شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الناجون من المجزرة تقتلهم ذاكرتهم كل يوم

الناجون من المجزرة تقتلهم ذاكرتهم كل يوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 29 أبريل 202510:55 ص

منذ طفولتي وحتى الثامنة عشرة من عمري تقريباً، لم أشعر بأيّ مشاعر لها علاقة بعدم الأمان إلا في حالات قليلة وبالحدّ الأدنى، والسبب الجوهري في ذلك هو أبي الذي كان يوفّر لي الحماية والأمان على المستويات كافة بقوةٍ لا مثيل لها. برغم ذلك -وكغالبية الذكور- بدأت تدريجيّاً، وبملء إرادتي، بالتخلّي عن تلك الحماية والوصاية الأبويّتين. هذا التخلي جعلني أشعر بالقلق والخوف؛ قلقٌ وخوفٌ ممزوجان بالحريّة والاستقلال والرغبة في خوض تجربتي الخاصة. 

"الأمان والطمأنينة في سوريا"

حين غادرت القرية بهدف إكمال دراستي في المدينة، صارت لديّ علاقات وصداقات جيدة مع أبناء المدن، ودخلت عالم القراءة والسينما والكتابة، ومع الوقت أدركت أنّ الحياة فيها الكثير من المخاطر، وأنّ العيش تحت وصاية أبي كان أكثر طمأنينةً. برغم ذلك بقيت مصرّاً على التخلي والتحرر من تلك الوصاية والحماية الأبويّتين.

في عام 2008، أسست مع صديقي بريء خليل، "مقهى قصيدة نثر" في اللاذقية، الذي استضاف عدداً من الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية، وكان الشعراء والأدباء الذين استضافهم المقهى معروفين بغالبيتهم بمواقفهم وآرائهم السياسية المعارضة للنظام في تلك الفترة، وقد تم استدعائي وصديقي مرات عدة من قبل الأجهزة الأمنية بسبب نشاطات المقهى بشكل عام، واستضافتنا لهؤلاء المعارضين بشكل خاص. ما حدث معي خلال استدعائي جعلني أتأكد من أنّ الشعور بالأمان والطمأنينة في بلدي سوريا، مجرد كلام وأوهام. في تلك السنوات، ظننت أنّ شعوري بعدم الأمان والطمانينة قد بلغ ذروته.

بعد السادس من آذار/ مارس 2025، وما حدث فيه وبعده ببضعة أيام من مجازر في أحياء الساحل السوري وقراه، أدركت أنّ كل مشاعري بعدم الأمان خلال السنوات الماضية لم تكن قد بلغت ذروتها بعد. 

بعد السادس من آذار/ مارس 2025، وما حدث فيه وبعده ببضعة أيام من مجازر في أحياء الساحل السوري وقراه، أدركت أنّ كل مشاعري بعدم الأمان خلال السنوات الماضية لم تكن قد بلغت ذروتها بعد. 


أظن أنه من الصعب جداً على أي كاتبٍ أو سينمائيّ أن يجد تعبيراً يصف بدقّة المشاعر والأحاسيس التي يشعر بها شخصٌ يجلس في بيته مع أسرته، وجميعهم عاجزون عن فعل أي شيء سوى انتظار أبشع أشكال الموت وأقساها.

الفيديوهات التي كنت أشاهدها، والقصص التي سمعتها حول القتل والتنكيل والإذلال الذي تعرّض له العلويون، جعلتني أتخيّل عدداً من السيناريوهات المرعبة لموتي بتهمة أنني علوي، وهذا بدوره دفعني للتفكير والبحث عن طرقٍ كي أنجو مع أسرتي من الموت. بعد تفكيرٍ طويلٍ، اكتشفت أنه توجد طريقة واحدة فقط لنجاتي، وبشكلٍ فرديٍّ بعيداً عن عائلتي؛ الهرب إلى البراري والاختباء فيها.

أعيش في منزلٍ ريفيٍّ مع أبي وأمي اللذين يبلغان من العمر أكثر من 87 عاماً. أمّي لديها كسر في حوضها، وأبي مريض بـ"ألزهايمر". تعيش معنا في المنزل ذاته أيضاً، أختي الأرملة، واثنتان من بناتها، ومما لا شك فيه أنه من المستحيل أن يكون في استطاعتي إنقاذهم جميعاً من الموت أو النهب والسرقة والإذلال، لذلك سيكون عليّ الاختيار في حال جاء القتلة إلى قريتنا، بين البقاء مع عائلتي والموت أمامهم، أو الهرب بشكلٍ فرديٍّ إلى البراري والاختباء فيها.

بعد تفكيرٍ ونقاشٍ مع العائلة، وبتشجيع منها، قررت أن أهرب وحدي؛ لأنّ الذكور مستهدفون بالقتل والتنكيل بهم أكثر بكثير من النساء وكبار السنّ والأطفال. قررت أن أهرب وحدي؛ لأنني كنت واثقاً من عجزي عن فعل أي شيء لعائلتي في حال بقيت معهم. نعم، قررت أن أهرب مثل أي حيوان يهرب حين يهاجمه مفترسٌ ما. قررت أن أهرب لأنني كنت واثقاً من أنّ كرامتي ستهان وسأُذلّ، وإنسانيّتي ستُسحق، وقد أُذبح بدلاً من قتلي بالرصاص لأنني علويٌّ. قررت أن أهرب وأنجو وفي بالي سؤال: هل سأكون ناجياً في حال قتلوا عائلتي؟

قررت أن أهرب لأنني كنت واثقاً من أنّ كرامتي ستهان وسأُذلّ، وإنسانيّتي ستُسحق، وقد أُذبح بدلاً من قتلي بالرصاص لأنني علويٌّ. قررت أن أهرب وأنجو وفي بالي سؤال: هل سأكون ناجياً في حال قتلوا عائلتي؟

قراري بالهرب وترك عائلتي لم أنفّذه على أرض الواقع حتى هذه اللحظة، لأنّ القتلة لم يأتوا إلى قريتي بعد، إلا أنه جعلني أشعر بالذلّ والعجز وتأنيب الضمير. برغم ذلك أعدّ نفسي شخصاً محظوظاً لأنني لم أضطر إلى تنفيذ هذا القرار، فلو جاء القتلة وهربت، سأحتاج إلى وقتٍ طويلٍ كي أتعافى من فكرة أنني تركت عائلتي حتى لو لم يقتلوا أيّ فردٍ منها، وفي حال تم قتل أحدهم فأظنّ أنّ الوقت الطويل لن يجعلني أتعافى من العطب والأذى النفسيين اللذين سيصيبانني. لم أضطر إلى تنفيذ هذا القرار، لكنني حتى الآن ما زلت ألوم نفسي لأنني كنتُ سأنفّذه عند الضرورة. 

"البشر أخطر من الزلزال"

حين حدث الزلزال في سوريا يوم 6 شباط/ فبراير عام 2023، وبالرغم من أنّ منزلنا كان قديماً ومتصدعاً قبل ذلك وأصبح العيش فيه خطراً بعده، لم أترك والدَيّ العاجزين، ومن دون تردد اخترت البقاء معهما في المنزل، ووضعت خطةً في حال تكرر الزلزال لكيفية تعاملي مع الأمر. وقد تولّد لدي شعورٌ قويٌّ بأنني قادرٌ على إنقاذ نفسي وإنقاذ والدَيّ، لكنني في 6 آذار/ مارس 2025، قررت أن أتركهما لأنه لم يكن لديّ أيّ أمل في أنني سأنجو من الموت.

الزلزال الذي لا يمكن التنبؤ بلحظة حدوثه وبقوّته المدمّرة، كان أقل خطراً ورعباً بالنسبة لي من هؤلاء القتلة.

في كل مرةٍ أشاهد فيها فيديوهات عن الافتراس في الحياة البرّية، أتساءل: تُرى بماذا يشعر الضبع مثلاً عندما يفترس غزالاً صغيراً أمام أمّه؟ هل يشعر بالنشوة لأنه أشبع غريزة القتل والافتراس لديه؟ هل يشعر بالأمان وراحة البال بعد أن أشبع غريزة الجوع لديه؟ في الوقت نفسه كنت أفكر في شعور الغزال الذي يموت ببطء بين فكّي الضبع، وفي أمّه التي تشاهده من بعيدٍ وهي عاجزةٌ عن فعل أي شيء له. الآن أصبحتُ قادراً على فهم مشاعر الخوف والرعب والعجز التي تشعر بها الحيوانات المتعرّضة للهجوم والقتل بوحشية. لكنني أشعر بالعجز عن فهم ما يشعر به الإنسان حين يقوم بقتل إنسان آخر.

الهاربون من الموت في الساحل السوري ليسوا جبناء؛ هم ببساطة لا يريدون الموت، لا يريدون أن تبقى جثثهم في العراء دون أن تُدفن، لا يريدون أن يموتوا بصفتهم "علويين خنازير". الناجون من تلك المجزرة ما زالت توقظهم الكوابيس المرعبة في الليل، وتقتلهم ذاكرتهم كل يوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image