في السادس من آذار/ مارس 2025، بدأت المجازر في الساحل السوري. في تلك الليلة قرأت كثيراً من الأخبار، وشاهدت العديد من الفيديوهات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عمّا يحدث من قتلٍ ورعبٍ، وكنت بين الحين والآخر أسمع صوت رصاص قوياً، ما جعلني أخمّن أن ما يحدث ليس بعيداً، وأن الموت قد يصل إلى قريتي في أي لحظة.
مع شروق الشمس، توقفت عن متابعة الأخبار، وبدأت أفكر في خططٍ للنجاة، وبعد تفكيرٍ طويلٍ استطعت وضع خطّتين؛ الأولى نهارية والثانية ليلية، بالإضافة إلى خطّة طوارئ.
الخطّة النّهارية
خلال النهار، كانت فرصتي في النجاة أكبر منها في الليل، لأنني أكون خارج المنزل أكثر الأحيان، وبإمكاني في حال حدوث أي شيء الهروب إلى البساتين التي تحيط بقريتي من كل الجهات. هذه الخطة لم تكن بحاجة إلى أي تجهيزات؛ فبمجرد سماعي صوت الرصاص يقترب من القرية، كل ما يجب عليّ أن أفعله هو الركض ومن ثم الاختباء، فجوهر هذه الخطة يعتمد على الركض بكل ما لديّ من قوة في البساتين هرباً من الموت.
حين قارنت وضع أبناء القرى بوضع أبناء المدن من الطائفة العلوية، اكتشفتُ أنّ أبناء القرى أكثر حظاً؛ لأنهم يملكون فرصة الهروب نحو البساتين أو الغابات والاختباء فيها، بينما أبناء المدن مجبرون على البقاء في بيوتهم وانتظار الموت. لقد كانوا محرومين من هذه الفرصة كمحاولةٍ أخيرةٍ للنجاة.
في السادس من آذار/ مارس 2025، بدأت المجازر في الساحل السوري. في تلك الليلة قرأت كثيراً من الأخبار، وشاهدت العديد من الفيديوهات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عمّا يحدث من قتلٍ ورعبٍ... مع شروق الشمس، توقفت عن متابعة الأخبار، وبدأت أفكر في خططٍ للنجاة
الخطّة الليلية
خطّة الهروب ليلاً كانت بحاجة إلى بعض التجهيزات؛ أوّل شيء خطر على بالي هو استبدال ثياب النوم التي أرتديها عادةً، بثيابٍ رياضيةٍ مريحةٍ وسميكةٍ تحميني من البرد، ثم وضع حذائي الرّياضي بالقرب من سريري، فهذه الخطة أيضاً تعتمد على الركض والاختباء.
بعد ذلك جهّزت حقيبةً صغيرةً وضعت فيها القليل من التبغ، ومحفظةً صغيرةً فيها هويتي الشخصية، ومبلغاً من المال وعلبة عسلٍ صغيرةً ومصباحاً يدويّاً و"هارداً" فيه كل كتاباتي وفيديوهاتي وصوري.
وبما أنه لا يوجد سوى بابٍ واحدٍ لمنزلي، من الحديد، فليس من المنطقي في حال جاء القتلة أن أخرج منه، لذلك وضعت سلّماً خشبياً خلف المنزل، وبالطبع الوقت الذي يحتاجونه لخلع الباب الحديدي سيكون كافياً لأصعد إلى سطح المنزل، وأنزل على السلّم وأهرب. لحظتها لم أكن أرغب في التفكير بما أنه يوجد بابٌ حديديٌّ متينٌ لمنزلي، فالقتلة حتماً سينتشرون حوله بحثاً عن باب آخر، وسيجدونني وأنا أنزل على السلّم؛ لأنني بهذا التفكير أكون قد فقدت أي فرصةٍ للنجاة.
مضى اليوم الأول، ولم يأتِ أحدٌ إلى قريتنا، فقلت لنفسي يجب أن أتدرّب على خطة الهروب الليلة مرات عدّة، لأعرف كم سأحتاج من الوقت كي أهرب، وفي كل مرة كنت أُحرز تقدّماً ملحوظاً، علماً بأنني في المحاولة الأولى نفّذت المهمة خلال دقيقة ونصف تماماً، لكنني في المحاولة الخامسة استطعت خلال دقيقة واحدة أن أنفّذها. شعرت بالثقة وقلت لنفسي: حين يأتون سأكون خائفاً، وغريزة البقاء ستدفعني لأنجز الأمر خلال 20 أو 30 ثانيةً، وبالطبع هذا التفكير كان نوعاً من الدعم النفسي الهشّ لذاتي.
كنت شبه واثقٍ بأنّ ما أخطط له لن ينجح؛ خاصةً الخطة الليلية، لكنني كنت بحاجة إلى هذه الخطط الهشّة التي تحمل قليلاً من الأمل في النجاة، كنت بحاجة إليها كثيراً لأنني لم أكن قادراً على تحمّل فكرة أن أموت ببساطةٍ على يد شخصٍ يوجّه البندقية نحوي، ويقوم بإذلالي، ويطلب مني العواء أمام أمّي العجوز قبل قتلي.
لم أكن أريد الموت أمام الكاميرا لأسباب عديدة، منها أنني لا أريد أن ينتشر فيديو موتي على الإنترنت ويشاهده أهلي وأصدقائي، لأنهم سيتألمون وهم يشاهدون الثواني الأخيرة لي في هذه الحياة. وفي حال حدث ذلك، لا أريد لأحد منهم أن يفكر، ولو للحظة، مجرد تفكير وهو يشاهد قتلي في أن ينتقم حتى لو سنحت له الفرصة، بقتل قاتلي.
لم أكن أريد الموت أمام الكاميرا لأسباب عديدة، منها أنني لا أريد أن ينتشر فيديو موتي على الإنترنت ويشاهده أهلي وأصدقائي... وفي حال حدث ذلك، لا أريد لأحد منهم أن يفكر، ولو للحظة، مجرد تفكير وهو يشاهد قتلي في أن ينتقم حتى لو سنحت له الفرصة، بقتل قاتلي
فكرة الثأر بشعة ومدمرة وتحتاج إلى عشرات السنين لتتوقف، وقد لا تتوقف. وفكرة أن يموت أي شخص في العالم ثأراً لموتي غاية في البشاعة والظلم بالنسبة لي، وفكرة أن يصبح أي صديق أو قريب لي قاتلاً منتقماً لقتلي بشعة أيضاً.
لا أريد الموت أمام الكاميرا لأنني كنت وما زلت أفضّل أن أموت في السّرّ من دون أن يراني أحدٌ، وأنا ألفظ أنفاسي أمامه، فيتألم لأنه عاجز عن فعل أي شيء لينقذني.
في كل مرة تخيّلتُ فيها أنني سأموت أمام الكاميرا، كنت أشعر بالرعب وأحسد كل الأشخاص الذين ماتوا نتيجة مرض ما أو بالسكتة القلبية وما شابه… أحسدهم وأعدّهم محظوظين لأنهم ماتوا بعيداً عن كاميرات الهواتف الجوالة، وتم دفنهم تحت التراب ولم تبقَ أجسادهم في العراء لبضعة أيام.
في تلك الأيام المرعبة، تمنيت لو أنني كنت عصفوراً، لأنّ فرصة نجاتي من بنادق القتلة ستكون أعلى بكثير من كوني إنساناً. يبدو لي الموت بصفتي عصفوراً فيه نوع من العدالة لأنني سأحظى بفرصةٍ قويّةٍ للهروب، وأيضاً فرصة لخداع القتلة من خلال ضمّ جناحي والسقوط بشكل حرٍّ نحو الأرض متظاهراً بأنني قد أُصبْتُ. وفي حال متُّ فعلاً، لن يستطيع أهلي وأصدقائي العثور عليّ وسط الأحراش لأنني عصفورٌ صغيرٌ، ما يجعلهم يظنون أنني قد نجوت وقد أعود يوماً ما.
خطة الطوارئ
من المرعب أن يدقّ باب منزلك أشخاص غرباء تعلم أنهم قادمون ليقتلوك، وأنت عاجز حتى عن الفرار. يسألونك بعض الأسئلة ويسخرون من أجوبتك ويستمتعون بإهانتك ورؤية الرعب والعجز والذلّ الذي أنت فيه قبل قتلك.
من المرعب أن تنتظر موتك، وخلال انتظارك يكون الأمل الوحيد لديك هو حدوث معجزةٍ حقيقيةٍ كالتي نراها في أفلام السينما حين يتدخل بطلٌ خارقٌ، وينقذ شخصاً ما من الموت المحتم.
بالطبع أنت واثقٌ أنّ مثل هذه المعجزة لن تحدث، برغم ذلك تنتظر حدوثها في أيّ لحظة. تقول لنفسك ربما الثانية القادمة قد تحدث وتنجو، وتأتي الثانية القادمة ولا يحدث شيء، وبعد أن تمضي بضع ثوانٍ ويتم توجيه السلاح نحوك وأنت جاثٍ على ركبتيك تنظر إلى فوهة البندقية، تدرك أنّ المعجزة لن تحدث. فتقرر لحظتها أن تنفّذ خطة الطوارئ؛ وهي أن تقف على قدميك وتركض محاولاً أن تتفادى وابلاً من الرصاص. في تلك اللحظة تحديداً ستشعر بأشياء حارّة ومؤلمة تعبر جسدك بسرعةٍ هائلةٍ، وتفعل به مثلما فعلت الروايات ودواوين الشعر والموسيقى والسينما بروحك حين حررتها من بشاعة هذا العالم وقسوته، ثم تموت على الفور قبل أن تدرك ماذا حدث. تموت قبل أن تعرف إن كانت خطتك الأخيرة للنجاة، والتي تعتمد أيضاً على الركض ومن ثم الاختباء، قد نجحت أو لا؟
تموت وفي بالك سؤال مفاده: هل كنتُ أسرع من الرصاصات؟
تموت دون أن تعرف بأنّ خطتك قد نجحت لأنك متّ بشكل سريع، وبأنك كنت محظوظاً بموتك السريع والفوريّ لأنه أكثر رحمةً من أن تصاب بطلقةٍ ناريّةٍ، وتبقى تنزف وتتألم وتموت ببطءٍ.
من المرعب أن يدقّ باب منزلك أشخاص غرباء تعلم أنهم قادمون ليقتلوك، وأنت عاجز حتى عن الفرار. يسألونك بعض الأسئلة ويسخرون من أجوبتك ويستمتعون بإهانتك ورؤية الرعب والعجز والذلّ الذي أنت فيه قبل قتلك.
منذ عام 2011، وفي كل مرة حاولت فيها النجاة بشكل فردي، كنت أفشل، وكان هناك شيء ما يموت في داخلي، فما حدث منذ عشرات السنين، وما زال يحدث حتى الآن من مجازر وعنف وتعذيب في بلادي، أصابني بالعطب على الصعيد النفسي والإنساني، وأظنّ أنه من الصعب عليّ نسيان هذا الألم السوري الطويل، والتظاهر بأنني شخص معافى.
ألم السوريين مثل الذكريات الجميلة؛ من الصعب أن يُنسى، برغم ذلك أظنّ أن الحب والعناق والتسامح يمكنها معالجة هذا الألم. لا أذكر من قال: افتح يديك إن أردت أن يحضنك شخص ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ 4 أيامA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ أسبوعترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ أسبوعOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...