شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
فوضى رقمية في العراق... كيف تقع بيانات أمنية

فوضى رقمية في العراق... كيف تقع بيانات أمنية "سرّية للغاية" تحت مثلّث الاستهداف؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 13 مارس 202509:55 ص

"تواصل وياي ضابط استخبارات على واتساب، دزلي (أرسل لي) صورة جواز سفر صديقتي الأجنبية، ونصحني أن أتزوجها وأشوف مستقبلي خارج العراق"؛ بهذه العبارات استهلّ طارق سليم (اسم مستعار بناءً على طلبه)، حديثه إلى رصيف22، عن تجربته مع "جهل" عناصر أمن عراقيين بـ"أمن البيانات" وانتهاك خصوصيته وخصوصية مواطنين آخرين وتعريضهم للخطر.

يقول طارق (24 عاماً، موظف حكومي): "خلال مرافقتي صديقةً إنكليزيةً في أثناء زيارتها مواقع أثرية عراقية، مررنا بنقاط ومراكز أمنية عدة في محافظة ذي قار. لم يكن هناك ضباط استخبارات لاستجوابي في ما يخصّ سبب الزيارة، كما يحدث عادةً. طلبت مني العناصر أن أترك رقم واتساب الخاص بي، وصورتَين لجواز سفري وجواز سفر صديقتي الأجنبية، لإرسالها إلى الضابط المسؤول ومن ثمّ يتواصل معي لاحقاً".

يضيف الشاب العراقي، أنه اندهش حين وصلته على واتساب "رسالة ترحيبية"، موجهة إلى صديقته مع صورة جواز سفرها. تبيّن أنّ المرسل ضابط برتبة مقدّم، والرسالة من هاتفه الشخصي. ضابط آخر اتصل بطارق، وقال له: "نصيحة من أخوك، تزوّجها وروح وياها لبريطانيا وأنقذ مستقبلك". اندهش طارق، بشدّة من "النصيحة" بمغادرة البلاد، خاصةً أنها تأتي من ضابط في مؤسسة أمنية رسمية، وتمثّل تدخّلاً في "خصوصيات حسّاسة"، على حد وصفه.

"خلال الاتصال، سمعت شخصاً يُخبر الضابط: 'سيدي، خرب دينهم مسافرين لهواي (كثير) دول، وآني هنا باقي قاتلتني الشمس والحرارة'. ليردّ عليه: 'امشي اطلع برّا الله يطيّح حظك'. نبّهني هذا إلى أنّ بياناتنا عرضة لا للانتهاك فحسب بل أيضاً للتنمر، وفتح الأحاديث، وما خفي كان أعظم!"، يختم طارق.

رسالة وصلت مواطن عراقي من ضابط

بيانات المواطنين الرقمية مستباحة أمنياً؟

يبدو أنّ النقص في الثقافة الأمنية الرقمية لدى عناصر ومنتسبي العديد من مؤسسات الأمن العراقية، لا يقتصر على انتهاك الخصوصية والبيانات الشخصية للمواطنين والسائحين على حد سواء، وتعريضهم للخطر، إذ يصل الأمر إلى تعريض سلامة وأمن منتسبي المؤسسات الأمنية أنفسهم للخطر.

"يمكن أن تتسبّب المعلومات المنشورة عن عناصر المؤسسات الأمنية في استهدافهم من قبل جماعات إرهابية أو أعداء آخرين، وحصلت حوادث كثيرة خلال الـ20 عاماً الماضية"... كيف يُسهم عدم وعي منتسبي الأجهزة الأمنية العراقية بـ"الأمن الرقمي"، في تعريضهم أنفسهم والمواطنين للخطر؟

وتساهم العديد من الصفحات والمواقع الرسمية التابعة لمؤسسات أمنية عراقية في كشف بيانات عناصرها وضباطها، وهذا ما يثير تساؤلات عديدةً حول تأثير نشر هذه البيانات على الأمن القومي العراقي، وسلامة المنتسبين الذين ينبغي ألّا تُكشَف هوياتهم، خصوصاً الذين يتقلّدون مناصب أمنية حسّاسة منهم، أو تتطلّب مهام عملهم إخفاء هوياتهم.

في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى منشور (رابط مؤرشف) مدير مديرية الإعلام والتوجيه المعنوي في وزارة الدفاع العراقية، يحيى رسول، عبر صفحته على فيسبوك، يوم 6 شباط/ فبراير 2025، والذي كتب فيه: "إعلان، استكمالاً لحسم ملف توزيع قطع الأراضي استناداً لتوجيهات السيد رئيس مجلس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة، وبمتابعة مباشرة ومستمرة من قبل السيد وزير الدفاع، تعلن وزارة الدفاع عن أرقام القطع الخاصة بالضباط والمراتب والموظفين وذوي الشهداء في محافظة بغداد".

أرفق رسول، منشوره ذلك برابطين لجداول "أكسل"، تحتوي على معلومات كاملة عن قطع الأراضي المخصّصة للضباط، واللافت في الأمر أنّ الملفّات تحتوي على وصف "سرّي للغاية" في داخلها، بينما هي منشورة ومتاح الوصول إليها للعامة.

منشور اللواء يحيى رسول على فيسبوك.

منشور اللواء يحيى رسول على فيسبوك.

وتحتوي الملفّات الصادرة عن دائرة الإسناد الهندسي، قسم الحاسبة التابعة لوزارة الدفاع، على أرقام قطع الأراضي والأرقام الإحصائية الخاصة بأكثر من 14 ألف ضابط، فضلاً عن رموز (اختصارات وترقيم) الأحياء والمحال.

بيانات قطع أراضي عناصر الأمن المنتشرة.

بيانات قطع أراضي عناصر الأمن المنتشرة.

وبعد أن اطّلع عليها، لم يُجِب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية العميد مقداد الموسوي، عن أسئلة تتعلّق بوجود أو عدم وجود تدريبات يتلقاها عناصر الوزارة حول الأمن الرقمي لبياناتهم، والحفاظ على خصوصية بيانات المواطنين، وأيضاً حول وجود عقوبات في حال تسريبهم بيانات تتعلّق بالوزارة أو المتهمين والضحايا من عدمه.

وتعقيباً على ذلك، يقول الخبير الأمني والعسكري صفاء الأعسم، لرصيف22: "يمكن أن تتسبّب المعلومات المنشورة عن عناصر المؤسسات الأمنية في استهدافهم من قبل جماعات إرهابية أو أعداء آخرين، وحصلت حوادث كثيرة خلال الـ20 عاماً الماضية، إذ كان هناك ضباط غير أكفاء وغير متدربين بشكل حقيقي، ظهروا في مواقع التواصل الاجتماعي وهم يحملون السلاح أو في عجلة عسكرية بشكل يُعرّف المتابعين بأنهم يعملون في جهة أمنية، فانكشفت معلوماتهم وتم اغتيالهم من قبل تنظيم داعش الإرهابي".

ويضيف: "الكثير من المشكلات الأمنية حدثت، وحسب معلوماتي كانت هناك شخصية قُتلت نتيجة تثبيت موقعها على الخريطة، وتمت ملاحقتها من قبل جهة كانت تخطّط لاغتيالها. هذا مؤشّر على أنه لولا تثبيت موقع هذا الشخص على الخريطة، لما استطاعت تلك الجهة الوصول إليه. فضلاً عن ذلك، هناك إشارات وصلت نتيجة ظهور شخص في إحدى القنوات، وتم اغتياله لأنه ظهر في مكان مؤشَّر عليه (إستوديو البرنامج)، واتجهوا إليه واستطاعوا أن يغتالوا هذا الصديق".

تجدر الإشارة هنا إلى حادثة استهداف واغتيال الخبير الأمني والعسكري هشام الهاشمي، في 6 حزيران/ يونيو 2020، في يوم ظهوره في لقاء على قناة "الحرة عراق"، لتحليل نشاط الميليشيات المسلحة، حيث أطلق مسلحون النار عليه من مسافة أمتار، أمام منزله في العاصمة بغداد.

"ما تعلّمناه في المؤسسة العسكرية، هو أن كل عنصر أمني بمجرد أن تُكشف شخصيته الأمنية، يفقد قيمته الأمنية، ويصبح مواطناً أو موظفاً إدارياً"، يضيف الأعسم.

من جهته، يقول خبير الأمن الرقمي في مؤسسة "انسم" للحقوق الرقمية، آسو وهاب، لرصيف22، إنّ نشر هذه المعلومات يؤدّي إلى أخطار عديدة منها: "الاستهداف المباشر لهم ولأسرهم، وتعرّضهم لهجمات إرهابية أو إجرامية". ويلفت إلى إمكانية تتبعهم جغرافياً والكشف عن مواقعهم عبر الصور أو الفيديوهات التي تُسرَّب أو يقومون هم بنشرها.

ويوضح وهاب، أنّ "هناك تهديدات أخرى تتمثّل في الاختراق الإلكتروني، وسرقة البيانات الشخصية أو المهنية واستخدامها في عمليات التصيّد الاحتيالي وخداعهم للحصول على معلومات حسّاسة منهم، وتالياً ابتزازهم عبر استغلال الضعيف منهم نفسياً أو مالياً، أو حتّى تفادياً لتشويه السمعة اجتماعياً، ما يزيد من نسبة احتمالية تجنيدهم لصالح كيانات خارجية أو داخلية لغرض زعزعة الأمن والاستقرار، أو توريطهم في ممارسات الجريمة المنظّمة. فضلاً عن ذلك، يمكن استخدام المعلومات المسرّبة في 'الاستخبارات العكسية'، أي تحليل المعلومات لاستنتاج إستراتيجيات المؤسسات الأمنية".

"بالرجوع إلى تاريخ تسريبات المعلومات التي ظهرت إلى العلن خلال الـ10 سنوات السابقة، فأبرز الاستغلالات تمثّلت في التخطيط للهجمات عبر تحديد مواقع العناصر الأمنية وتحرّكاتهم لتنفيذ هجمات استهداف"، يقول وهاب.

"ألو شؤون، وياك رئيس عرفاء (رتبة عسكرية)، علي حسين حسن، من مديرية شرطة الطاقة، لواء القوة الضاربة"؛ هكذا ورد في اتصال (رابط مؤرشف) على الهواء مباشرةً، من قبل عنصر أمني برتبة رئيس عرفاء، وجّه مناشدةً لمسؤولَين أمنيَين ظهرا في برنامج "يستجيب لمناشدات عناصر الأمن"، ويُبثّ على قناة الفرات المملوكة لرجل الدين وزعيم تيار الحكمة الوطني عمار الحكيم، ليأتيه الرد على الهواء أيضاً: "نريدك تتوجه إلى مقرّ شؤون نفط الجنوب، العميد محمد عكاب. اسمع النداء...". يتلقّى هذا البرنامج مئات الاتصالات المشابهة شهرياً، ويتم التعامل معها بالطريقة العلنية ذاتها، دون خصوصية لأسماء ومواقع العناصر أو عناوين المؤسسات العسكرية وطريقة سير عملها.

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحلقات يتم اجتزاء مقاطع منها -عادةً ما تكون للحالات الإنسانية المؤثّرة- ويتم ترويجها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما يزيد من نطاق انتشارها.

لقطة من برنامج "ألو شؤون" على يوتيوب.

لقطة من برنامج "ألو شؤون" على يوتيوب.

ويعتقد الصحافي والباحث في مركز رؤية بغداد لتطوير الإعلام والدراسات، محمود النجّار، أنّ هناك مشكلةً كبيرةً في ما يتعلّق بتداول المعلومات الخاصة بعناصر الأمن العراقيين. يقول لرصيف22: "من الناحية المنطقية لا يمكن أن تكون متاحةً للجميع، في ظلّ وضع أمني معقّد وفصائل مسلحة متداخلة وميليشيات تتحكم في الجانب الاستخباري، في أقبية الحكومة العراقية الأمنية ودوائرها البوليسية".

ويلفت إلى أنه "يجب ألّا تكون هناك 'طشّة' (شهرة)، فكم من المنتسبين الذين تم استقبالهم أمام الكاميرات، ولكن لم تُحلّ مشكلاتهم؟ الجيش تم تقسيمه بشكل طائفي منذ 2003، بنسبة كبيرة، وحتّى هذه اللحظة. نحن نتحدث عن 22 عاماً من الفساد الطائفي في التشكيلات الوزارية، فكلّها مقسّمة على أساس طائفي وسياسي، وتالياً ربما تحدث عمليات انتقام، أو إفشاء أسرار أو ابتزاز ما بين كبار الضبّاط والمنتسبين الذين يقدمون الشكاوى ضدهم".

"ما يحدث في الإعلام العراقي أكاد أن أسمّيه 'مراهقة الترندات'، إذ إن آخر ما كنّا نتوقعه أن يظهر في الإعلام عبر برامج أمنية واستخبارية، عناصر الأمن، لأنهم كانوا دائماً يوصلون رسالةً مفادها أننا نعيش في دولة بوليسية، وأنّ الجندي فوق الجميع، وحكومة العسكر والبسطال العسكري هي التي تتحكّم في المجتمع، والآن في لحظة يخرجون في الإعلام ويستقبلون الشكاوى ويعملون هذه الدراما"، يقول النجّار.

"هناك تهديدات أخرى تتمثّل في الاختراق الإلكتروني، وسرقة البيانات الشخصية أو المهنية واستخدامها في عمليات التصيّد الاحتيالي… فضلاً عن ذلك، يمكن استخدام المعلومات المسرّبة في 'الاستخبارات العكسية'، أي تحليل المعلومات لاستنتاج إستراتيجيات المؤسسات الأمنية"

نقطة مهمة أخرى يلفت إليها الخبير الأعسم، هي الوثائق (1) والبرقيات الأمنية التي تُسرّب (2) إلى مواقع التواصل الاجتماعي، قبل تاريخ إصدارها، والتي لا تزال منشورةً على الرغم من وجود قانون "حفظ الوثائق الحكومية" الذي يمنع ذلك.

يشرح الأعسم، ما قد تتسبّب فيه هذه التسريبات، قائلاً: "إذا كنّا نتحدّث عن المجاميع الإرهابية، فقد وصلت إليها المعلومات المُسرّبة بأنّ هناك مثلاً في الساعة (4:00) أو (6:00) تفتيشاً لمنطقة معيّنة، وبهذا يتم تبليغ العناصر الموجودة في تلك المنطقة، فإن كان هناك دواعش أو مجرمون، فسيهربون، وإن كان هناك تجّار مخدرات فإنهم سيخفون معالم الجريمة… هذه المعلومات كلها تصل إلى تلك الجهات قبل تنفيذ المُهمّة، وهذا فشل ذريع".

كما يشير إلى أنّ "تاجر المخدرات أصبح يعرف بالمعلومات التي تخصّ منطقته قبل الجهة المسؤولة عن تنفيذ الأمر الأمني، وهذا نتيجة خلل ورشاوى وتعاون مع بعض الأطراف واستغلال مناصب ووجود شخصيات مسؤولة كبيرة تقف وراء هذه الجهات، سواء كانت على مستوى حيتان (فاسدين) داخل البلد، أو لديها علاقات بالمؤسسة العسكرية".

صورة لإحدى البرقيات الأمنية المسرّبة إلى مواقع التواصل الاجتماعي.

صورة لإحدى البرقيات الأمنية المسرّبة إلى مواقع التواصل الاجتماعي.

في مؤسسة رسمية أخرى، هي المفوضية العراقية العليا للانتخابات، لا تزال بعض الكوادر تعتمد على أساليب تواصل تقليدية، إذ تستخدم واتساب لإرسال صور البطاقات الخاصة بالانتخاب إلى كل ناخب، ويتم ذلك من خلال رقم الهاتف الشخصي الخاص بالموظّف المسؤول، أي أنّ بطاقة الناخب لا خصوصية لها ويمكن أن يطّلع عليها موظف أو أكثر قبل وصولها إلى صاحبها، ويمكن أن تبقى صورة منها محفوظةً لدى الموظف. يمكن استيعاب خطورة ذلك بالنظر إلى أنّ بطاقات الناخبين تُباع في "مزادات" مع اقتراب الموسم الانتخابي.

صورة تُظهر تواصل أحد موظفي المفوضية من هاتفه الشخصي مع أحد الناخبين على واتساب.

صورة تُظهر تواصل أحد موظفي المفوضية من هاتفه الشخصي مع أحد الناخبين على واتساب.

فضح "المتهمين" قبل إدانتهم

شكل آخر من أشكال انتهاك الخصوصية وكشف البيانات والإضرار الرقمي بالمواطنين يتمثّل في فضح هوية المتهمين الذين تُلقي القوات الأمنية القبض عليهم، فضلاً عن صور الضحايا، إمّا بأن تقوم الجهات المسؤولة بنشرها، أو بأن يُسرّبها عناصر هذه الجهات إلى مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، لتكون المؤسسة في مأمن من المساءلة.

أحياناً، لا يمكن التحقّق من حقيقة المنشور أو صدقية الاتهام. على سبيل المثال، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، راجت على صفحات (رابط مؤرشف) فيسبوك، صور لمجموعة من الأشخاص مكشوفي الوجوه، تحت عنوان: "اعتقال 'شبكة دعارة' في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد"، دون أن تعلن عنها أو تنشرها الداخلية العراقية، وهو ما يُثير تساؤلات عن كيفية وصول هذه الصور إلى هذه الصفحات إن كان الادعاء حقيقياً، وتساؤلات عن دور الوزارة في مواجهة هذا التشهير إن لم يكن كذلك.

لقطة للمنشور الذي يظهر صور المتهمين مكشوفي الهويات.

لقطة للمنشور الذي يظهر صور المتهمين مكشوفي الهويات.

كذلك، نشرت (مؤرشف) الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية العراقية على فيسبوك، بياناً جاء فيه: "بعد تعنيفه لحفيدته... قوة من وزارة الداخلية تلقي القبض على متّهم تجرّد من الإنسانية"، متجرّدةً هي أيضاً من الإنسانية بإرفاقها صورة الطفلة المُعنَّفة في منشورها مكشوفة الوجه.

صورة لمنشور وزارة الداخلية العراقية.

صورة لمنشور وزارة الداخلية العراقية. جرى إخفاء ملامح الطفلة لحماية خصوصيتها.

حالة أخرى تعكس فوضى الوعي الرقمي لدى منتسبي القوى الأمنية، وهذه المرّة تتمثّل في نشر الصحافي العراقي زيد شبّر، مقطع فيديو عبر حسابه الشخصي على فيسبوك، يُظهر عنصراً من "شرطة النجدة" وهو يلتقط صورةً لرقم سيارته التي أوقفها في العاصمة بغداد، وعندما سأله عن سبب قيامه بذلك، قال له: "ممنوع الوقوف هنا"، ليُجيبه الصحافي قائلاً: "غرّمني، ليش أخذت صورة للرقم؟". ويضيف شبّر، لرصيف22، أنه ليس من صلاحية شرطة النجدة محاسبة المركبات التي تقف في أماكن ممنوع الوقوف فيها، بل إنها من صلاحية شرطة المرور، فيما "شرطة النجدة مُهمّتها تقديم المساعدة لمن يستنجد بها وليس تغريم السيارات".

شرطي يقوم بتصوير أرقام لوحات سيارة مواطن

ويشير شبّر، إلى أنّ ما أثار قلقه من تصوير أرقام لوحات سيارته هي ما تُعرف بـ"التوأمة"، وهي عملية يتم خلالها "تصوير أرقام لوحات السيارة من قبل بعض ضعاف النفوس، ثم استنساخها على لوحات جديدة وتركيبها على سيارة غالباً ما تكون مسروقةً، واستخدامها في عمليات إجرامية ويتحوّل مالك السيارة الأصلية إلى متّهم أول".

وفي هذا الصدد، توضح المحامية العراقية نَوف الطائي: "وفق قانون المرور العراقي رقم 8 لسنة 2019، فإنّ الجهة المُخولة تحرير المخالفات المرورية هي مديرية المرور العامة والتي تشمل مُنتسبيها وضبّاطها، وشرطة النجدة ليست من ضمن الجهات التي تُصدر مُخالفات مروريةً، لكن لها صلاحية التدخل في حالة الإخلال بالنظام العام أو تعريضِ السلامة المرورية للخطر، وقد توثّق المُخالفة لإبلاغ الجهات المُختصة وليس لأغراض شخصية".

وتضيف الطائي، لرصيف22: "في الأصل، قانون المرور العراقي لا يوجد فيه ما يمنع التقاط الصور في الأماكن العامة، ومنها المركبات المُخالِفة وإبلاغ الجهات المُختصة، ولكن ما يستجلب تبعات قانونيةً هو نشر الصورة، إذ يُعدّ تشهيراً وانتهاكاً للخصوصية، فما بالك إذا كان شرطي نجدة ولا يملك هذه الصلاحية، أو إذا أثبت الشخص تضرره مادياً أو معنوياً من الأمر، حتّى لو كانت المُخالفة صحيحةً، أو إذا تم إجبار صاحب المركبة على دفع المال أو القيام بفِعل مُعيّن؟ هُنا يواجه جريمة الابتزاز".

وتكمل: "نعم، المخاوف (لدى شبّر) واقعية لكون حوادث توأمة الأرقام حقيقيةً وتُستخدم في أمور غير قانونية مثل التهرّب من المُخالفات، والسرقة، والتهريب، والتفجيرات وإعادة بيع المركبات المسروقة. لذلك يجب على صاحب المركبة الحرص ليس فقط لأجل هذا الغرض، بل لتكون حقوقه واضحةً وكذلك موقفه، عن طريق مُتابعة أيّ مخالفات تصدر بحق المركبة دون علمه وتثبيت كاميرا لتوثيق تحركات المركبة".

الأمن الرقمي تحت سطوة "المال السياسي"

من جانب آخر، تنتشر البرامج التلفزيونية التي تقدّمها عناصر أمنية، في قنوات تابعة لجهات غير رسمية، ويُشغّلها المال السياسي. من ذلك، برنامج "نداء رقم 1 مع عزيز ناصر"، الذي يقدّمه الضابط البارز في وزارة الداخلية، الرائد عزيز ناصر، على قناة الرابعة التي يُعتقد أنها مملوكة لسياسية عراقية معروفة.

برنامج نداء رقم 1

وخلال البرنامج، يظهر ناصر، مرتدياً زيّه العسكري، مستخدماً آليات تابعةً لوزارة الداخلية، وفي بعض الأحيان يتم تصوير البرنامج خلال تنفيذ عمليات أمنية حقيقية، ما يطرح تساؤلات حول قانونية هذا الأمر، ومدى شرعية استخدام آليات الدولة لتصوير برامج تلفزيونية لصالح محطات خاصة.

عن هذا، يقول الخبير القانوني جمال الأسدي، لرصيف22: "هناك مخالفة قانونية واضحة في هذا الجانب، سواء في قانون العقوبات العراقي أو عقوبات الأمن الداخلي، بالإضافة إلى تعليمات العمل الشرطوي، وهناك أشخاص تمّت إحالتهم إلى المحاكمة بسبب هذا الأمر، لكن لم يتم اتخاذ الإجراءات بحقهم، لأنّ لديهم عدد متابعين كبيراً، ومع الأسف، التأثير الإعلامي أصبح أكثر من القانوني".

"ما يحدث في الإعلام العراقي أكاد أن أسمّيه 'مراهقة التريندات'. إذ إن آخر ما كنّا نتوقعه أن يظهر في الإعلام عبر برامج أمنية واستخبارية، عناصر الأمن"... كشف هويات عناصر أمنية، واستعراض ملفات سرّية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتعريض أمن منتسبي أجهزة أمنية ومواطنين للخطر، أو فوضى "الأمن السيبراني" في العراق

بالتحقق من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، يشير الأسدي، إلى المادة 260 منه، والتي تنصّ على أن "يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على ثلاثمئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من انتحل وظيفةً من الوظائف العامة أو تداخل في وظيفة أو خدمة عامة، مدنيةً كانت أو عسكريةً أو أجرى عملاً من أعمالها أو من مقتضياتها بغير حق، وكان ذلك دون صفة رسمية أو إذن من جهة مختصة".

المادتان 260 و261 من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969.

المادتان 260 و261 من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969.

قد يُعدّ حصول عناصر الأمن على موافقات من الجهات المختصة، منفذاً لتطبيق هذه الأفعال، لكن الأسدي، يلفت إلى أنّه "وفق المادتين 260 و261، يُعدّ هذا استعمال صفات رسمية في واجبات غير رسمية. وفي تحقيقات سابقة حول الموضوع، تبيّن عدم وجود موافقات تحريرية لحالات الظهور هذه في القنوات الإعلامية، وضبط ونشر الإفادات وإجراء لقاءات مع المتهمين والمجرمين. هذا مخالف للقانون حتّى وإن أخذوا موافقة القاضي، ولم يُظهروا شكل المتهم، إذ لا يجوز هذا وفقاً للقانون، وهو مجرّم قضائياً".

ويتابع: "حتّى الموافقات يجب أن تصدر دون أن تكون هناك مخالفة للقانون، وما يحصل هو أداء عمل مخالف للقانون، وإذا كانت صادرةً من شخص مسؤول، فهو يخالف القانون ويتحمل المسؤولية القانونية، لأنه أعطى موافقات من غير موافقة القانون، ومن يعطي الموافقة أيضاً يخالف القانون".

وتجدر الإشارة إلى المادة (5) من قانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991 المعدّل وقواعد السلوك الخاصة بموظفي الدولة، إذ تنصّ على حظر أفعال عدة على الموظف العراقي، لعلّ أهمها: "أولاً، الجمع بين وظيفتين بصفة أصلية، أو الجمع بين الوظيفة وبين أي عمل آخر إلا بموجب أحكام القانون. سابعاً: عدم الاستغلال الصحيح لساعات العمل ووسائل الإنتاج بغية إنجاز الأعمال المنوطة به أو الإهمال أو التهاون في العمل بما يؤدي إلى إلحاق ضرر بالإنتاج أو الخدمات أو الممتلكات. رابع عشر: الإفضاء بأي تصريح أو بيان عن أعمال دائرته لوسائل الإعلام والنشر في ما له مساس مباشر بأعمال وظيفته، إلا إذا كان مصرّحاً له بذلك من الرئيس المختص". أما الفقرة الثانية من المادة (4) المتعلقة بواجبات الموظف، فتنصّ على "التقيّد بمواعيد العمل وعدم التغيّب عنه إلا بإذن، وتخصيص جميع وقت الدوام الرسمي للعمل".

المادة (5) من قانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991 المعدّل.

المادة (5) من قانون انضباط موظفي الدولة رقم 14 لسنة 1991 المعدّل.

ويقول الباحث محمود النجار، لرصيف22: "نحن مع الدولة العراقية ومؤسساتها التي تحمي أرواح العراقيين وكل تفاصيل حياتهم، ونؤيّدها إن كانت احترافيةً ونزيهةً وجدّيةً. لكن للأسف اليوم يتعامل الإعلام العراقي مع قضية ظهور الضابط أو الجندي، على أنها قضية تتعلق بإظهار العضلات والبطولات باعتبارها 'الحقيقة'".

حلول ضرورية

يمكن لبعض الحلول أن تساهم في تقليل هذه الفوضى، عبر إستراتيجيات وإجراءات كان يجب اتخاذها منذ زمن، أو يتم تطبيقها في حال وُجدت. وهنا يورد الخبير وهاب، بعضاً منها: "مبدئياً يجب أن تتخذ الدولة الإجراءات التالية لمكافحة ظاهرة 'الجهل الرقمي' في كل المؤسسات ومنها الأمنية، وأوّلها: تطوير وسنّ قوانين وسياسات وإجراءات صارمة لإدارة المعلومات وحمايتها، وتتوازى العملية مع التحديث التكنولوجي، وتوفير أدوات وتقنيات حديثة لحماية البنى التحتية الإلكترونية".

ويضيف: "التدريب المستمر وتنظيم دورات تدريبية مكثفة حول الأمن السيبراني والممارسات الرقمية الآمنة، فضلاً عن التوعية المستمرة بأخطار الجهل الرقمي وكيفية تجنّبها، بالإضافة إلى إنشاء وحدات ومؤسسات متخصصة في الاستجابة للحوادث الأمنية والتهديدات الإلكترونية، وضرورة التعاون الدولي وتبادل الخبرات والمعرفة مع الدول الأخرى في مجال الأمن السيبراني، وأخيراً إجراء التقييمات الدورية للمؤسسات ومستوى الوعي الرقمي وفعالية الإجراءات المتخذة للأفراد والكيانات".

هذه البيانات المسرّبة كلها، والمنشورة عمداً، يمكن القول عنها إنها سلوك ممتدّ منذ سنين في الدولة العراقية، وتالياً فإن نتاجاته رافقت كل الأزمات التي عصفت بالعراق، ولعلّ أهمها سيطرة تنظيم داعش على عدد من مناطقه قبل التحرير، والعمليات الانتقامية التي حصلت بحق ضباط كبار وشخصيات وطنية رفيعة. فهل سيتغوّل هذا السلوك أكثر مما هو عليه، أم تضع السلطات في العراق حدّاً لما يجري عبر سنّ القوانين وتنفيذها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image