اشتباكات طرابلس... كيف نفهم

اشتباكات طرابلس... كيف نفهم "لعبة الكراسي" للميليشيات المسلّحة في ليبيا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتطرف

الجمعة 16 مايو 202506:13 م

تفجّرت الأوضاع مجدداً في العاصمة الليبية طرابلس، الإثنين 12 أيار/ مايو 2025، إثر الإعلان عن مقتل قائد جهاز ما يسمّى بـ"دعم الاستقرار" التابع للمجلس الرئاسي، عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، أحد أبرز وجوه المشهد الأمني في ليبيا منذ إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، والذي راكم خلال السنوات الأخيرة قوةً ونفوذاً جعلاه هو وجهازه رقماً صعباً في خريطة الجماعات المسلحة التي تشكّل في مجملها القوى الحقيقية المسيطرة على المنطقة الغربية، وليس العاصمة فحسب.

ولم تعلن وزارة الدفاع في حكومة "الوحدة الوطنية المؤقتة"، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، صراحةً مسؤوليتها عن مقتل غنيوة، لكنها أعلنت سيطرتها على كامل منطقة أبو سليم، جنوبي العاصمة، التي كانت مركزاً لجهاز "دعم الاستقرار"، وانتهاء "عمليتها العسكرية بنجاح"، بينما دان الجهاز "الجريمة النكراء"، مطالباً بإسقاط الحكومة، ومتوعداً بملاحقة قاتلي غنيوة.

قصة صعود غنيوة، وسقوطه، لا تُفهم بمعزل عن صورة أكبر لبلد تعمّه الفوضى منذ إسقاط نظام القذافي عام 2011، بعدما فشلت الثورة في فرض نظام جديد، ما أدى إلى انقسام البلاد على نفسها بين حكومة في الغرب يرأسها حالياً الدبيبة، تنضوي تحت لوائها جماعات مسلحة عدة تتنافس في ما بينها على مناطق النفوذ، وأخرى في الشرق برئاسة أسامة حماد، مدعومة من قوات "القيادة العامة" بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي استطاع إلى حدّ كبير إعادة تشكيل الجيش الليبي، لكن تلاحقه اتهامات بالاستبداد والحكم المطلق والفساد.

وعلى إثر اغتياله، شهدت العاصمة الليبية اشتباكات عنيفةً وتوتراً أمنياً وحشداً عسكرياً متبادلاً بين الجماعات المسلحة المسيطرة على طرابلس ومدن أخرى في غرب ليبيا. وعلى الرغم من الهدنة الهشّة والاستقرار النسبي اللذين تشهدهما البلاد راهناً، إلا أنّ تظاهرات شعبيةً خرجت في العاصمة تطالب بالوقف الفوري للقتال، ووضع حدّ لنفوذ الجماعات المسلّحة، جنباً إلى جنب مع تحميل الدبيبة المسؤولية عما حدث. 

في المقابل، حذّر جهاز دعم المديريات التابع لوزارة الداخلية، الجمعة 16 أيار/ مايو الجاري، من أنه "لن يتساهل مع المندسّين والمجرمين الذين يحاولون جرّ البلاد إلى ما لا تُحمد عقباه"، داعياً الجميع إلى "التحلّي بالوعي والمسؤولية". وبينما تحدّث عن "تحريض المواطنين على الفوضى"، توعّد بأنه "لن يتراجع عن طريق بناء مؤسسة شرطية نظامية محترفة بعيداً عن ضوضاء وفوضى الميليشيات التي عاثت في ليبيا قتلاً وإجراماً وفساداً لأكثر من عقد من الزمان".

"حليف الأمس أصبح عدوّ اليوم"... ما هي أسباب الاشتباكات بين المليشيات المسلحة في العاصمة الليبية طرابلس؟ وهل تُسفر عن تغيير خريطة القوّة في المشهد الأمني؟ أو أنّ الدبيبة يغازل واشنطن؟

"لعبة الكراسي" في طرابلس

وفي حديث إلى رصيف22، يرى المحلل السياسي الليبي عبد الله الكبير، أنّ مقتل غنيوة وما تبعه من اشتباكات أدت إلى السيطرة على معسكرات جهازه في منطقة أبو سليم المكتظة بالسكان في العاصمة لصالح تشكيلات عسكرية أخرى تابعة لوزارة الدفاع في حكومة الدبيبة، من بينها "اللواء 444" بقيادة محمود حمزة، "محاولة لتشكيل مشهد أمني وعسكري جديد في طرابلس عبر إنهاء أو إضعاف التشكيلات الموازية لسلطة الحكومة".

وتعكس تأكيدات الدبيبة، خلال اجتماع أمني رفيع المستوى مع وزير الداخلية المكلّف، عماد الطرابلسي، وآمر اللواء "444"، محمود حمزة، ووكيل وزارة الدفاع عبد السلام الزوبي، رؤية الكبير، إذ قال، بعد يوم من مقتل غنيوة، إنّ جميع المعسكرات والمنشآت العسكرية في البلاد يجب أن تخضع حصراً لوزارة الدفاع والجيش، عادّاً أنه لا شرعية لأيّ كيان مسلّح خارج هذا الإطار، وأن الانضباط المؤسسي هو القاعدة التي لا يُستثنى منها أحد.

لذلك لم يقتصر الأمر عند حدود جهاز "دعم الاستقرار"، فما إن هدأت الاشتباكات التي أعقبت مقتل غنيوة، حتى اندلعت اشتباكات أخرى أكثر ضراوةً بين تشكيلات تتبع وزارة الدفاع وجهاز آخر يتبع اسمياً أيضاً للمجلس الرئاسي، وهو "قوة الردع" تحت إمرة عبد الرؤوف كارة.

وعن هذا، يضيف الكبير: "الأمور تطورت إلى اشتباكات مسلحة عنيفة في أحياء سكنية مكتظة بالسكان مع تحرك قوات من خارج العاصمة للتدخل في الصراع، ما كان سيؤدي إلى إطالة أمده ويعيد الحرب الأهلية من جديد. لكن تدخّل قيادات عسكرية واجتماعية محايدة بين الطرفين أفرز هدنةً مؤقتةً في انتظار القرارات النهائية من السلطات الرئاسية في طرابلس لإنهاء النزاع المسلح والبحث عن سبيل لحلّ الخلافات عبر الحوار".

وما نجحت فيه القوات التابعة للدبيبة، مع جهاز "دعم الاستقرار"، فشلت في تطبيقه مع "قوة الردع"، إذ أعلنت وزارة الدفاع في بيان، "بدء تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع محاور التوتر داخل العاصمة طرابلس"، داعيةً جميع الأطراف إلى "الالتزام بوقف إطلاق النار والابتعاد عن التصريحات التحريضية أو أي تحركات ميدانية من شأنها إعادة التوتر"، مؤكدةً أنّ تعاملها مع التطورات الأخيرة جاء "في إطار الواجب الوطني، وبما يضمن حماية النظام العام، ومنع محاولات استغلال الظروف لتحقيق أجندات تتعارض مع شرعية الدولة ومؤسساتها".

ولتفسير هذا الاختلاف، يقول المحلل العسكري الليبي، محمد الترهوني، لرصيف22: "جهاز دعم الاستقرار انهار في لحظات وبشكل مفاجئ بعد تصفية زعيمه لما كان يمثّله غنيوة من رمزية، فيما يتميز 'الردع' بقاعدته الشعبية الكبيرة، خاصةً في مناطق نفوذه في سوق الجمعة وتاجوراء في العاصمة، بفضل الغطاء الديني السلفي الذي ينتهجه"، محذّراً من حساسية التعامل مع هذا الجهاز في ضوء "وجود عشرات من إرهابيّي داعش في سجونه".

"لا تبدو أسباب الاشتباكات واضحةً حتى الآن، لأنّ طرفاً لم يعلن لماذا يقاتل، إنما المعلوم أن الزوبي عائد من واشنطن، لذلك يُرجَّح احتمالان؛ إما تلقّيه أوامر بتصفية الميليشيات الأقوى في العاصمة أو أنه سمع بأنّ أمريكا تتعامل مع الأقوى على الأرض فحسب"

خطة أو تصفية؟

وتتمسك حكومة الدبيبة، باعتبار تحرّكاتها جاءت ضمن خطة أمنية معلنة مسبقاً لإخلاء العاصمة من التشكيلات المسلحة. ويذهب الخبير العسكري، عادل عبد الكافي، إلى أنّ الاشتباكات جاءت نتيجة "عدم رغبة بعض التشكيلات المسلحة في التماهي مع هذه الخطة" في ظل حالة "عدم الثقة".

ويوضح عبد الكافي، لرصيف22، أنّ حكومة طرابلس تستهدف ضمّ كل التشكيلات المسلحة في العاصمة أو في المنطقة الغربية عموماً تحت لواء وزارتَي الدفاع والداخلية ورئاسة الأركان، في ما يشبه "إعادة الهيكلة والترتيب" لتفادي "تضارب القرارات وتداخل الاختصاصات" اللذين كانا سائدين في عهد حكومة "الوفاق الوطني" السابقة، ومجلسها الرئاسي برئاسة فائز السراج، ما أدى إلى كثير من "الارتباك" في المشهد الأمني.

لكن الترهوني، يعارض هذا الرأي ويعزو الاشتباكات الأخيرة في طرابلس إلى محاولة حكومة الدبيبة "تصفية خصومها السياسيين"، ويقول: "ما يحدث ليس عمليةً أمنيةً بل تصفية لخصوم سياسيين. جرى استدراج غنيوة إلى معسكر التكبالي التابع للّواء 444، برئاسة محمودة حمزة، ومن ثم تصفيته".

ويضيف: "حليف الأمس أصبح عدوّ اليوم، كان هناك خلاف بين غنيوة والدبيبة، بخصوص السيطرة على الشركة القابضة للاتصالات، والشركة العامة للكهرباء (...) بات غنيوة ينافس الحكومة في الإيرادات وفرض القرار، لم يكن خلافاً وطنياً وإنما خلاف حول تقاسم التركة".

ضوء أخضر أمريكي؟

وإلى جانب "لعبة الكراسي" بين التشكيلات المسلحة في صراعها على مدّ نفوذها في الغرب الليبي، يضيف الكاتب الليبي، أحمد التهامي، بعداً آخر للمسألة، إذ يرجّح في حديثه إلى رصيف22، حصول حكومة الدبيبة على ضوء "أخضر أمريكي".

ويقول: "لا تبدو أسباب الاشتباكات واضحةً حتى الآن، لأنّ طرفاً لم يعلن لماذا يقاتل، إنما المعلوم أنّ (وكيل وزارة الدفاع عبد السلام) الزوبي عائد من واشنطن، لذلك يرجَّح احتمالان؛ إما تلقّيه أوامر بتصفية الميليشيات الأقوى في العاصمة أو أنه سمع بأنّ أمريكا تتعامل مع الأقوى على الأرض فحسب".

وزار الزوبي، واشنطن، مطلع الشهر الجاري، والتقى نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوشوا هاريس والمبعوث الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، فضلاً عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية، لبحث "التقدم المحرز مؤخراً في الجهود الليبية لتوحيد المؤسسات العسكرية". وأثارت الزيارة زوبعةً من الجدل بعدما تزامنت مع تقارير غربية أفادت باعتزام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ترحيل مهاجرين إلى ليبيا، وهو ما نفت حكومة الدبيبة والحكومة المناوئة لها في الشرق، الضلوع فيه.

ولا يستبعد التهامي، اتفاق حكومة الدبيبة، على "صفقة" مع الإدارة الأمريكية يكون من نصيب ليبيا فيها "استقبال المهاجرين المحكومين مقابل غضّ الطرف أو منح ضوء أخضر لتشكيل خريطة نفوذ جديدة" في طرابلس، ويقول: "هو أمر محتمل (...) ما الذي يمنع حكومة الدبيبة من تسليم أرض لأمريكا وأن تلعب دور سجّان خاص لها، فقد سبق أن سلّمتها مواطناً"، في إشارة إلى أبو عجيلة مسعود المريمي، المحتجز لدى الولايات المتحدة على خلفية ملف تفجير طائرة أمريكية فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية عام 1988، والذي أسفر عن مقتل 270 شخصاً.

في الأثناء، يرى الترهوني، أنّ حكومة الدبيبة تُحاول إرسال رسالة إلى واشنطن مفادها أنها "قادرة على فكّ المليشيات في العاصمة"، وأنها "تحاول إنهاء سيطرتها". 

يتوقع المحلل عبد الله الكبير، أن تدفع التطورات الأخيرة بعثة الأمم المتحدة إلى دعم تسريع ليبيا تنفيذ مبادرتها للحلّ السياسي بتوافق أطراف النزاع كلها، مؤكداً أنّ "تغيير الحكومة ممكن إذا جرى عن طريق حوار سياسي ترعاه البعثة الأممية. الدبيبة لن يستطيع رفض نتائج هذا الحوار، وسيُسلّم السلطة طوعاً ويغادر"

هل منحت الاشتباكات العملية السياسية "قبلة الحياة"؟

وقدّمت المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا هانا تيتيه، قبل يومين من اندلاع الاشتباكات في طرابلس، إحاطةً للدبيبة حول نتائج عمل اللجنة الاستشارية التي شكّلتها البعثة الأممية لحلحلة العراقيل أمام إجراء الانتخابات في البلاد التي من المأمول أن تُحدث اختراقاً في العملية السياسية التي لم تراوح مكانها منذ أمد طويل.

وفي هذا السياق، يلفت التهامي، إلى ما يمكن أن تحققه اشتباكات طرابلس في هذا التوقيت بالتحديد من مكاسب للدبيبة، خاصةً في ضوء المساعي الحالية لتشكيل حكومة جديدة، قائلاً: "يرغب الدبيبة في فرض نفسه كقوة كبرى وحيدة في طرابلس"، متوقعاً أن تصمد الهدنة في العاصمة بين "الردع" والقوات المنضوية تحت لواء الحكومة في ضوء "عدم قدرة أي من هذه القوى على الحسم".

يتبنى المحلل عبد الله الكبير، موقفاً أكثر تفاؤلاً إذ يتوقع أن تدفع كل هذه التطورات بعثة الأمم المتحدة إلى دعم التسريع بتنفيذ مبادرة للحل السياسي في ليبيا عبر توافق كل أطراف النزاع على حكومة جديدة وتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات، ويقول: "تغيير الحكومة ممكن إذا جرى عن طريق حوار سياسي ترعاه البعثة الأممية. الدبيبة لن يستطيع رفض نتائج هذا الحوار، سيُسلم السلطة طوعاً ويغادر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image