ثلاث دول في دولة واحدة… المحاصصة تُفرغ العراق من رجال الدولة

ثلاث دول في دولة واحدة… المحاصصة تُفرغ العراق من رجال الدولة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 19 مايو 202503:29 م

في الدول التي تنهش فيها سطوة الأحزاب مفاصل الدولة، يصبح من الصعب أن يكون هناك رجل دولة حقيقي. فالمسؤولية هنا لا تقتصر على إدارة شؤون الحكم، بل تمتد إلى مواجهة منظومة سياسية متجذّرة، تتغذى على المحاصصة، وتقدّم الولاء الحزبي على حساب الكفاءة والوطنية. في مثل هذه البيئة، يغدو القرار السيادي رهينةً للترضيات، ويصبح الإصلاح مشروطاً بموافقة شركاء السلطة، لا بمصلحة الشعب.

من الطبيعي وجود الأحزاب في الأنظمة الديمقراطية، بل هي ركيزة أساسية في التعددية السياسية، وتعددها لا يُعدّ سلبياً بحدّ ذاته. لكن غير الطبيعي هو أن تتحول هذه الأحزاب إلى كيانات متوغلة في جسد الدولة، تفرض شخصيات غير مؤهلة، وتتعامل مع مؤسسات الدولة بمنطق السيطرة لا الخدمة. وهذا ليس مجرد استنزاف لموارد الدولة، بل تفريغ للمؤسسات من دورها الحقيقي في تحقيق الصالح العام، لتتحول الدولة إلى أداة لخدمة مصالح ضيّقة، لا لخدمة الشعب.

في بلد مثل العراق، تقسمت الأحزاب بعد عام 2003، إلى كتل شيعية وسنّية وكردية، مع وجود أحزاب مدنية أخرى، لكن الهيمنة بقيت لهذه الثلاثية الطائفية والقومية. لم تكتفِ هذه القوى بتقاسم السلطة، بل ذهبت إلى توزيع الدولة جغرافياً وسياسياً، حتى بدا العراق وكأنه ثلاث دول في دولة واحدة؛ كل مكوّن يدير شؤونه كأنها إقطاعية خاصة، لا جزء من دولة ذات سيادة موحدة. 

مع هذا التشظي، تراجعت فكرة المواطنة، وساد منطق الامتيازات، وغابت المسؤولية الجماعية.

صراع الدولة واللادولة

ولا يمكن فهم تعقيدات المشهد العراقي اليوم، دون التطرق إلى الصراع البنيوي العميق بين الدولة واللادولة. فالمشكلة لم تعد في نفوذ الأحزاب داخل مؤسسات الدولة فحسب، بل في نشوء منظومة موازية تتغذى على السلاح غير الرسمي، والولاءات العابرة للحدود، والاقتصاد الموازي، لتشكّل بذلك كياناً ينافس الدولة على سلطتها، ويهيمن على قرارها السيادي. في هذا السياق، باتت الدولة عاجزةً عن فرض القانون، أو حتى حماية مؤسساتها من تدخلات الفصائل المسلحة، ما جعل فكرة الإصلاح أو بناء دولة قوية حلماً مؤجلاً، بل مستهدفاً من أطراف ترى في الدولة القوية خطراً على امتيازاتها.

تحوّلت الأحزاب في العراق من أدوات ديمقراطية إلى كيانات متغوّلة تقاسمت مؤسسات الدولة ومواردها، وفرضت شخصيات غير مؤهلة بناءً على الولاء لا الكفاءة، ما أدى إلى شلل إصلاحي وتآكل مفهوم الدولة الموحدة، وأفسح المجال لمنظومات موازية مسلحة واقتصادية تنافس الدولة وتحدّ من سيادتها

كما أنّ غياب التطبيق الفعلي لمبدأ الفصل بين السلطات، ساهم في إرباك الأداء المؤسسي وتوسيع نطاق الصراع داخل الدولة. فبدلاً من أن تعمل السلطات الثلاث في إطار من التكامل يحكمه الدستور والأنظمة، برز التداخل في الصلاحيات والتأويل الواسع للنصوص كعامل معقّد للعلاقة بينها. هذا الغموض في الحدود الوظيفية أضعف قدرة كل سلطة على أداء دورها باستقلال وفعالية، وأدى إلى تضارب المواقف وتعدد مراكز القرار، ما أربك السياسات العامة وأضرّ بمفهوم الحوكمة الرشيدة.

بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الكفاءات والعقول المدبّرة خارج دائرة التأثير في صنع القرار. فمعظم المناصب القيادية تُشغل من قبل شخصيات تقدّم ولاءها الحزبي على مصلحة الدولة. هؤلاء المسؤولون ليسوا مدفوعين برؤية وطنية تسعى إلى بناء مؤسسات قوية وفاعلة، بل ينصبّ تركيزهم على الحفاظ على التوازنات الحزبية الضيقة. هذه العقلية تمنع تطور أيّ مشروع إصلاحي حقيقي، حيث يُقاس النجاح بما يقدّمه المسؤول من مكاسب لحزبه، لا بكفاءته أو قدرته على تحسين الوضع العام.

صراع النزاهة في خضم المحاصصة!

في هذا الإطار، ظهرت العديد من الأزمات المزمنة التي أضعفت قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، من كهرباء وتعليم إلى رعاية صحية، وانتشرت ظاهرة الفساد بشكل غير مسبوق. هذا الفساد المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحاصصة، جعل الموارد تُنهب بطريقة منظمة، وأدى إلى تراكم الديون وتعثر المشاريع. هذا كله حدث في وقت كان يُفترض فيه أن يتحقق التقدم، خاصةً مع الأموال الهائلة التي تم ضخّها في العراق بعد 2003.

غياب الفصل الفعلي بين السلطات، والتأويل الفضفاض للنصوص الدستورية، خلق تداخلاً في الصلاحيات، أدى إلى تضارب القرارات وشلل إداري أضعف الحوكمة.

رجل الدولة الحقيقي، كما يُفترض، هو من يعلو فوق الانتماءات الضيقة، ويضع نصب عينيه مصلحة الدولة والمواطنين. لكنه، في ظلّ هيمنة الأحزاب، يصطدم بجدران النفوذ والتعطيل. ويصبح أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الانسجام مع منظومة مشوّهة، أو الصدام معها في معركة خاسرة.

هذا الصراع بين منطق الدولة ومنطق المحاصصة، دفع العديد من الشخصيات الوطنية والكفاءات إلى العزوف عن المناصب العليا، بعدما تبيّن لها أنّ العمل التنفيذي تحوّل إلى بيئة طاردة، لا حاضنة للإصلاح أو المبادرة. فقد بات المنصب عبئاً يُكبّل صاحبه، ويجعله رهينة توافقات وموازنات لا علاقة لها بالصالح العام.

تعريف رجل الدولة

ولم يكن نفوذ الأحزاب وحده وراء هذا العزوف، بل ساهم أيضاً النظام الإداري المركزي والبيروقراطي المثقل بالروتين في تعميق الإحباط، وتراجع الأداء داخل مؤسسات الدولة. هذا النظام يُجرّد المسؤول من أدواته، ويُخضع القرار التنفيذي لسلسلة مرهقة من المخاطبات والتواقيع، ويقتل أيّ مشروع قبل أن يبدأ. كما أنه عطّل الإنتاجية، وأبعد المواطن عن صانع القرار، وعمّق الفجوة بين المركز والأطراف. لا عجب إذاً أن تتردد الكفاءات في قبول مناصب في منظومة تشلّ صاحب القرار قبل أن تمنحه فرصة التغيير.

في ظلّ بيئة بيروقراطية طاردة، ونظام إداري مركزي خانق، تراجعت الكفاءات عن تولّي المناصب العامة، بعدما باتت مواقع القيادة رهينة للترضيات الحزبية والمخاطبات العقيمة. هكذا تحوّل رجل الدولة من صاحب رؤية وإصلاح، إلى موظف عاجز يرضخ للهيمنة الحزبية بدلاً من خدمة الوطن والمواطن

لقد أصبحت بعض مؤسسات الدولة امتداداً للأحزاب، لا للدستور، حيث يُقاس نجاح المسؤول بمدى التزامه بالولاء الحزبي لا بالولاء الوطني. ولهذا، لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن يرى النور ما لم تُكسر قبضة الأحزاب عن الدولة، وتُعاد الاعتبارات إلى المهنية والكفاءة، وتُفعّل اللامركزية بوصفها مدخلاً لإنهاء الهيمنة المركزية وتفكيك البيروقراطية الخانقة.

لقد آن الأوان لإعادة تعريف "رجل الدولة"، لا بوصفه صاحب السلطة والنفوذ، بل بوصفه صاحب الموقف والرؤية، القادر على مقاومة تشوهات المنظومة، واستعادة مفهوم الدولة العادلة والمؤسسات الفاعلة.





رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image