بدأت تستهدف المواليد الجديدة أيضاً، ضمن خطة شاملة لتوسيع قاعدة المشاركة.

لكن هذه التصريحات تُقابَل بشكوك مجتمعية واسعة، فمثلاً، يقول محمد زوين (21 عاماً)، من بغداد، إنّ "فريقاً من المفوضية زار جامعته لحثّهم على تحديث بياناتهم"، ويعلّق ساخراً: "ليتهم يسهّلون باقي المعاملات مثلما يسهّلون معاملة تحديث البيانات الانتخابية"، ويؤكد أنه عزف عن تحديث بياناته الانتخابية.

بين المقاطعة والبدائل

بين دعاوى المقاطعة والحثّ على التصويت، تتباين المواقف. هناك من يرى أن الامتناع عن التصويت هو موقف احتجاجي مشروع، في ظل غياب بدائل سياسية حقيقية، فيما يرى آخرون أنّ هذا الخيار يفتح الباب أمام استمرار القوى التقليدية في السيطرة، وأن المقاطعة من دون بديل منظّم قد تكرّس الوضع القائم بدل تغييره.

في العراق، "الحل يبدأ بكسر هذه الحلقة المفرغة من التصويت غير الواعي، عبر إعادة النظر في أسلوب الاختيار، والاعتماد على تقييم شخصي مستقلّ يقوم على دراسة المرشح وتاريخه"

لمى النعيمي (30 عاماً)، من محافظة نينوى، تؤكد أنها وبرغم امتعاضها من الأداء البرلماني، ولكن الرمزية الاحتجاجية للمقاطعة، لم تحدث تغييراً يُذكر في التجارب السابقة، بل على العكس، فإنّ "العزوف الجماهيري عن الانتخاب، سمح للأحزاب التقليدية بالاستئثار بالمشهد السياسي"، ولذلك تعتقد في تصريحها لرصيف22، بضرورة دعم المستقلّين، وكسر حاجز هيمنة بعض الرموز السياسية على واقع البلاد.

وعلى النقيض، يُصرّ سعد عبد علي (27 عاماً)، من محافظة ذي قار، على رفض انتخاب أي شخصية وإن كانت جديدةً أو مُستقلّة، ويقول: "سبق أن انتخبنا وجوهاً جديدةً على الساحة السياسية، رغبةً في تغيير الواقع ولكنهم فاقوا الوجوه التقليدية في فسادهم"، حيث يعتقد أن معظم الأحزاب التقليدية أدركت ملل الناس من الوجوه التقليدية، ولذلك تستقطب شخصيات جديدةً ووجوهاً شبابيةً قابلةً للتحكم فيها من خلف الكواليس، رغبةً في كسر تراجعها الشعبي، ويقول: "هي تضرب عصفورَين بحجر واحد" عبر هذا الأسلوب.

الإشكاليات الانتخابية معقدة في العراق، تتداخل فيها المعادلات الاجتماعية مع السياسية، إذ يوضح الباحث الاجتماعي، سجاد اللامي، أنّ المواطن غالباً ما يجد نفسه خلال هذه الفترة، محاصراً بين ضغوط الانتماء القبلي والمذهبي والعائلي، وبين الرغبة في تحقيق منفعة شخصية آنية، عبر اختيار مرشح يقدّم له خدمةً مباشرةً، بغضّ النظر عن نزاهته أو كفاءته.

ويضيف لرصيف22، أنّ هذا النمط من التصويت يولّد لاحقاً مشاعر ندم وتأنيب، خاصةً حين يتبيّن أنّ المرشح المُنتخب أضرّ بالمصلحة العامة أو لم يُحقق وعوده للناخب، ويدفعه تالياً إلى تفريغ غضبه عبر افتعال نزاعات اجتماعية أو انتقاد النظام السياسي عموماً.

ويرى أنّ الحل يبدأ بكسر هذه الحلقة المفرغة من التصويت غير الواعي، عبر إعادة النظر في أسلوب الاختيار، والاعتماد على تقييم شخصي مستقلّ يقوم على دراسة المرشح وتاريخه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image