قال لي:

قال لي: "مارسي حريتك بعيداً عن طيـ*نا"... لكنني سأبقى هُنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأربعاء 14 مايو 202511:13 ص

هذه شهادة شخصية عن تجربتي مع الاختطاف في سوريا، على يد إحدى الفصائل المسلّحة التي تسيطر اليوم على البلاد، وتحكمها باسم الدين.  

في 20 شباط/ فبراير 2025، كنت في السيارة مع خطيبي حين اعترضتنا سيارة "سانتافيه" رمادية اللون. نزل منها ستة مسلحين، خمسة منهم ملثمون، وواحد بوجه مكشوف. سأل صاحب الملامح الواضحة خطيبي: 

-"مين هي اللي معك؟". 

-"خطيبتي". 

-"انزل من السيارة". 

وعندما سأله خطيبي عن السبب، أجابه: "استجواب روتيني".

طلبنا إثبات أنهم جهة أمنية، فأخرجوا بطاقةً شكليةً لا تتضمن اسماً أو جهةً، بل علم سوريا وشعار الشاهين فحسب. أنزلوا خطيبي وأجبروه على الصعود إلى سيارتهم بحجة الإجراء الروتيني، وبقي معي الكاشف عن وجهه، وبدأ باستجوابي لأكثر من ساعة: 

-"مين هاد؟". 

-"خطيبي".

-"ليش طالعة معه؟". 

-لم أُجِب. 

-"من وين أنتِ؟. 

-"إدلب". 

-"شو دينك؟". 

-"مسلمة". 

-"علوية أنتِ؟".

-"لا، سنّية". 

-"كيف سنّية ومن إدلب ومو محجّبة؟". 

-لم أُجِب.  

أسئلة عامة وشخصية، عن عملي، أين أعيش، كيف تعرفت إلى خطيبي... إلخ. 

طلبوا إثبات أننا مخطوبان، لكن من عاداتنا ألا يُعقد القران حين الخطبة، بل قبل الزواج بأيام. لذلك أخبرناهم بأننا لا نملك عقد قران.

هذه شهادة شخصية عن تجربتي مع الاختطاف في سوريا، على يد إحدى الفصائل المسلّحة التي تسيطر اليوم على البلاد، وتحكمها باسم الدين.  

 

طلب مني العنصر أن أنزل من السيارة وأتوجه معهم إلى سيارتهم. رفضت النزول من السيارة خوفاً، ففتح بابها عنصر آخر، وشدّني بالقوّة إلى سيارتهم. صادروا هواتفنا وبدأوا بتفتيش كل شيء: المحادثات، الصور، والملاحظات. سألوا خطيبي عن صورة كل فتاة في هاتفه، وسألوني عن صورة كل شابّ في هاتفي. أخبرناهم بأنّ الصور شخصية، وأن أمّي وأختي محجبتان، وكذلك أمّ خطيبي وأخواته، لكنهم سخروا منّا وقالوا: "إذا خطيبتك مو محجبة فمو مشكلة نشوف أهلكم".

في أثناء تفتيشهم هاتفي، كانت والدتي تتصل مراراً. طلبت من العنصر أن يجيب عليها ويتأكد منها بنفسه إن كنت مخطوبةً أو لا، لكنه لم يُجِب. 

عندما اكتشفوا أنني أكتب من خلال الملاحظات، قالوا لي: "أنتِ من جماعة الحرية وحقوق الإنسان"، وضحكوا. سألناهم: "رايحين على المخفر؟"، فصرخوا: "لا، رايحين على المقرّ، نحنا ما عنّا مخافر". أمرونا أن نُبقي رأسينا منخفضَين، وهدّدونا بالقتل إن رفعناهما. وبسبب ذلك لم نعرف إلى أين نُقلنا.

في السيارة التي كنّا فيها، رافقنا ثلاثة عناصر، أما السيارة الأخرى، "سيارتنا"، فقادها ثلاثة عناصر منهم أيضاً. طوال الطريق، لم يتوقف الصفع والتهديد: "منعدمن هون؟ لا، مناخد رأي الشيخ بالأوّل"، "لو كنتِ أختي كنت دبحتك"، "كيف طالعين بدون عقد عقران؟ وين مفكرين حالكم؟". 

برغم توسّلاتنا إليهم لتوضيح تهمتنا وتركنا وشأننا، إلا أن جوابهم كان "بالمقرّ بتعرفوا". 

وصلنا إلى المقرّ، وهو فناء ترابي معتم بلا إضاءة. أنزلوني من سيارتهم إلى سيارة خطيبي، ثم تركوني مع عنصرين، بينما قيّدوا خطيبي وغطّوا عينيه، وكان الضحية الأكبر. انهالو عليه ضرباً بلا توقف، وأنا أسمع صوته وهو يصرخ. لم أكن قادرةً على فعل شيء سوى أن أعدّ الثواني في داخلي، وأنا أبكي وأنطق الشهادة. 

طلب مني العنصر أن أنزل من السيارة وأتوجه معهم إلى سيارتهم. رفضت النزول من السيارة خوفاً، ففتح بابها عنصر آخر، وشدّني بالقوّة إلى سيارتهم. صادروا هواتفنا وبدأوا بتفتيش كل شيء: المحادثات، الصور، والملاحظات. سألوا خطيبي عن صورة كل فتاة في هاتفه، وسألوني عن صورة كل شابّ في هاتفي.

أما أنا، فكان نصيبي صفعات متكررةً؛ استهدفوا وجهي ورأسي، وكانوا يعلمون بأنني أجريت عمليةً جراحيةً لأنفي قبل أسبوع فقط، وقد أخبرتهم بالأمر، لكن ذلك بدا وكأنه دافع إضافي لهم لمضاعفة الضربات هناك. ثم ألقوا بنا في الخلاء، دون هواتف، دون مال، ودون أي شيء. قال لي أحدهم وهو يصفعني آخر صفعة على وجهي: "روحي مارسي حريتك بعيداً عن طيـ*نا"، وهددني: "إذا رفعتي راسك رشّيناكي".

بعد رحيلهم، بقينا للحظات مشوّشين ومصدومين نحاول استيعاب ما حصل. قررنا التوجه إلى أقرب نقطة أمنية، وهي قيادة الشرطة. مشينا مسافةً ونحن مغطّيان بالدمّ والتراب.

استقبلنا الحرس وحاولوا فهم ما جرى، لكن سرعان ما قاطعهم شخص يُلقّب بـ"الشيخ". فور سماعه القصة، انهال علينا بالشتائم والكلام القاسي، واتّهمنا بالخلوة غير الشرعية. لم يُبدِ أي تعاطف، بل عدّنا مذنبَين بسبب وجودنا معاً في السيارة، وتجاهل كل ما تعرّضنا له.

نعت خطيبي بالخنزير، أما أنا فلم يقُل لي سوى: "وليك". 

التقط لنا صوراً ولم أفهم سبب ذلك. 

أمرني بالذهاب إلى المنزل وحدي بالتاكسي، وإحضار "محرم" لأرافقه إلى المخفر لاحقاً، وطلب من خطيبي أن يذهب وحده. أبلغته بأنني لا أملك مالاً لأنني تعرّضت للسرقة، فقام برمي أربع ورقات من فئة الـ2،000 ليرة في وجهي، وقال: "هاد الخنزير كتير عليكي"، مشيراً إلى صورة بشار الأسد المطبوعة على الورقة.

افترقنا مؤقتاً ثم اجتمعنا في المخفر.

في السيارة التي كنّا فيها، رافقنا ثلاثة عناصر، أما السيارة الأخرى، "سيارتنا"، فقادها ثلاثة عناصر منهم أيضاً. طوال الطريق، لم يتوقف الصفع والتهديد: "منعدمن هون؟ لا، مناخد رأي الشيخ بالأوّل"، "لو كنتِ أختي كنت دبحتك"، "كيف طالعين بدون عقد عقران؟ وين مفكرين حالكم؟". 


هناك، تم التعامل معنا بشكل أكثر مهنيةً من قبل بعض العناصر، حيث بدأوا بأخذ الإفادات والشهادات بطريقة هادئة ومنظمة، حتى أن عنصراً منهم قدّم لي حبة مسكن للألم وماء. لكن عنصراً واحداً لم يُخفِ استنكاره، وقال لي: "كيف طالعة معه لحالكن؟ مفكرة حالك بأوروبا؟". لم أُجِب. كنت منهكةً نفسياً، وأردت أن أُسمع فحسب، لا أن أُدان.

بعد ثلاثة أيام، اتصل المخفر بنا وأخبرنا بأنهم تمكّنوا من إلقاء القبض على ثلاثة من العناصر المتورطين. وعندما ذهبنا للتعرف إليهم، تأكدنا أنهم بالفعل من الأمن العام، بعد أن كنّا معتقدين أنهم منتحلو صفة أمنية. علمنا لاحقاً أنهم تابعون لفصيل متشدد، وتمّت إحالتهم إلى المحكمة.

كنتُ أعيش حياتي كأي فتاة في عمري، مسلمة، غير محجّبة، ومخطوبة لرجل أحبّه. خرجنا معاً في نزهة بسيطة، نحمل أحلاماً صغيرةً بمستقبل مشترك. لم يخطر ببالي أنّ هذه التفاصيل العادية قد تُعدّ جريمةً في نظر من اختطفونا! 

"خلوة غير شرعية"؛ هكذا وصفوا وجودي مع خطيبي، وهذه هي تهمتنا. لم يروا في الأمر علاقةً جديةً أو نية الزواج، بل ذريعة كافية لسحلنا معنوياً وجسدياً. عدم ارتدائي الحجاب جعلني "مرتدّةً" بنظرهم، وكأنّ جسدي بات مباحاً للعقوبة، فقط لأنني لا أبدو كما يريدون. لم يكن مهماً إن كنت أُصلّي، أو نشأت في بيئة متديّنة، أو أنني أؤمن بديني؛ ما يهمّ هو أنني لا أتماهى مع صورتهم النمطية للمرأة "المقبولة".

ما مررتُ به لم يكن مجرد توقيف، بل إهانة ممنهجة. كان درساً قاسياً في مكان تُقاس فيه الأخلاق بقطعة قماش أو بعقد قران، وتُصنّف فيه النساء بين "شريفات" و"مستباحات". شعرتُ كيف يمكن لسلاحٍ أن يُحوّل الحب إلى تهمة، والحرية إلى جريمة.

كنتُ أعيش حياتي كأي فتاة في عمري، مسلمة، غير محجّبة، ومخطوبة لرجل أحبّه. خرجنا معاً في نزهة بسيطة، نحمل أحلاماً صغيرةً بمستقبل مشترك. لم يخطر ببالي أنّ هذه التفاصيل العادية قد تُعدّ جريمةً في نظر من اختطفونا! 


هذه الحادثة لم تكن حالةً شاذةً، بل هي مجرد تفصيل صغير في لوحة أكبر من الانتهاكات اليومية التي تُرتكب باسم "الأمن"، و"الحياء"، و"الشرف"، و"القانون". في تلك الليلة، اختُطفت مرتين: مرة جسدياً، ومرة معنوياً، حين تم تشويه وجهي، وطعن كرامتي، وتمت استباحة أفكاري.

لم يكن خطفي متعلقاً بتوقيف عشوائي فحسب. كان درساً. كان محاولةً لإذلال من يجرؤ على التفكير بصوت عالٍ، على الكتابة، على ممارسة حريته، أو حتى ممارسة حياته بشكلٍ طبيعي.

لا أطلب شفقةً، ولا أكتب من باب استدرار العاطفة. أكتب لأنّ الكتابة، التي أرادوا دفنها، هي ما أعادني إلى الحياة. أكتب لأنّ صراخ خطيبي ما زال في أذني، ولأنني ما زلت أتحسّس أنفي الذي نزف حين ضُرب عمداً، برغم الجراحة. أكتب لأنني مؤمنة بأنّ الشهادة ليست في الموت فحسب، بل في أن تقول: "لقد حصل هذا" في وجه من يريد إنكار كل شيء. 

ولن أمارس حريتي "بعيداً عن طيـ*هم". بل سأمارسها هنا، بصوت عالٍ، وأكتب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image